الأحد 2023/01/29

آخر تحديث: 07:57 (بيروت)

مكتبات السوريين.. أوطانهم الصغيرة ذاكرة الدمار والاحتراق والفاجعة

الأحد 2023/01/29
increase حجم الخط decrease

نسيت أمي أنني خبّأت بضعة كتب "يسارية" في تجويف أسفل الفرن المنزلي، خوفاً من أن يلاحظها عناصر "فرع فلسطين"، الذين توقعنا قدومهم، بحثاً عمن يلاحقون من أفراد عائلتي.

قلت لها: إذا حدث واكتشفوا وجودها، سنقول لهم إنها تعود لأكبر أخوتي، الغائب في سجن الفرع منذ عام.

لكن لم يحدث ما توقعناه، بل جرى شيء آخر، إذ في غمرة التشوش الذي يصيب المرء في مثل هكذا أوقات، أشعلت أمي نار الفرن، لتطبخ، فأتت على أطراف أغلفة وصفحات الكتب، قبل أن نلحظ الدخان، لكنها نجت من الاحتراق بعد أن أسرعت لاخراجها من مكانها.

لا أريد تذكر تفاصيل مشاعر أمي تجاه ما حصل، لكنني وعلى سبيل الاحتفاظ بالذكرى، قمت بحز الأجزاء الملدوعة باللهب، وأبقيت من بين الكتب الناجية، كتابين هما "المادية والمثالية في الفلسفة" لبليخانوف، بترجمة جورج طرابيشي، وكتاب هشام شرابي الشهير "مقدمات لدراسة المجتمع العربي"، ومازالا حتى الآن في مكتبتي البعيدة!

لم أشعر بالفاجعة إزاء ما حصل، في ذلك الوقت، أي في العام 1987، إذ كانت مكتبات البيوت التي يداهمها عناصر المخابرات تُصادر، وترمى بطريقة همجية في شاحنات صغيرة، كانت ترافق عربات البيجو ستيشن الطويلة القبيحة، والتي بقيت صورتها ماثلة في ذاكرة السوريين.

ومن بين المفقودات الشخصية التي اختفت أثناء حملة الاعتقالات في ذلك العام، مكتبة صهري الذي كان متخفياً مع أختي في بيت ما في حي التضامن، إذ تمت مداهمة المكان، واعتقال الزوجين، وبقي فيه بعض العناصر الذين يتربصون بمن سوف يأتي لزيارتهما.

كان الرجل الذي تابع أولى محاولاتي في الكتابة الأدبية، قد احتفظ بين أوراقه بدفتر كامل، سجلت فيه نصوصاً صغيرة، كما أن مكتبته كانت تضم مؤلفات ومجلدات كتب فلسفية، نقلها معه في حلّه وترحاله، بين البيوت التي اضطر لتغييرها، بعد كل اعتقال لأحد الرفاق، ممن يزورونه، أو يجتمعون عنده.

لكن اعتقاله ذاك، أودى مع الكتب بمطبعة صغيرة، كان حزب العمل الشيوعي يستخدمها من أجل منشوراته، وبينما خرجت أختي بعد 9 شهور بسبب الحمل، أمضى صهري 8 سنوات بين أقبية فروع الأمن، وسجن صيدنايا!

هناك، قرب الدير الشهير، سيجمع معتقلو الحزب وغيره من قوى المعارضة، كل ما يصلهم من الكتب، في أحد الأجنحة، مشكلين مكتبة تنمو مع الوقت وزيارات الأهالي، لكنها ستلقى مصيراً مجهولاً، بعد أن توالى خروجهم إلى "الحرية"، ضمن حيز زمني، يُقدّر بعشرين عاماً ونيف.

لم أسمع طيلة الزمن الماضي، أن أحداً من هؤلاء قد أخرج معه كتاباً من هذا المعتقل العسكري، كما لم يمر علي، أن أحداً فقد مكتبته على يد مخابرات الأسد، قد استعاد شيئاً منها.

كان النظام يبتلع الكتب وأصحابها في الوقت نفسه، فبالنسبة لعقليته الأمنية، المكتبات الشخصية لمعارضيه هي بيت الداء، ويجب أن تلقى مصيره، فإذا تم اعتبار الاستيلاء عليها مصادرة، فإن مصير المصادرات ظلّ مجهولاً، إذا لا يعتقد أحد أنها ستسلّم لجهة ما، أو ستوضع في مكان ما ليتم الاطلاع عليها فيه، فهي على الأرجح ستوضع في مستودعات ملفات أمنية، يمكن تصور أنها تحتوي جزءاً كبيراً من الذاكرة السورية، بالنظر إلى كون الجهاز الأمني السوري، هو المؤسسة الوحيدة المستمرة دون انقطاع، منذ زمن المكتب الثاني الفرنسي وحتى الآن!

في زمن الثورة، وفي الأوقات التي تلت، احترقت مستودعات بعض دور النشر في ريف دمشق، خلال عمليات القصف اليومية للمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، لتقدر خسارة أصحابها بمئات ملايين الليرات، لكن استعادة أصول المنشورات لن تكون صعبة، فالمفقودات هي نسخ من كتب مطبوعة ومتوفرة في المكتبات.

لكن الخسارة الكارثية، هي المكتبات الشخصية، وقد احتوت في صفحات كتبها، العلاقات غير المادية التي تنشأ بين القارئ وبين الكلمات، بين العقل وبين الأفكار، والتي ستبدو متماثلة من حيث عادات القراءة، لكنها ستبقى خاصة بكل شخص، ومتفرّدة في طريقة تدوين الملاحظات على الهوامش، وبتسجيل البعض لتواريخ الشراء والقراءة، بالإضافة لكون بعض الكتب مهداة من مدمني قراءة إلى نظرائهم، او من مؤلفين إلى قراء!

ضمن هذا المنحى العميق، سيصبح تدوين ذاكرة خسارة الكتب، جزءاً من محاولات الكُتاب، لتفريغ شحنات الغضب، والتحسّر على ما كانوا عليه، قبل أن يجز قمع النظام، وممارسات الفصائل المسلّحة، حضور المكتبة في حيواتهم.

لن ننسى قيام تنظيم الدولة بحرق الكتب في أمكنة سيطرته، ومن أشهر الحوادث إشعال تونسي وسعودي من عناصره النار بمحتويات مكتبة "بور سعيد" الشهيرة في مدينة الرقة.

فقد الكثيرون من الأصدقاء مكتباتهم، وقد يتوقع العارف بسياق الحدث السوري أشكال فجيعتهم بكتبهم، حيث ستتكفل ممارسات التشويل والتعفيش*، بخلق سوق للكتب المسروقة، إذ يحدثني صديق حمصي بأنه حين عاد إلى بيته، بعد اضطراره لتركه خلال الاشتباكات، وجد أن عناصر النظام الذين احتلوه، قاموا دون سبب واضح برمي مئات الكتب على الأرض، في غرفة فتح القصف فتحة في سقفها، فتلُفت بسبب تسرب ماء المطر عليها.

ويروي آخر بأّنه وجد جزءاً من مكتبته يباع على الرصيف، بعد أن عفّشها عنصر من الأمن أو الجيش، ثم باعها لتجار الكتب المستعملة، الذي انتعشت أحوالهم، بعد أن زاد العرض عليهم، بين وفرة المسروق من كافة المناطق، وبين محاولات الراغبين بالخروج من البلد التخلص من مكتباتهم وبيعها مع أغراض البيت!

أحد الزملاء من الصحافيين، ممن حضروا دخول قوات فصائل المعارضة إلى حلب الشرقية، سيتذكر بأسى كبير كيف أن بعض المقاتلين دخلوا أحد المنازل، فوجدوا فيه مكتبة "أسطورية" بحسب تعبيره، فطلبوا فتوى حول طريقة التعاطي مع محتوياتها، ويبدو أنها تُركت، لكن بعض الكتب لن تنجو من التشويل!

القاص إبراهيم العلوش كتب على صفحته الشخصية متحسراً بعد أن علم بفقدان مكتبته: "أن تحترق مكتبتك، وأن يتم نهبها، ليس مجرد خسارة مادية، بل خسارة للذكريات، وللآمال التي بنيتها على تلك الكتب، وأنت تصرف عليها من الليرات القليلة التي لديك وأنت طالب.. أكثر من ألف كتاب لم ينج منها إلا القليل.. كنت أظن أنها نجت من دمار المنزل ونهبه.. ومن نهب المكتب وأضابيره، ومن الممكن التبرع بها لأي مكتبة عامّة في المستقبل.. ولكن لا.. لم تنجُ.. وداعاً أيتها الذكريات الجميلة!"

ويروي القاص والمسرحي نجم الدين سمان كيف أن عناصر من الفرقة الرابعة قد اقتحموا بيته المغلق في أشرفية صحنايا، الذي يطل على بساتين مدينة داريا المحاصرة، فاستخدموا شرفاته لقنص الثائرين فيها. وخلال وجودهم فيه، قاموا باستخدام محتويات مكتبته الضخمة كوقود للتدفئة!

وسيعطف نجم على هذه الواقعة، حادثة مؤلمة في تاريخ عائلته، حيث أقدمت عمته على حرق مكتبة جده الثرية بالطبعات الأولى لكتب التراث والفقه، وذلك خوفاً من أن يجر عليها وجود هذه المكتبة العملاقة، مساءلات عناصر الأمن الذين يُمشطون بيوت مدينة إدلب، بحثاً عن أفراد مطاردين من تنظيم الطليعة المقاتلة، في نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي!

(مكتبة داريا)
وفي داريا ذاتها، التي كانت شرفات بيت نجم تطل عليها، قام عدد من الناشطين المحاصرين بمحاولة مشرّفة لحفظ كرامة الكتب، فجمعوها في قبو إحدى عمارات المدينة، في تجربة كُتب عنها الكثير، وصنعت عنها الكاتبة الفرنسية دولفين مينوي كتاباً وفيلماً، لكن مصير المكتبة بقي حتى الآن مجهولاً، بعد أن رحل الناشطون صوب الشمال السوري، بموجب اتفاق التسوية، حيث دخل الأمن المكان ونقل محتوياته إلى جهة مجهولة.

تكرّرت تجربة الحفاظ على المكتبات في غير مدينة، فبينما ساهمت منظمات مدنية وبتمويل من مؤسسات أوروبية وأميركية بتأمين مكتبات متنقلة، تتجوّل في بعض مناطق "المحرر"، وتركز على إيصال الكتب للأطفال، وجد الناشطون في أمكنة أخرى أنفسهم، أمام مكتبات المراكز الثقافية في مناطقهم، التي خرجت عن سيطرة النظام، فقاموا بحمايتها، وتنظيم العمل في إعارتها وإعادتها.

وعلى مستوى الأشخاص، سيتمكن القاص مصطفى تاج الدين موسى من استعادة جزء كبير من مكتبته، عبر نقلها على دفعات من إدلب إلى حيث يقيم في تركيا، وكذلك سيفعل الشاعر عمر الشيخ، الذي يعيش في قبرص، بينما سيحاول البعض إيجاد حلول لفقدانهم مكتباتهم، عبر تصوير الكتب النادرة فيها، أو اللجوء إلى فضاء الكتب المقرصنة إلكترونياً للتعويض عن وجودها المادي.

مشكلة المكتبات، لم تقف عند المثقفين، والقراء فقط، بل ستصبح محور أحداث يتوازى مع مسار الكارثة السورية، حيث نجحت الفنانة فايزة الشاويش زوجة الراحل سعد الله ونوس، وابنته ديمة، في إخراج مكتبته من الشام، وإهدائها لمكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، الأمر الذي تسبب بشن حملة عليهما من قبل شبيحة الوسط الثقافي، الذين رأوا في هذا التصرف تهريباً لجزء من الإرث الثقافي السوري.

وفي المقابل صمت هؤلاء، حينما أعلنت السيدة سعاد قوادي زوجة الراحل عبد الرحمن منيف، في بيان نشرته الصحافة العربية في آذار 2015 أن مكتبته قد تعرضت لعملية سطو وتدمير قام بها شخص من معارف العائلة، أسكنته بيتها بدافع إنساني، بعد أن فقد بيته في مدينة حرستا، حيث استبدل أسفار المكتبة بنسخ مصورة عنها، واستولى على الأصلية، من أجل أن يتاجر بها.

جزء كبير من مكتبات السوريين تصرف به تجار الكتب، الذين قاموا بنقلها إلى العراق وبعض دول الخليج، حيث ثمة حركة بيع وشراء نشطة للطبعات الأولى من الكتب.

ويبقى أنه وسط الخسارة السورية الكبرى، حيث طُحنت حرب النظام على الشعب كل شيء، لن تُذكر الكتب، أمام مئات آلاف الحيوات التي فُقدت، والأرواح التي أزهقت، لكن هذه الكتب هي جزء من حيثيات وجود هؤلاء، إضافة لصحة القول بأن المكتبات هي أوطان صغيرة، لا يستطيع أصحابها التخلّي عن وجودها، في ذاكرتهم على الأقل، إن لم يستطيعوا إليها سبيلا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها