كان العالم في تلك الفترة قد أصبح أكثر ترابطًا مع تقلّص المساحات الجغرافية والثقافية. ففي نهاية الخمسينات كانت بلدان أوروبا قد استكملت البناء بعد الدمار الذي سببته الحرب العالمية الثانية.
وطوت سنوات التقشّف، وشرعت في إنتاج المواد الاستهلاكية، وخصوصًا تلك المتعلّقة برفاهية العائلة، والتي غزت العالم ووصلت إلينا سريعًا لتطبع الحياة العصرية وأهمها التلفزيون والسيارة الخاصة.
(منطقة الروشة بداية الستينات)
دخل التلفزيون إلى المنزل بساعات بثّه القليلة بالأسود والأبيض ليغيّر حياة العائلة، فجمع الأم والأب والأبناء أمام هذه الشاشة الصغيرة ليشاهدوا الأخبار والبرامج التربوية والمسلسلات الأجنبية والحفلات الترفيهية ذاتها، يستمعون للأخبار نفسها ويضحكون للمواقف الساخرة ويطربون للأغاني التي تبث في سهرات نهاية الأسبوع، كسر التلفزيون الحواجز بين الآباء والأبناء وقرّب ما بين أذواقهم وأضاف ليونة على العلاقات العائلية، كان أثّر التلفزيون على لغة التخاطب بإشاعته لغة مشتركة بين أبناء البلد الواحد من دون التخلّي عن اللهجات المحلية، كما أنه نشر الموضة في الأزياء، استمع اللبنانيون إلى البرامج نفسها، وكرّس الرموز الوطنية، بعد أن عبَر لبنان حرباً أهلية مصغّرة عام 1958.
وكان للسيارة الخاصة الصغيرة ذات المصدر الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أن تخدم وجاهة صغار الطبقة المتوسطة من الموظفين وخصوصًا المدرسين والإداريين. لم تكن السيارة العائلية الخاصة مجرد وسيلة نقل. فقد ساهمت مع عوامل أخرى في تحديد حجم العائلة، الوالدة والوالد في المقعدين الأماميين وولدين أو ثلاثة أولاد في المقعد الخلفي، في الوقت الذي انتشرت فيه أيديولوجية العائلة المصغّرة. وقد ساهمت السيارة في الانفتاح على مناطق الآخرين من أبناء البلد الواحد، وأصبحت نزهات أيام العطل يمكن أن تقصد مناطق أبعد في "وطن" المسافات القصيرة، وفكّت عُزلة المناطق وأسهمت في الانفتاح الذي كان إحدى سمات الستينات.
وكان للسيارة أن تلعب دورًا في تمدد المدن وانتشار العمران، ذلك أن السيارة يصعب دخولها الأحياء القديمة، وإيجاد مساحة لركنها، كانت إذًا عاملاً من عوامل الانتقال من المدينة القديمة إلى المدينة الحديثة، فهذه الطبقة المتوسطة التي تزداد اتساعًا صار لأبنائها متطلبات عصرية، من بينها المنزل المستقل في مبنى من طبقات عدّة، وذلك للاستقلال عن العائلة الكبيرة، والابتعاد عن الحارة التقليدية الأبطأ في تقبّل عادات وأدوات وطقوس الحداثة، والتي تشمل الأثاث المنزلي الذي يتناسب مع المساحة الأضيق للمنزل العصري.
كان الانتقال من الحارات القديمة المغلقة إلى الأحياء الحديثة قد حرر المرأة من تقاليد عديدة وخصوصًا: الصلات مع العائلة الممتدة والجيران ورقابتهم. كذلك فإن الانتقال من القرية إلى المدينة فكّ أسر الأجيال الجديدة. كان عقد الستينات فترة حراك اجتماعي واسع باتجاه المدن وخصوصًا بيروت، وخضع العمران لمتطلبات عائلات الطبقة الوسطى، التي نشرت قيمها ونمط عيشها وطموحاتها.
كل هذه التغيرات كانت في خدمة المرأة التي اكتسبت مساحة أوسع لممارسة حريتها، فقد حررتها الأدوات من بعض الأعباء المنزلية، وأصبحت شريكة في ثقافة العائلة. وشاركت الرأي في شؤون العائلة، وخصوصًا المرأة العاملة، التي أصبحت شريكة في صنع العائلة العصرية. وعمومًا فإن الأدوات الكهربائية كانت في خدمة المرأة التي خففت عنها أعباء مرهقة، صارت من دون أن تدرك عنوان الحداثة في الستينات من القرن الماضي، وأصبح تعليم الإناث أمرًا لا يمكن التغاضي عنه، وأصبح عمل المرأة التي نالت تعليمًا متوسطًا أو عاليًا أمرًا شائعًا، بالمقارنة مع عقدٍ أو عقدين سابقين من الزمن.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها