قد يكون المرء مسؤولاً عن النقطة التي انطلق منها في وعيه بالسياسة، وقد تكون للظروف المحيطة دورها في هذا. أما أن يكون القدر مسؤولاً عن بداية تكوين ذلك الوعي، فهذا ما لا يتكرّر كثيراً، لكن المصادفات القدرية فعلتها مع سعاد حسني في التوقيت والمكان...
ففي 26 كانون الثاني/يناير 1952 حينما كانت تحتفل بعيد ميلادها التاسع (سعاد من مواليد العام 1943)، كانت القاهرة قد تحوّلت إلى مدينة أشباح يلفها الظلام أو يكاد، وشوارع وسط المدينة تخلو من المارة بسبب الأحكام العرفية التي أعلنت على أثر حريق القاهرة في ذلك اليوم التاريخي من حياة مصر، وكانت طفلة التاسعة تقيم مع والدتها بعد انفصال الأبوين. لكنها في ذاك اليوم بالتحديد، كانت في بيت والدها في قلب ميدان الأوبرا لتحتفل بعيد ميلادها.. ومن هذا الموقع الاستراتيجي في قلب القاهرة تمكنتْ الطفلة من مشاهدة الحرائق، ومتابعة تحركات الشرطة والجيش باتجاه قصر عابدين القريب ذهاباً وإياباً، وهل هناك مصادفات زمنية ومكانية أكثر من أن ترى طفلة صغيرة من شرفة منزلها، وفي يوم ميلادها قلب المدينة وهو يحترق؟ لقد كان طبيعياً بعد هذا كلّه أن يبقى ذلك اليوم في ذاكرتها، وأن تستحضره في مخيلتها وهي تحتفل بعيد ميلادها كل عام، لكن الأهم من الذكرى أن القدر أراد أن يربط بينها وبين تاريخ مصر المعاصر، وأن يجعل من ذلك اليوم بداية لانطلاق وعيها السياسي،. صحيح أنّها لم تكن تدرك يومذاك ماذا يعني حريق القاهرة، ولا هوية الذين يقفون وراءه، إلا أنّها كانت لاحقاً مهتمة بالاستفسار عما حدث، ويكفي أنها ـ حسبما قالت في حواراتها ـ استطاعت أن تربط عن طريق مناقشات أصدقاء والدها بين ما حدث وبين الإنكليز، مدركة أنهم لا يريدون للبلاد خيراً، ولا بدّ أن يخرجوا من مصر، لأنهم أساس كل الفساد في البلد.
الثورة
وحينما قامت الثورة بعد ذلك اليوم بأشهر قليلة لم تكن الطفلة سعاد حسني تعي ما حدث جيداً، كل الذي كانت تدركه من ردود أفعال الآخرين أن هذا في مصلحة مصر، وأن من أحرقوا البلد، وأفسدوا عليها فرحة عيد ميلادها قبل أشهر سوف يرحلون. وومع مرور السنوات بدأت تفهم الكثير، لكن شيئين آخرين على جانب كبير من الأهمية، ساهما في تكوين وعي سعاد حسني السياسي، واقترابها من الهم الوطني، فقد أكدت أنها أحبّت الثورة، وتعرفت عليها من خلال أغنيات عبد الحليم حافظ التي نظمها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل، وأن هذا استمر حتى بعدما احترفت التمثيل، وتعرّفت على عبد الحليم في فيلم "البنات والصيف" العام 1960. والشيء الآخر هو استمتاعها الشديد بالاستماع إلى خطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ربما ابتداء من أحداث العام 6591 (تأميم القناة والعدوان الثلاثي). وعلى الرغم من أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها آنذاك، فإنها كانت تؤكد أنها تعرفت كثيراً على فكر الثورة وفلسفتها من خلال تلك الخطب، بل إن هذه العادة التي بدأت بعبد الناصر تحولت إلى هواية محببّة تلازمها، حيث كانت تجد متعة خاصة في متابعة خطب الرؤساء، وتقول إنها تتابع كممثلة تعبيرات وجه صاحب الخطاب والتلوين في أدائه الصوتي، ومدى نجاحه في التأثير في متابعيه، وهي ميزة ترى أن عبد الناصر كان متفرداً فيها.
الكرنك
وعلى مدى عمرها ظلّت سعاد تردّد أنها ابنة الثورة، وأنها لم تنقلب أبداً على مبادئها، وحتى بعدما اقتربت من فكر حزب التجمع على أثر زواجها من المخرج علي بدرخان، كان ذلك أيضاً سيراً في اتجاه المبادئ الاشتراكية التي نادت بها ثورة يوليو، بل إن إحدى نقاط تلاقيها فكرياً مع علي بدرخان، كان حبهما لعبد الناصر، ولذلك كانت دهشتها بالغة وهي تتابع الاتهامات التي طاولتها هي وزوجها ـ في ذلك الوقت ـ بعد بطولتها لفيلم "الكرنك" حيث اتهموها بـ"كرنكة" السينما، أي بإرساء تيار كامل من الأفلام ركب موجة الهجوم على مراكز القوى وممالأة السلطة، والانقلاب على الثورة وقائدها، والنيل من مكتسباتها. وكانت تستند في جانب كبير من تلك الدهشة إلى أنّ العناصر الأساسية الثلاثة في هذا الفيلم -هي ونور الشريف وعلي بدرخان- يعرف الجميع انتماءاتهم جيداً، وأن الفارق كبير ولا يحتمل المزايدة بين أن تهاجم الثورة وأن تنتقد أخطاءها، وهذا هو ما حدث في فيلم "الكرنك".
وقد تمنّت سعاد كثيراً أن تقدّم فيلماً يحكي سيرة عبد الناصر، هذه الأمنية كانت سابقة بسنوات على ظهور فيلمي محمد فاضل وأنور القوادري، وقيام كل من أحمد زكي، وخالد الصاوي بأداء دور الزعيم الراحل في الفيلمين. أما هي فكانت ترى نفسها في دور السيدة تحية، زوجة الرئيس عبد الناصر، حيث كانت تؤمن بأن لتلك السيدة دوراً مهماً في حياة مصر، على أية حال ربما كان هذا الميل الواضح إلى الفكر التقدمي والاشتراكي هو الذي دعا البعض إلى مهاجمتها على أثر المشاركة في فيلم مغربي عنوانه "أفغانستان لماذا؟" ينتقد غزو أفغانستان من قبل السوفيات. أما هي فكانت حسبتها غير ذلك تماماً، إذ قبلت المشاركة في الفيلم لأنها أولاً ضد عدوان دولة على أخرى أياً كان مصدر هذا العدوان، كما أن أفغانستان دولة مسلمة، والجهة المنتجة للفيلم هى جهة إسلامية وليست الولايات المتحدة الأميركية، ولأنها تثق في صديقها القديم المخرج الجزائرى أحمد راشدي ـ أول من فاتحها في أمر الفيلم المذكور ـ قبل أن يؤول إخراجه كلياً إلى المغربي عبد الله المصباحي. وفضلاً عن ذلك كله، فقد ظنّت أن الفيلم من الناحية الفنية فرصة جيدة للنفاذ إلى العالمية، يكفي أنه ناطق بالإنكليزية، وليست له نسخة مدبلجة بالعربية، والفيلم من نوعية الإنتاج الضخم، وتشارك فيه أسماء عالمية كبيرة، أمثال جيمس ماسون، وجوليانو جيما، وإيرين باباس، غير أن الفيلم صادفته مشكلات إنتاجية حالت دون استكمال بعض مشاهده، ومن ثم ظهر بصورة غير تلك التي كانت تتمناها له سعاد حسني، مما أثر بكل تأكيد في حظوظ نجاحه عالمياً، إضافة إلى أن أحداً في الوطن العربي لم يشاهده، بل ربّما لم يسمع عنه أيضاً..
(الكرنك)
أما عن تأثير الأحداث السياسية في مشوارها الفني، فيمكن القول بكل ارتياح إن هزيمة 7691 تركت أثراً بالغاً في مسيرتها الفنية، فمثلما كانت نجومية سعاد حسني مفاجئة عند ظهورها العام 9591، كان نضجها أيضاً كذلك.. فجأة مع نهاية 8691 وبداية العام 9691، أصبح كل شيء في سينما سعاد حسني مختلفا كمّاً وكيفاً، اختياراً وأداءً، فكراً ورسالة.. ولا سبب واضحاً في هذا التحول نحو النضج سوى هزيمة 7691، بحيث يمكن الجزم بأن هذه الهزيمة المريرة لم تفعل بفنان ما فعلته بسعاد حسني، خصوصاً في ظل التفاف مجموعة من مثقفي مصر حولها في تلك الفترة، وعلى رأسهم صلاح جاهين،. فإذا استثنينا مجموعة أفلامها الثمانية التى عرضت العام 8691 باعتبارها من إنتاج أو اتفاقات ما قبل حزيران 1967، فإننا يمكن أن نلحظ بجلاء، الفارق بين ما قدمته سعاد حسني قبل الهزيمة وبعدها، فقبلها مباشرة كانت تقدّم أفلاماً من نوعية "حلوة وشقية"، "بابا عاوز كده"، و"الزواج على الطريقة الحديثة"، ثم حدث التحوّل فجأة لتقدم في العامين التاليين "نادية" ليوسف السباعي وأحمد بدرخان، و"شيء من العذاب" لأحمد رجب وصلاح أبو سيف، و"بئر الحرمان" لإحسان عبد القدوس وكمال الشيخ، و"الحبّ الضائع" لطه حسين وبركات، و"غروب وشروق" لجمال حماد وكمال الشيخ، و"الاختيار" لنجيب محفوظ ويوسف شاهين.
وما يلفت النظر إلى حد التأمل، أنّه في الفترة التي تلت الهزيمة والتي شهدت فيها السينما المصرية أسوأ أفلامها حيث ركزت على تغييب العقل ودغدغة المشاعر الحسّيّة، وأفرزت مجموعة من الممثلات خرجن نجمات من تلك الفترة، فإن سعاد حسني التى كانت مؤهلة لركوب تلك الموجة بالنظر إلى نوعية أدوارها قبل هذا التاريخ، لم تفعل ذلك وهو ما يعتبر دليلاً آخر على أن الهزّة التى تلت الهزيمة قد عدّلت مسار سعاد حسني بالدرجة نفسها والحدّة اللتين انحرفت بهما السينما المصرية عن مسارها الصحيح،. وهذا هو الفارق بين وعي فنان وآخر..
وفي كل الأحوال أحبّت سعاد وطنها، وأخلصت له كمواطنة عادية وكفنانة صادقة، وظلت لسنوات تقاسي وحدها محنة المرض رافضة أن يتم علاجها على نفقة الدولة، حيث رأت أن آخرين غيرها أحق منها بهذا العلاج. وحينما طال بها الوقت، وضاقت بها الحال، وافقت على ما كانت قد رفضته من قبل حتى لا تصبح ظروفها الصحيّة عرضة للمزايدات من هذه الدولة أو تلك الجهة أو ذلك الشخص، لا سيما بعدما دخلت إسرائيل طرفاً في المزايدة، وسعاد لديها حساسية زائدة تجاه كل ما يتعلق بإسرائيل، حتى لو كان فيه شفاؤها. ليس هذا فحسب، بل إنها حينما قامت انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول/ سبتمبر0002، قررت أن تشارك الفلسطينيين انتفاضتهم ولو على طريقتها الخاصة، فجمعت كل ما كتبه صلاح جاهين من شعر وراحت تنتقي منه ما يخصّ القضية الفلسطينية، وذهبت إلى هيئة الإذاعة البريطانية في لندن لتقدم بصوتها هذه الأشعار مساهمة منها في تلك المعركة الشرسة الدائرة هناك على أرض فلسطين.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها