الأحد 2023/01/29

آخر تحديث: 07:37 (بيروت)

من ذاكرة الستينات.. ملامح حداثة مبكرة (1)

الأحد 2023/01/29
من ذاكرة الستينات.. ملامح حداثة مبكرة (1)
increase حجم الخط decrease
عندما يكون المستقبل قاتماً، كئيباً إلى هذا الحد، يصبح الترحال في الماضي القريب، علاجاً نفسياً أكثر مما هو تنقيبٌ عن الدروس والعبر. القول إننا كنا هناك، في فترة الستينات، باشراقاتها واحباطاتها، لا يعكس الرغبة بالعودة إلى الوراء. بل مجرد التوكيد على أننا لا نستطيع أن نظل هنا، في عشرينات القرن الحالي من دون ذكريات، يستعيدها الدكتور خالد زيادة، بلغة المثقف، ودقّة المؤرخ، وشغف الباحث..عن مستقبل":


في نهاية الخمسينات كانت لا تزال مظاهر شائعة وأدوات مستخدمة تنتمي إلى ما يمكن اعتباره زمناً مضى، عربات الخيل تتجول في المدن لنقل الركاب، وكانت أغلب المنازل لا تزال تستخدم بوابير الكاز والمكواة التي تحمّى بالفحم. ومع ذلك فإن حداثة الأدوات كانت تنتشر ببطء مثل الراديو الذي يبث الأخبار والمسلسلات الإذاعية والأغاني، والثلاجات المنزلية التي انتشرت انتشارًا محدودًا لدى العائلات الميسورة وكذلك (البوتغاز الذي حلّ مكان الموقد وبابور الكاز). كان الراديو أداة تحديثية ممتازة فك عزلة المجتمعات المحلية بنقله أخبار الدول المجاورة والبعيدة. ونقل أخبار الحرب العالمية والانقلابات العسكرية وخُطب الزعماء ورؤساء الدول. أما الفونوغراف فكان آلة مترفة محدودة الانتشار، نظرًا لغلاء الأسطوانات التي تسجّل أغاني المطربين الكبار.

كان لمدّ الكهرباء إلى مناطق الأرياف قد نقل ترف الإنارة إلى قرى كانت لا تزال حتى مطلع الستينات تستخدم "اللوكس" المستورد من الصين، أو مصابيح تنبعث منها أضواء خفيفة من فتيل يتغذّى بالكاز. كان مدّ الكهرباء في لبنان جزءًا من سياسة تنموية، إلا أنه تناسب مع توسع الطبقة الوسطى خلال الخمسينات بفضل الدور الذي لعبه لبنان بعد قيام دولة إسرائيل، وبسبب التدفق الأولي للمال العربي بعد أن فتحت المملكة السعودية أبوابها أمام العمالة اللبنانية، وبسبب اتساع الفئات التي تعتاش من الأسلاك التعليمية. فازدادت أعداد المستهلكين للأدوات الكهربائية كعنوان للحياة العصرية.

كان العالم في تلك الفترة قد أصبح أكثر ترابطًا مع تقلّص المساحات الجغرافية والثقافية. ففي نهاية الخمسينات كانت بلدان أوروبا قد استكملت البناء بعد الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية.

وطوت سنوات التقشّف، وشرعت في إنتاج المواد الاستهلاكية، وخصوصًا تلك المتعلّقة برفاهية العائلة، والتي غزت العالم ووصلت إلينا سريعًا لتطبع الحياة العصرية وأهمها التلفزيون والسيارة الخاصة.

(منطقة الروشة بداية الستينات)
دخل التلفزيون إلى المنزل بساعات بثّه القليلة بالأسود والأبيض ليغيّر حياة العائلة، فجمع الأم والأب والأبناء أمام هذه الشاشة الصغيرة ليشاهدوا الأخبار والبرامج التربوية والمسلسلات الأجنبية والحفلات الترفيهية ذاتها، يستمعون للأخبار نفسها ويضحكون للمواقف الساخرة ويطربون للأغاني التي تبث في سهرات نهاية الأسبوع، كسر التلفزيون الحواجز بين الآباء والأبناء وقرّب ما بين أذواقهم وأضاف ليونة على العلاقات العائلية، كان أثّر التلفزيون على لغة التخاطب بإشاعته لغة مشتركة بين أبناء البلد الواحد من دون التخلّي عن اللهجات المحلية، كما أنه نشر الموضة في الأزياء، استمع اللبنانيون إلى البرامج نفسها، وكرّس الرموز الوطنية، بعد أن عبَر لبنان حرباً أهلية مصغّرة عام 1958.

وكان للسيارة الخاصة الصغيرة ذات المصدر الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أن تخدم وجاهة صغار الطبقة المتوسطة من الموظفين وخصوصًا المدرسين والإداريين. لم تكن السيارة العائلية الخاصة مجرد وسيلة نقل. فقد ساهمت مع عوامل أخرى في تحديد حجم العائلة، الوالدة والوالد في المقعدين الأماميين وولدين أو ثلاثة أولاد في المقعد الخلفي، في الوقت الذي انتشرت فيه أيديولوجية العائلة المصغّرة. وقد ساهمت السيارة في الانفتاح على مناطق الآخرين من أبناء البلد الواحد، وأصبحت نزهات أيام العطل يمكن أن تقصد مناطق أبعد في "وطن" المسافات القصيرة، وفكّت عُزلة المناطق وأسهمت في الانفتاح الذي كان إحدى سمات الستينات.

وكان للسيارة أن تلعب دورًا في تمدد المدن وانتشار العمران، ذلك أن السيارة يصعب دخولها الأحياء القديمة، وإيجاد مساحة لركنها، كانت إذًا عاملاً من عوامل الانتقال من المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة، فهذه الطبقة المتوسطة التي تزداد اتساعًا صار لأبنائها متطلبات عصرية، من بينها المنزل المستقل في مبنى من طبقات عدّة، وذلك للاستقلال عن العائلة الكبيرة، والابتعاد عن الحارة التقليدية الأبطأ في تقبّل عادات وأدوات وطقوس الحداثة، والتي تشمل الأثاث المنزلي الذي يتناسب مع المساحة الأضيق للمنزل العصري.

كان الانتقال من الحارات القديمة المغلقة إلى الأحياء الحديثة قد حرر المرأة من تقاليد عديدة وخصوصًا: الصلات مع العائلة الممتدة والجيران ورقابتهم. كذلك فإن الانتقال من القرية إلى المدينة فكّ أسر الأجيال الجديدة. كان عقد الستينات فترة حراك اجتماعي واسع باتجاه المدن وخصوصًا بيروت، وخضع العمران لمتطلبات عائلات الطبقة الوسطى، التي نشرت قيمها ونمط عيشها وطموحاتها.

كل هذه التغيرات كانت في خدمة المرأة التي اكتسبت مساحة أوسع لممارسة حريتها، فقد حررتها الأدوات من بعض الأعباء المنزلية، وأصبحت شريكة في ثقافة العائلة. وشاركت الرأي في شؤون العائلة، وخصوصًا المرأة العاملة، التي أصبحت شريكة في صنع العائلة العصرية. وعمومًا فإن الأدوات الكهربائية كانت في خدمة المرأة التي خففت عنها أعباء مرهقة، صارت من دون أن تدرك عنوان الحداثة في الستينات من القرن الماضي، وأصبح تعليم الإناث أمرًا لا يمكن التغاضي عنه، وأصبح عمل المرأة التي نالت تعليمًا متوسطًا أو عاليًا أمرًا شائعًا، بالمقارنة مع عقدٍ أو عقدين سابقين من الزمن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها