الإثنين 2023/01/09

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

"ضوضاء بيضاء" لنواه بومباك.. من مِنّا سيموت أولاً؟

الإثنين 2023/01/09
"ضوضاء بيضاء" لنواه بومباك.. من مِنّا سيموت أولاً؟
كيف تؤفلم رواية تعالج العلاقة المضطربة بين الأصل ونسخته؟
increase حجم الخط decrease
الأسرة هي مهد المعلومات المضللة في العالم. لا بد أن هناك شيئاً في الحياة الأسرية ‏يولّد أخطاءً واقعية. (...) يسألني لماذا توجد أقوى الوحدات الأسرية في أقل المجتمعات نمواً. (...) الأسرة تكون أقوى ما يمكن حيث من المرجّح أن يُساء تفسير الواقع الموضوعي. قلت، يا لها من نظرية بلا قلب.
- دون ديليلو، "ضوضاء بيضاء".

مع كل تكييف سينمائي لواحد الأعمال من الأدبية الكلاسيكية، تحضر التوقعات المسبقة والتكهنات، وتتفاعل لاحقاً مع النتائج المنجزة. يمكن أن تسير الأمور على ما يرام، كما هو الحال مع ستانلي كوبريك و"باري ليندون". يمكن أن يخرج الأمر بنتيجة لا تثير الجدال، كما هو الحال مع  لور دي كليرمون تونر و"عشيق الليدي تشاترلي". أو يمكن أن يكون مزعجاً ببساطة، كما في حالة نواه بومباك وفيلمه الأخير "ضوضاء بيضاء"(*) المقتبس عن رواية بالعنوان ذاته لدون ديليلو.

لسنوات، اعتُبرت "ضوضاء بيضاء"، الصادرة في العام 1985، مثل روايات الأميركي الآخر توماس بينشون، غير قابلة للأفلمة؛ لكن بول توماس أندرسون أوضح بفيلمه "خطيئة متأصلة" (2013) – المقتبس عن رواية لبينشون- أن مصطلح "غير قابلة للأفلمة" تعبيرٌ مرن للغاية ويمكن اللعب معه للخروج بثمار مثيرة للاهتمام. وقد أشار بومباك في المقابلات الصحافية إلى أنه أعاد قراءة رواية دون ديليلو، بعد قراءة أولية لها في فترته الجامعية، قبل أيام من انتشار جائحة كورونا، وأُخذ براهنية رواية ديليلو (وإمكانية تصويرها) لدرجة أنه لم تعد هناك إمكانية للتراجع عن مسعاه.

هذا يرجع في المقام الأول إلى موضوعين أساسيين يجعلان رواية ديليلو مثيرة للاهتمام وعلى صلة بحاضرنا، ويموضعهما بومباك أيضاً في مركز فيلمه: الأول هو ذلك "الحدث السام المحمول جواً"، المتجسّد في الرواية بغيمة سوداء تنذر بكارثة بيئية تدفع بلدة صغيرة بأكملها إلى النزوح الجماعي والجنون، والتي بدورها وقبل كل شيء، تفضي إلى الموضوع الثاني، أي مساءلة جنون الاستهلاك في المجتمع الأميركي. يتجسّد هذا في جاك غلادني (آدم درايفر). جاك أستاذ تاريخ وخبير في دراسات أدولف هتلر، رغم أنه لا يفهم اللغة الألمانية ولا يتحدثها. يمرّ هو وزوجته الرابعة بابيت (غريتا غيرويغ)، التي مرّت أيضاً بطلاق واحد على الأقل، بالجنون الأسري المرقّع المعتاد، والذي لا تعززه فقط حقيقة أن الأطفال أكثر قدرة من والديهم على التعامل مع الأزمة، لكن جاك وبابيت يعانيان أيضاً من قلق الموت العصابي الذي يدفع كل منهما للتساؤل وهما يتهيّئان للنوم "من منّا سيموت أولاً؟".

في ضوء المعطيات السابقة، من السهل استدعاء (والإشارة إلى) التفكك الاجتماعي خلال أزمة كورونا، إلا أن بومباك يصرّ ويلحّ علي تحويل فيلمه كوميديا غروتسكية خالصة. لكن رواية ديليلو الثامنة، التي لم يحقق من خلالها انطلاقته كمؤلف فحسب من خلال الفوز بجائزة الكتاب الوطني، وإنما كان لها أيضاً تأثير نافذ في مؤلفين مثل ديفيد فوستر والاس، وجوناثان ليثيم، وجوناثان فرانزن، وديف إيجرز، ومارتن أميس، وزادي سميث، وريتشارد باورز؛ كانت، بالطبع، مثل كل الروايات العظيمة، أكثر من مجرد نقد للنزعة الاستهلاكية والتفكك الأسري بعد كارثة من صنع الإنسان، فهي أيضاً نصّ عن التفكير التآمري والعلاقة المضطربة بين الأصل ونسخته والانحلال الأكاديمي وتغريدة بجعة للتديّن وموقعه العظيم في العالم الأميركي والجماعة البشرية عموماً. موضوعات أُخذت جميعها على محمل الجدّ بنفس القدر ونوقشت كذلك بالتفصيل في حوارات ومونولوجات فلسفية مطوّلة وقوية، كما هو موضّح في الاقتباس الافتتاحي.


يسحب بومباك كل ما يحبّه من هذا الخليط ويعيد مزجه بذلك الأسلوب الترابطي الذي صقله بشكل متزايد في جملة أفلامه من "فرانسيس ها" إلى "قصة زواج". إلا أن تلك الأفلام بُنيت على نصوص بومباك الخاصة، وتضمّنت لحظات ذاتية وسيرية كثيفة من الناحية العاطفية ومن حيث ديناميات المجموعة، أما هنا فيعتمد المخرج بالكامل على نصّ ديليلو وقراءته وفهمه له. هذا الشقّ، خصصاً عبر ممثليه الرئيسيين آدم درايفر، الذي كان محورياً في "قصة زواج"، وشريكة بومباك الحالية غريتا غيرويغ، التي أدّت دوراً رائعاً في "فرانسيس ها"؛ يبدو مألوفاً في البداية، لا سيما في ما يتعلّق بمشاهد الأسرة النووية، بمشابهتها إلى حدٍ كبير الطابع الأميركي العصابي الذي داوم بومباك عليه في أفلامه وعزّز به هويته السينمائية، ليذكّرنا دوماً، ولو قليلاً، بـ"وودي آلن جديد".

لكن هذه المرة، يدير بومباك ظهره للنهج الحميمي الذي جعل أفلامه الأكثر شهرة ذات قيمة كبيرة، لينخرط في مغامرة محفوفة بالمخاطر في إنتاج ضخم يعتمد على نصّ يُعدّ غير قابل للاقتباس. والنتيجة؟ سرعان ما يفقد بومباك تركيزه وسيطرته على عناصره، لأنه بطريقة ما يريد استيعاب ديليلو بالكامل عبر مزيج من الكليشيهات السينمائية: يُلقي بمشاهد جامعية صاخبة بجوار نهاية عالم قاتمة، ويصمّم بانوراما من التوحشّات العاطفية عبر شخصية أرلو شيل (لعب الدور بمهارة لارس إدينغر)، وعلاقته الغرامية مع بابيت، التي لا يمكن هضمها حتى بمعايير عقول الأطفال. ما يجمع رواية ديليلو المعقّدة معاً هو تجريبها اللغوي، ولعبها مع المونولوجات والحوارات، ومراوحتها بين تشديدٍ وتفريطٍ ساخرة بقدر ما هي ناقدة للحاضر المُعاش.

أما بومباك فيفشل في تجميع أي شيء على الإطلاق، كما إنه لا يترجم بشكل كاف منظور جاك ونقده الاجتماعي الأساسي من منظور سينمائي. تظهر شظايا سرده بشكل واضح في خليط من الاقتباسات التاريخية التي أصبحت غامضة بشكل متزايد، تتلاشى فيها إشارة بومباك المهمّة إلى الحاضر أكثر فأكثر وتصبح القصة مملّة: لأنه فضلاً عن أن نقد ديليلو للأسرة يبدو الآن قديماً بعض الشيء، على الأقل منذ أغنية البجعة للعائلة الأميركية في "بريكينغ باد" وانتصار "عائلة" جديدة تماماً؛ فقد اتخذ النقد الإنترنتي، وحتى النقد الأكاديمي، اتجاهاً مختلفاً تماماً، خاصة في السنوات الأخيرة، مع سيادة ثقافة نقاش تهدف بشكل متزايد إلى الامتثال والمطابقة، وتجعل كل ما يظهر هنا يبدو قديماً وبلا أساس. كما أن حقيقة أن الأطفال هم آباء أفضل، ليست شيئاً جديداً ومضحكاً في هذه الأيام بالذات.

ما يتبقّى، في الأخير، محض جنون عارٍ صارخ، ذاك الذي يتبع الكوارث، والذي يجعله بومباك غريباً بما يكفي على غرار أفلام الكوارث القديمة في السبعينيات من أجل تحقيق الخلود الذي خلقه ديليلو من خلال لغته. أما جنون الاستهلاك الذي لا (ولن) ينتهي، فمن أجله يقوم بومباك بإعداد الصور والكلمات والموسيقى في مشهدٍ أخير مصمم بطريقة رائعة كنّا نتمنى أن يكون الفيلم بأكمله على منواله. وهكذا يصل الفيلم إلى لحظة ازدحامه الأخير، بعدما لم يعد قادراً على التوفيق بين قصصه. تتجاور الأفكار والأمزجة والأنواع الفيلمية جنباً إلى جنب، فيما الشيء الوحيد المشترك بينها هو الموت، الذي تسعى إليه، مثلما في كل حبكة/ مؤامرة. هذا ما قاله جاك غلادني في موضع ما في رواية ديليلو. قبل أن يتساءل لاحقاً عمّا يعنيه ذلك.

إذاً، فرغم ظهور فيلم "ضوضاء بيضاء" هذا، يبدو أن الرواية غير القابلة للأفلمة ستظلّ عصية على الشاشة. ربما، مثل "نساء صغيرات" من قبلها، ستتطلّب رواية ديليلو المُلغزة والمعقّدة العديد من الاقتباسات السينمائية قبل أن يروّضها أحدهم ويقدّمها بالشكل اللائق. تحدٍّ قادم لغريتا غرويغ؟

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها