الأحد 2023/01/29

آخر تحديث: 07:46 (بيروت)

مدّعي عام التمييز العاجز عن التمييز

الأحد 2023/01/29
مدّعي عام التمييز العاجز عن التمييز
تحرك في العدلية للمطالبة باستئناف التحقيقات في ملف المرفأ (غيتي)
increase حجم الخط decrease
بلى بلى، لقد تأخّر مدّعي عام التمييز القاضي غسّان منيف عويدات. تأخّر كثيراً حين أعلن أنّ البلد بات بلا قانون. وأتّى استنتاجه باهتاً مثل أدائه، مثقوباً مثل اقتباساته من الكتب المقدّسة. 

فات السيّد عويدات أنّ البلد أصبح بلا قانون لا عندما قرّر المحقّق العدليّ طارق البيطار أن يدّعي عليه (ربّما بتهمة التقصير والإهمال والتورّط في حماية المرتكبين)، بل حين صار الإفلات من العقاب هو القاعدة، بعدما هيمن المفسدون في الأرض على معظم المؤسسة القضائيّة، فيما هو لا يحرّك ساكناً ويكتفي بدفن رأسه في الرمل، وكأنّ منتهى أحلامه هو أن يتحوّل، في أزمنة التحوّل الجينيّ، إلى نعامة. وفات السيّد القاضي أنّه هو بالذات جزء من مشكلة أداء الجسم القضائيّ. فإذا سلّمنا جدلاً بأنّه غير متورّط، فهو سمح للرعاع بأن يستبيحوا هيبة القضاء فيما كان الأجدر بالثورة القضائيّة أن تنطلق منه، ومنه بالذات، لكونه، مع رئيس مجلس القضاء الأعلى، مؤتمناً على ألّا يصبح المجرم نائباً والجلّاد ضحيًّة. كذلك فات مدّعي عام التمييز أنّ المحقّق العدليّ مكث شهوراً طويلةً في بيته بسبب تألّب قطّاع الطرق عليه، فيما هو يحتسي بتؤدة قهوته الساخنة المعطّرة بحبّ الهال، وما هاله أنّ دم ضحايا انفجار مرفأ بيروت يتموّر ويصطخب ويصيح. إنّ للأشياء حكايات تستحقّ أن تروى. وحكاية سقوط القانون في لبنان لم تبدأ مع العمليّة «الانقلابيّة» التي قام بها القاضي البيطار، بل تضرب جذورها في سطوة الساسة الفجّار على السلطة القضائيّة، هذه السطوة التي تعايش معها الرئيس عويدات وغازلها وباركها متناسياً أنّ القضاء يعلو ولا يعلى عليه، وأنّه يفقد شرعيّته إذا فشل في أن يكون صوت المقهورين.

«لا تحرّف القضاء، ولا تنظر إلى الوجوه، ولا تأخذ رشوة»، هذا ما نقرأه في سفر تثنية الاشتراع (١٩/١٦). تحريف القضاء هو إيّاه ما يحاول البلاطجة القيام به منذ انفجرت بيروت عشيّة الرابع من آب؛ كلّا، منذ ما قبل ذلك بكثير. يحرّفون تفسير النصوص القانونيّة، ويستغلّون ثغراتها، كي يتحايلوا على القضاء ويفلتوا من العقاب. لقد أصبحت اللعبة مكشوفة، وهي عادت اليوم لا تسلّي أحداً. لكنّ مدّعي عام التمييز ما زال يلعبها بحماسة متناسياً أنّ النصوص القانونيّة ليست مرجعيّة ذاتها، وإلّا فسد التأويل وصار القانون وجهة نظر. القانون مرجعيّته الأخلاق. والأخلاق تستوجب من القاضي أن يسهر على أن يكون تطبيق النصوص القانونيّة في مصلحة الضحيّة، لا لحماية الجلاّد كما هو حاصل اليوم. وكلّ ما سوى ذلك مجرّد تفصيل. فالرهان الأخير للمعركة التي يقودها طارق البيطار ضدّ المافيا التي تحكم البلد ليس الالتصاق بالنصوص القانونيّة حصراً، علماً بأنّ التعليل القانونيّ الذي أتى به، كي يبرّر متابعة عمله، فيه كثير من الفطنة، بل هو الانتصار للضحيّة المظلومة المسحوقة تحقيقاً للعدل، وهذا هو جوهر الأخلاق وإسّ القانون.

حين كان بعضهم على المنابر والشاشات يمتدح «نزاهة» القاضي غسّان عويدات ورجاحة عقله، كانت الحجّة التي غالباً ما يتمّ الاستنجاد بها، كما هو مألوف في لبنان، بلد العائلات السياسيّة والقضائيّة «العريقة»، تتلخّص في أنّ مدّعي عام التمييز هو نجل منيف عويدات، صاحب الصولات والجولات في الشأن القانونيّ. رحم الله ابن الورديّ القائل: «لا تقل أصلي وفصلي أبداً/إنّما أصل الفتى ما قد حصل».
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها