السبت 2023/01/28

آخر تحديث: 15:41 (بيروت)

سعاد حسني: شيء من السياسة.. شيء من العذاب

السبت 2023/01/28
increase حجم الخط decrease
قد‮ ‬يكون المرء مسؤولاً عن النقطة التي انطلق منها في وعيه بالسياسة،‮ ‬وقد تكون للظروف المحيطة دورها في هذا. ‬أما أن‮ ‬يكون القدر مسؤولاً عن بداية تكوين ذلك الوعي، فهذا ما لا‮ ‬يتكرّر كثيراً،‮ ‬لكن المصادفات القدرية فعلتها مع سعاد حسني في التوقيت والمكان...

‬ففي 26 كانون الثاني‮/‬يناير 1952 ‬حينما كانت تحتفل بعيد ميلادها التاسع (سعاد من مواليد العام 1943)، ‬كانت القاهرة قد تحوّلت إلى مدينة أشباح‮ ‬يلفها الظلام أو‮ ‬يكاد،‮ ‬وشوارع وسط المدينة تخلو من المارة بسبب الأحكام العرفية التي أعلنت على أثر حريق القاهرة في ذلك اليوم التاريخي من حياة مصر،‮ ‬وكانت طفلة التاسعة تقيم مع والدتها بعد انفصال الأبوين.‮ ‬لكنها في ذاك اليوم بالتحديد، كانت في بيت والدها في قلب ميدان الأوبرا لتحتفل بعيد ميلادها‮.. ومن هذا الموقع الاستراتيجي في قلب القاهرة تمكنتْ الطفلة من مشاهدة الحرائق،‮ ‬ومتابعة تحركات الشرطة والجيش باتجاه قصر عابدين القريب ذهاباً وإياباً،‮ ‬وهل هناك مصادفات زمنية ومكانية أكثر من أن ترى طفلة صغيرة من شرفة منزلها،‮ ‬وفي‮ ‬يوم ميلادها قلب المدينة وهو‮ ‬يحترق؟ لقد كان طبيعياً بعد هذا كلّه أن‮ ‬يبقى ذلك اليوم في ذاكرتها،‮ ‬وأن تستحضره في مخيلتها وهي تحتفل بعيد ميلادها كل عام،‮ ‬لكن الأهم من الذكرى أن القدر أراد أن‮ ‬يربط بينها وبين تاريخ مصر المعاصر،‮ ‬وأن‮ ‬يجعل من ذلك اليوم بداية لانطلاق وعيها السياسي،. ‬صحيح أنّها لم تكن تدرك‮ ‬يومذاك ماذا‮ ‬يعني حريق القاهرة،‮ ‬ولا هوية الذين‮ ‬يقفون وراءه،‮ ‬إلا أنّها كانت لاحقاً مهتمة بالاستفسار عما حدث،‮ ‬ويكفي أنها ـ حسبما قالت في حواراتها ـ استطاعت أن تربط عن طريق مناقشات أصدقاء والدها بين ما حدث وبين الإنكليز،‮ ‬مدركة أنهم لا‮ ‬يريدون للبلاد خيراً،‮ ‬ولا بدّ أن‮ ‬يخرجوا من مصر،‮ ‬لأنهم أساس كل الفساد في البلد‮.‬

الثورة
وحينما قامت الثورة بعد ذلك اليوم بأشهر قليلة لم تكن الطفلة سعاد حسني تعي ما حدث جيداً،‮ ‬كل الذي كانت تدركه من ردود أفعال الآخرين أن هذا في مصلحة مصر،‮ ‬وأن من أحرقوا البلد،‮ ‬وأفسدوا عليها فرحة عيد ميلادها قبل أشهر سوف‮ ‬يرحلون.‮ ‬وومع مرور السنوات بدأت تفهم الكثير،‮ ‬‬لكن شيئين آخرين على جانب كبير من الأهمية، ساهما في تكوين وعي سعاد حسني السياسي،‮ ‬واقترابها من الهم الوطني،‮ ‬فقد أكدت أنها أحبّت الثورة،‮ ‬وتعرفت عليها من خلال أغنيات عبد الحليم حافظ التي نظمها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل،‮ ‬وأن هذا استمر حتى بعدما احترفت التمثيل،‮ ‬وتعرّفت على عبد الحليم في فيلم‮ "‬البنات والصيف‮" ‬العام 1960‬.‮ ‬والشيء الآخر هو استمتاعها الشديد بالاستماع إلى خطب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر،‮ ‬ربما ابتداء من أحداث العام ‮6591 (‬تأميم القناة والعدوان الثلاثي‮).‬‮ ‬وعلى الرغم من أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها آنذاك،‮ ‬فإنها كانت تؤكد أنها تعرفت كثيراً على فكر الثورة وفلسفتها من خلال تلك الخطب،‮ ‬بل إن هذه العادة التي بدأت بعبد الناصر تحولت إلى هواية محببّة تلازمها،‮ ‬حيث كانت تجد متعة خاصة في متابعة خطب الرؤساء،‮ ‬وتقول إنها تتابع كممثلة تعبيرات وجه صاحب الخطاب والتلوين في أدائه الصوتي،‮ ‬ومدى نجاحه في التأثير في متابعيه،‮ ‬وهي ميزة ترى أن عبد الناصر كان متفرداً فيها‮.‬

الكرنك
وعلى مدى عمرها ظلّت سعاد تردّد أنها ابنة الثورة،‮ ‬وأنها لم تنقلب أبداً على مبادئها،‮ ‬وحتى بعدما اقتربت من فكر حزب التجمع على‮ ‬أثر زواجها من المخرج علي بدرخان، كان ذلك أيضاً سيراً في اتجاه المبادئ الاشتراكية التي نادت بها ثورة‮ ‬يوليو،‮ ‬بل إن إحدى نقاط تلاقيها فكرياً مع علي بدرخان،‮ ‬كان حبهما لعبد الناصر،‮ ‬ولذلك كانت دهشتها بالغة وهي تتابع الاتهامات التي طاولتها هي وزوجها ـ في ذلك الوقت ـ بعد بطولتها لفيلم‮ "‬الكرنك‮"‬‮ ‬حيث اتهموها بـ‮"‬كرنكة‮" ‬السينما،‮ ‬أي بإرساء تيار كامل من الأفلام ركب موجة الهجوم على مراكز القوى وممالأة السلطة،‮ ‬والانقلاب على الثورة وقائدها،‮ ‬والنيل من مكتسباتها.‮ ‬وكانت تستند في جانب كبير من تلك الدهشة إلى أنّ العناصر الأساسية الثلاثة في هذا الفيلم -هي ونور الشريف ‬وعلي بدرخان-‮ ‬يعرف الجميع انتماءاتهم جيداً،‮ ‬وأن الفارق كبير ولا‮ ‬يحتمل المزايدة بين أن تهاجم الثورة وأن تنتقد أخطاءها،‮ ‬وهذا هو ما حدث في فيلم‮ "الكرنك‮".

وقد تمنّت سعاد كثيراً أن تقدّم فيلما‮ً ‬يحكي سيرة عبد الناصر،‮ ‬هذه الأمنية كانت سابقة بسنوات على ظهور فيلمي محمد فاضل وأنور القوادري،‮ ‬وقيام كل من أحمد زكي،‮ ‬وخالد الصاوي بأداء دور الزعيم الراحل في الفيلمين‮.‬ أما هي فكانت ترى نفسها في دور السيدة تحية، زوجة الرئيس عبد الناصر،‮ ‬حيث كانت تؤمن بأن لتلك السيدة دوراً مهماً في حياة مصر،‮ ‬على أية حال ربما كان هذا الميل الواضح إلى الفكر التقدمي‮ ‬والاشتراكي هو الذي دعا البعض إلى مهاجمتها على أثر المشاركة في فيلم مغربي عنوانه‮ "‬أفغانستان لماذا؟‮" ‬ينتقد‮ ‬غزو أفغانستان من قبل السوفيات. أما هي فكانت حسبتها‮ ‬غير ذلك تماماً،‮ ‬إذ قبلت المشاركة في‮ الفيلم ‬لأنها أولاً ضد عدوان دولة على أخرى أياً كان مصدر هذا العدوان،‮ ‬كما أن أفغانستان دولة مسلمة،‮ ‬والجهة المنتجة للفيلم هى جهة إسلامية وليست الولايات المتحدة الأميركية،‮ ‬ولأنها تثق في صديقها القديم المخرج الجزائرى أحمد راشدي ـ أول من فاتحها في أمر الفيلم المذكور ـ قبل أن‮ ‬يؤول إخراجه كلياً إلى المغربي عبد الله المصباحي‮.‬ وفضلاً عن ذلك كله، فقد ظنّت أن الفيلم من الناحية الفنية فرصة جيدة للنفاذ إلى العالمية،‮ ‬يكفي أنه ناطق بالإنكليزية،‮ ‬وليست له نسخة مدبلجة بالعربية،‮ ‬والفيلم من نوعية الإنتاج الضخم،‮ ‬وتشارك فيه أسماء عالمية كبيرة،‮ ‬أمثال جيمس ماسون،‮ ‬وجوليانو جيما،‮ ‬وإيرين باباس،‮ ‬غير أن الفيلم صادفته مشكلات إنتاجية حالت دون استكمال بعض مشاهده،‮ ‬ومن ثم ظهر بصورة‮ ‬غير تلك التي كانت تتمناها له سعاد حسني،‮ ‬مما أثر بكل تأكيد في حظوظ نجاحه عالمياً،‮ ‬إضافة إلى أن أحداً في الوطن العربي لم‮ ‬يشاهده،‮ ‬بل ربّما لم‮ ‬يسمع عنه أيضاً‮..

(الكرنك)

أما عن تأثير الأحداث السياسية في مشوارها الفني، فيمكن القول بكل ارتياح إن هزيمة ‮7691 تركت أثراً بالغاً في مسيرتها الفنية،‮ ‬فمثلما كانت نجومية سعاد حسني مفاجئة عند ظهورها العام ‮9591، ‬كان نضجها أيضاً كذلك‮.. ‬فجأة مع نهاية ‮8691 ‬وبداية العام ‮9691‬،‮ ‬أصبح كل شيء في سينما سعاد حسني مختلفا كمّاً وكيفا‮ً، ‬اختياراً وأداءً،‮ ‬فكراً ورسالة‮.. ‬ولا‮ ‬سبب واضحاً في هذا التحول نحو النضج سوى هزيمة ‮7691، ‬بحيث‮ ‬يمكن الجزم بأن هذه الهزيمة المريرة لم تفعل بفنان ما فعلته بسعاد حسني،‮ ‬خصوصاً في ظل التفاف مجموعة من مثقفي مصر حولها في تلك الفترة،‮ ‬وعلى رأسهم صلاح جاهين،. ‬فإذا استثنينا مجموعة أفلامها الثمانية التى عرضت العام ‮8691 ‬باعتبارها من إنتاج أو اتفاقات ما قبل‮ ‬حزيران 1967،‮ ‬فإننا‮ ‬يمكن أن نلحظ بجلاء، الفارق بين ما قدمته سعاد حسني قبل الهزيمة وبعدها،‮ ‬فقبلها مباشرة كانت تقدّم أفلاماً من نوعية‮ "‬حلوة وشقية‮"‬،‮ "‬بابا عاوز كده‮"‬،‮ ‬و"الزواج على الطريقة الحديثة‮"‬،‮ ‬ثم حدث التحوّل فجأة لتقدم في العامين التاليين‮ "‬نادية‮" ‬ليوسف السباعي وأحمد بدرخان،‮ ‬و"شيء من العذاب‮"‬‮ ‬لأحمد رجب وصلاح أبو سيف،‮ ‬و"بئر الحرمان‮"‮ ‬لإحسان عبد القدوس‮ ‬وكمال الشيخ،‮ ‬و"الحبّ الضائع‮" ‬لطه حسين وبركات،‮ ‬و‮"‬غروب وشروق‮" ‬لجمال حماد وكمال الشيخ،‮ ‬و"الاختيار‮" ‬لنجيب محفوظ ويوسف شاهين‮.‬

وما  ‬يلفت النظر إلى حد التأمل، أنّه في الفترة التي تلت الهزيمة ‮‬والتي شهدت فيها السينما المصرية أسوأ أفلامها حيث ركزت على تغييب العقل ودغدغة المشاعر الحسّيّة،‮ ‬وأفرزت مجموعة من الممثلات خرجن نجمات من تلك الفترة،‮ ‬فإن سعاد حسني التى كانت مؤهلة لركوب تلك الموجة بالنظر إلى نوعية أدوارها قبل هذا التاريخ،‮ ‬لم تفعل ذلك وهو ما‮ ‬يعتبر دليلاً آخر على أن الهزّة التى تلت الهزيمة ‬قد عدّلت مسار سعاد حسني بالدرجة نفسها والحدّة اللتين انحرفت بهما السينما المصرية عن مسارها الصحيح،. ‬وهذا هو الفارق بين وعي فنان وآخر‮..

وفي كل الأحوال أحبّت سعاد وطنها،‮ ‬وأخلصت له كمواطنة عادية وكفنانة صادقة،‮ ‬وظلت لسنوات تقاسي وحدها محنة المرض رافضة أن‮ ‬يتم علاجها على نفقة الدولة،‮ ‬حيث رأت أن آخرين‮ ‬غيرها أحق منها بهذا العلاج. ‬وحينما طال بها الوقت،‮ ‬وضاقت بها الحال،‮ ‬وافقت على ما كانت قد رفضته من قبل حتى لا تصبح ظروفها الصحيّة عرضة للمزايدات من هذه الدولة أو تلك الجهة أو ذلك الشخص،‮ ‬لا سيما بعدما دخلت إسرائيل طرفاً في المزايدة،‮ ‬وسعاد لديها حساسية زائدة تجاه كل ما‮ ‬يتعلق بإسرائيل،‮ ‬حتى لو كان فيه شفاؤها.‮ ‬ليس هذا فحسب،‮ ‬بل إنها حينما قامت انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول/ سبتمبر‮0002، ‬قررت أن تشارك الفلسطينيين انتفاضتهم ولو على طريقتها الخاصة،‮ ‬فجمعت كل ما كتبه صلاح جاهين من شعر وراحت تنتقي منه ما‮ ‬يخصّ القضية الفلسطينية،‮ ‬وذهبت إلى هيئة الإذاعة البريطانية في لندن لتقدم بصوتها هذه الأشعار مساهمة منها في تلك المعركة الشرسة الدائرة هناك على أرض فلسطين‮.‬
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها