بين مئات الكتب المستعملة التي تباع بأسعار قليلة على عربة، وجدتُ هذا الكتاب. لفتني في البداية غلافه المركب الذي صنعه رشيد قريشي من عناصر زخرفية شرقية تتوسطها رموز الأديان الثلاثة؛ نجمة داوود والصليب والهلال، لكن محرق الأفكار تركز بالتأكيد على عنوانه "شرق أوسط قريب جداً، كلام عن السلام" وموضوعه، وتاريخ نشره في نهاية العام 2001، وكذلك الغاية منه إذ أفادت محررة الكتاب جويل لوسفيلد Joëlle Losfeld في غلافه الأخير بأنه يهدف "إلى تقديم بديل يفشل السياسيون وغيرهم من المحللين في تقديمه. وفي وضع ميؤوس منه، يعبّر
مئة مؤلف عن أنفسهم بطريقة تتيح لنا سماع ثورتهم، وخوفهم، وغضبهم، وتاريخهم... متخلين عن قيود الأيديولوجيات لصالح تفكير فريد وجديد. ليقدموا فسيفساء من وجهات النظر، بعيداً من الوضع الراهن، تعالج مشكلة عالمية: لماذا الحرب؟".
أسماء لامعة في المشهد الثقافي العالمي، شاركت في التدوين هنا، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الراحل محمود درويش والمفكر جاك دريدا والفيلسوف جان بيير فاي والروائية هدى بركات، والروائي نديم غورسيل، والباحث مارسيل فرنسيس كوهن، والفنان سيغال إيشد، والممثلة هيام عباس، والشاعر عبد القادر الجنابي، وروني سوميك، والكاتب إلياس صنبر، والمسرحي وجدي معوض والشاعر صلاح ستيتية، وغيرهم.
وقد أطّرت محررة الكتاب ووقعت باسم "سافو" كلمات هؤلاء، في مقدمة ربطت فيها بين اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرييل شارون المسجد الأقصى بحماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة، وهو ما فجّر الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وبين ضرورة ألا يصمت المبدعون عن أفعال الظلم التي يصنعها مثل هؤلاء السياسيين: "لقد غيرتني هذه المغامرة، إذ إنني سأعوي أقل مع الذئاب. لقد رأيت رغبة رهيبة بإشعال الحرب ترتسم باسم الحق. لكنني هل كنت سأمتنع عن الاحتجاج لأجل هذا؟ طبعاً لا. سأحاول بكل قوتي وما يسمح لي به قلبي وذكائي بألا أخطئ في معرفة عدوي. لمصلحة من ستكون هذه الحرب؟ سؤال يجب أن نتذكره دائماً، لكي نخرج من دائرة الكراهية المجانية. ومع ذلك فإن هذا الظلم اليومي الذي يمارسه الأقوى والذين يرى نفسه مساوياً للأضعف وللأصغر، على كل واحد منا أن يأخذه بالحسبان، بالرغم من الخوف الذي يعترينا إذ يراودنا عنف أنفسنا. فالحق ليس له لون وليس منحازاً. حق الانسان. هذا ما علّمني إياه أهلي اليهود".
عديدة هي التجارب المشابهة لهذا الكتاب الذي يجمع مساهمات تتمحور حول ثيمة السلام، ومثلها لقاءات ازدهرت منذ انطلاق العملية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أوسلو، وغالباً ما كانت تستعيد السؤال ذاته الذي ينتهي به تقديم الكتاب المذكور!
لكن ما تم بذل الجهد من أجله، ورغم كل النبل والاكتراث الذي يميز أصحابه، وهذا الكتاب مثال لهذا، كثيراً ما كان ينتهي إلى حال يشبهه، فيغيب عن الواجهة ويُترك في مكان ما، كزاوية بعيدة في رف مكتبة عامة أو شخصية، أو مرمياً على بسطة لبيع الكتب المستعملة، أو في أرشيف مسطّر في صناديق مرتبة فوق بعضها، حيث يصبح من الصعب العثور عليه.
المنتهى الذي آلت إليه محاولات المثقفين لردم الهوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكذلك نصوصهم التي أشتغل عليها في هذا السياق، تمر بالمراحل ذاتها، فهي تندلع من لحظة الحرب، وتطرح الأسئلة حولها، كما أن الأجوبة لا تتلكأ، فهي تأتي سريعاً. فطالما أن الاحتلال ما برح حاضراً، تنهض مفاعيله بين الكلمات، من دون أن تخطئها عيون القراء أو المشاهدين، ستبقى الظروف مهيأة دائماً لاشتعال النار، وهبوب العواصف المدمرة.
على أرض الواقع، لن تستطيع مساهمات الكتّاب المئة أن تمر على الوقائع المتراكمة منذ أن تم الترويج للسلام نظرياً وسياسياً وثقافياً أيضاً، من دون أن يُنظر في الحيثيات التي نتجت في الظل، وسط اعتقاد العالم بأن أزمة الشرق الأوسط انتهت عبر التوقيع على الوثائق القانونية للعملية السلمية، وسينتهي الحال بضرورة إصلاح الفكرة التي يروج لها ناشرو هذا الكتاب وغيره، من أن الأدب والثقافة يمتلكان القدرة السحرية التي لا تتوافر لدى السياسيين والمحللين على تقديم البديل.
تبدأ المشكلة من الواقع السياسي والميداني والعسكري، حيث تغيّب القنابل والقذائف، حيوات البشر، فيصاب مراقبون، ومن بينهم المثقفون، بالعجز. ويحاولون أن يتخطوا هذا الواقع، فيذهبون إلى بناء تصورات، يظنون أنها تؤهلهم لأن يضعوا بصمة ما وسط اللوحة القاتمة. لكن ما يتم إنشاؤه خلال حدوث الواقعة، ينتهي إما جزءاً من الطَّرق على طبول تشجيع القاتل على ارتكاب المزيد من الجرائم، وإما تكراراً للنصوص والقصائد التي تشيد بالمقاومين، وتدعوهم إلى الصمود.
وبالتأكيد لن تنتهي القصة حتى بعد أن تصمت المدافع والبنادق. فيكتب آخرون في أمكنة بعيدة، أسئلة عن الحرب في معادلة مجهولة الأطراف، تجعل القصة مجرد حدث يجري في مكان بعيد.
وسط غياب التركيز، وهو التوصيف الذي يسم نمط السلوك الذي نتبعه في أيامنا هذه، بعدما جعلتنا وسائل التواصل الاجتماعي أسرى السهولة والخفة، يفكر كثيرون بحدة ونزق في دور الثقافة والأدب حيال المعركة/المجزرة، ويشرعون في وضع خططهم من دون هدي، فينكشون من أراشيف الإبداع نصوصاً كتبت في أوقات متباعدة. وتبلغ الجرأة بالبعض حدها الأعلى، فيطلبون من شعراء وكتّاب أن يكتبوا مساهمات تحكي عما يجري، وينشرون ما سطّره هؤلاء في الصفحات الثقافية.
ويكتشف القارئ المدقق بأن القرائح لا يكرر بعضها بعضاً فحسب، بل إنها تبدو مهزومة بذاتها، طالما أنها بلا ألق، مشغولة على عجل، لتسد فراغاً في ركن وسيلة إعلامية ما، وبدلاً من أن تنصر الضحايا الذين تهرسهم ماكينات الهمجية الحربية، تراها تضعهم في صيغة بضاعة يومية يجب أن يتناولها المستهلك/القارئ.
ويسأل قارئ تشغله مشاهد الضحايا المتكاثفة: لماذا هذا الإصرار على وضع الشعر ومن خلفه الأدب، في واجهة الحدث الراهن على جبهة الثقافة؟ وفي زحمة العواجل التي تحكي عن الموت، لن يعثر على جواب، وربما ستنسيه صور الأطفال القتلى الأمر كله، فهي وحدها تكفي للتعبير. وربما تنفع هذا القارئ المعرفة بأن الحساسية التي تنتج أصدق الشعر وأبلغ الكلمات إنما تصنع ذلك كله في مختبر داخلي هادئ، فترى في جدران المرايا المتقابلة ما هو أبعد من المتاح والمعلّب والمرمي على قارعة الكارثة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها