الأربعاء 2023/01/04

آخر تحديث: 12:25 (بيروت)

"لائحة الطعام" لمارك ميلود.. كوميديا مرعبة عن الأكل والأثرياء

الأربعاء 2023/01/04
increase حجم الخط decrease
خلال السنوات الأخيرة، وبفضل اللوائح الطنّانة والحصرية والمكلفة بشكل متزايد لبعض المطاعم الفاخرة، أصبح التندّر عليها مزحة شائعة ورائجة ومقبولة. يحدث هذا في لبنان، كما في مصر، وغيرهما من بلدان تحوى أنواعاً مختلفة ومتنافرة من الوصفات والأطباق والتفاوتات الاجتماعية الحادّة. فيلم "لائحة الطعام"(*) لمارك ميلود يدخل إلى عالم أكثر حصرية وتعقيداً، مستقوياً بروح الكوميديا السوداء ونهج الهجاء الاجتماعي، لتقديم أطروحة فكرية أو طاولة طعام كل طبق فيها يشبه لكمة في المعدة.

في "هوثورن" يتقاضون 1250 دولاراً للزبون الواحد ويقدّمون عروضاً حصرية جداً. إنه مطعم في جزيرة بعيدة من كل شيء، ولا يمكن بلوغها إلا بواسطة قارب خاص، ولا يأكل فيه سوى 12 شخصاً. العشاء متنوع الأصناف، يعدّه الشيف سلويك (رالف فينس)، وهو طبّاخ ذائع الصيت ومتطلّب للغاية يعمل فقط مع المواد الموجودة في الجزيرة نفسها: الطحالب والنباتات والصخور والحيوانات، وكل ما على سطحها وفي بطنها. كل شيء غريب ومعقّد، وبالطبع، صغير. لكن يبدو أن الجميع يستمتعون بالاقتراح. أو هكذا يبدو.

مارغو (آنيا تايلور جوي) - الشابّة المرافقة لصديقها تايلر (نيكولاس هولت) والذي بدوره مهووس بالشيف سلويك وأساليبه - لا علاقة لها بهذا العالم من الأثرياء ومهووسي الطعام (سرعان ما يُكشف أنها حلّت متأخرة كبديلة لصديقة تايلر السابقة، والتي كان سيذهب معها في الأصل). كل هذه الأدوات تبدو سخيفة في عينيها. بالإضافة إلى هذا الثنائي، يتشكّل الـ12 "المختارون" لهذا العشاء من ثلاثة مديرين تنفيذيين في إحدى الشركات التكنولوجية (أرتورو كاسترو، روب يانغ، مارك سانت سير)، وأحد مشاهير هوليوود الذي تعاني مسيرته المهنية تدهوراً، مع مساعدته (جون ليغويزامو وإيمي كاريرو)، وناقدة طعام بارزة ومحرّرها (جانيت ماكتيير وبول أديلستين)، وزوجين من أصحاب الملايين الضجرين (ريد بيرني وجوديث لايت)، وامرأة عجوز يُكشف عن هويتها لاحقاً.

بعد جولة في الجزيرة حيث تُعرض عملية التحضير والمواد، وإلى حدّ بعيد، منزل سلويك الغامض، يبدو أن العشاء يسير بعادية، على الأقل ضمن هذا النوع المعيّن من الخدمة. صحيح، الشيف غريب الأطوار ويقدّم كل طبق مصحوباً بقصص وحكايات وتعليقات غريبة، لكن شوهدت أشياء أسوأ. الأطباق مبتكرة (أو شاذّة) بشكل يبعث على السخرية، لكنها ليست مستغربة في أماكن من هذا النوع أيضاً. وتكشف المحادثات بين رواد المطعم قليلاً عن هوية كل واحد منهم وما يفعله في حياته. حتى يُقدّم ذلك الطبق الذي يوضّح أن سلويك يخفي بعض الأسرار وأن لديه خطة لأولئك المجتمعين هناك. شيء من شأنه أن ينال عنواناً مثالياً يخصّه، لكن الكشف عنه سيُفسد مُشاهدة الفيلم للأسف، بما إنه واحد من تلك الأفلام التي ليس من الملائم تقديم الكثير عنها، لكن من الضروري التحذير من أن غرابة بعض الإشارات تنتهي بالسيطرة على الحبكة بسرعة كبيرة.

من هنا فصاعداً، سيصبح الفيلم أكثر قتامة ووعورة مع مرور الدقائق والأطباق، والتي تُقدّم مع بعض الشروحات المضحكة في الشاشة. تتضمّن الحبكة قضايا تتعلق بتاريخ كل شخصية (أو بعضها) والعلاقة التي تربطها بسلوك، لكن بمعنى أكثر عمومية هو أقرب لنظرة نقدية إلى عالم تذوّق الطعام، والرأسمالية الحالية، والاختلافات بين أولئك الذين يأكلون والذين يعملون/يخدمون، لتشكيل كوميديا ​​اجتماعية-اقتصادية غريبة بخصائص "بونويلية" تقريباً.


من قبيل الصدفة أو الترند أو الموضة، خلال الأشهر القليلة الماضية، شهد الإنتاج السمعي البصري (السينما والتلفزيون) وفرة نوعية في "قصص الطهي"، وهي القصص التي تحدث إلى حد كبير بين الأواني والمقالي والأفران، ولعل أبرز هذه الإنتاجات مسلسل "الدبّ"، الذي يقدّم صورة لمطعم صغير في ضواحي شيكاغو، والفيلم اللافت "نقطة الغليان"، حول محن وأزمات طاهٍ رفيع المستوى في مطعم حصري في لندن. "لائحة الطعام" شيء آخر، بعيد من التسجيل الواقعي لمسلسل كريستوفر ستورر وفيلم فيليب بارانتيني، على الرغم من أن نقاط الغليان وأوقات الطهي لها حضور مركزي في الحبكة هنا أيضاً.

في الفيلم الذي أخرجه مارك ميلود (مخرج المسلسلات المتمرّس، وأنجز أكثر من 12 حلقة من السلسلة الرائعة "خلافة" والعديد من ملحمة "لعبة العروش")، يتحول الأمر تصفية حساب مع الطبقة الثرية ومعاييرها المزدوجة، في مسرحية غرفة زاخرة بالفكاهة السوداء الخشنة وعناصر الرعب المرير والنغمات المقلقة. يُعزّز كل شيء من خلال موهبة الأبطال، خصوصاً فينس الشرير بشكل متزايد في قيادته ما يشبه "ثورة القصر" وتايلور جوي الحاسمة، التي تصبح غريمته. يضع ميلود "بانوبتيكون" اجتماعياً لهياكل القوة الاقتصادية والثقافية والسياسية العالمية الحالية على الطاولة هنا، والتي تكشف عن نفسها من خلال المحادثات بين أفراد كل طاولة وتجعل الاضطرابات الاجتماعية تبدو أكثر حتمية في لائحة الطعام.

على غرار الكوري بونغ جون-هو، وهو واحد من أساتذة النقد الاجتماعي في سينما القرن الحادي والعشرين، يعمل ميلود أيضاً على قلبٍ مفتوح، ويلقي قفزات مرعبة في القِدر نفسه بأشدّ الفكاهة سواداً، لكنه دائماً يوازن بذكاء بين الاثنين، وبالتالي يخلق طبقاً معقّداً لا يتوقف عند التفسير البسيط لمرتكب الجريمة، وإنما يذهب خطوة إلى الأمام، من خلال التركيز بشكل حازم ورصين على مسألة الضحية والسؤال عما إذا كانت الثورة كافية حقاً لتغيير العالم، وما إذا كان من الضروري أن يموت الثوّار أيضاً، وهل العبد يجب أيضاً أن يموت من أجل إنهاء العبودية، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لمنع هياكل السلطة الهرمية الداخلية على كلا الجانبين.


مثل آدم مكاي (وهو أحد منتجي مسلسل "خلافة" أيضاً)، يلفّ ميلود رسالته بترتيب سينمائي ملتمع، ليس فقط موضوعياً وإنما أيضاً جمالياً (كاميرا بيتر ديمينغ ممتعة حتى اللحظة الأخيرة). وأخيراً وليس آخراً، يقارب الطهي من أعماقٍ حِسّية (وهو ما أصبح ممكناً بفضل الدور الاستشاري للشيف الفرنسي دومينيك كرين الحائز نجمة ميشلان)، ويتمازج كل هذا معاً بشكل مثالي لدرجة نسيان الأخلاقية الحادة للقصة في هذه العملية، ليبقى المُشاهد، في النهاية، أمام تجربة ذاتية للتعامل ما لا يحبّ أحد الاعتراف به: أن كلاً منّا في النهاية قابل للفساد.

من ناحية أخرى، على الرغم من احتوائه لحظات مضحكة وأخرى بارعة، إلا أن الفيلم في بعض الأحيان يبدو ميكانيكياً إلى حد ما، مع بعض التناقضات في النصّ (هناك شخصيات ومواقف تعد بأن تكون مهمة وتختفي، وهناك ثقب أسود كبير في ما يتعلق بمواقف ودوافع مجموعة الطهاة الذين يعملون مع الشيف)، وبعض الملاحظات المستخدمة بالفعل، بالطريقة نفسها تقريباً، في أفلام أخرى شهيرة عن الطهاة والمطابخ.

تكمن المشكلة الرئيسية في السيناريو، الذي كتبه سيث رايس وويل تراسي، في صعوبة حفاظه على التشويق بمجرد أن تبدأ حقيقة سلويك في أن تصبح شفافة مثل النوافذ العريضة في غرفة الاستقبال. أخذ هيتشكوك فكرة وجود مجموعة صغيرة من الأشخاص محبوسين في مكان واحد إلى أقصى درجات الصقل في فيلمه "قارب نجاة" (1944). "لائحة الطعام" كوميديا ​​سوداء عن الأخلاق والعادات، وجزء من هذا النسل، على الرغم من أن التوتّر يفسح المجال في لحظة معينة لكليشيه متكرر: يحتفظ النافذون دائماً بغسيلهم القذر مخفياً عن الشمس، لكنهم لا يتورّعون عن إفشائه للعلن في الحالات القصوى.

على الرغم من ذلك، تمكّن ميلود من تضمين ساندويتش مفاجئ من حين لآخر (الأطباق متطورة بشكل متزايد، وإن لم يكن بالشكل المتوقع، وتصل إلى مستويات متطرفة من التجريد)، كما أن آنيا تايلر جوي تظهر مرة أخرى قدرتها على الدخول في جسد أي شخصية تأتي أمامها.

كوميديا ​​حادّة وذكية يعيبها انكشاف أسرارها والفلسفة الاجتماعية المربكة وراءها. ليس "طعاماً مُعاد تسخينه" بالتأكيد، لكنه أيضاً ليس شاملاً ولا كاملاً كما بدا عند تقديم الطبق الأول.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها