الجمعة 2023/01/27

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

المجدلية التائبة: رسولة الرسل.. لا الخاطئة الباكية

الجمعة 2023/01/27
increase حجم الخط decrease
طرحت دار "سوثبيز" للبيع اليوم، عشر لوحات زيتية من "مجموعة فيش دافيدسون" الخاصة، وهي المجموعة التي أسسها الزوجان الأميركيان الثريان دافيد فيش وراحيل دافيدسون، خلال العقود الثلاث الماضية، وتضم أعمالاً فنية استثنائية تعود بمجملها إلى عصر الباروك الذي ساد أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. تُمثلّ إحدى هذه اللوحات العشرة القديسة مريم المجدلية التائبة، وتحمل توقيع أوراتسيو جنتيلسكي.


وُلد هذا الفنان في 1563 في بيزا، في إقليم توسكانة الذي شهد بزوغ عصر النهضة، وتتلمذ على يد والده جيوفان باتيستا لومي الشهير بالـ"فيورنتيني"، نسبة إلى مدينة فلورنسا. انتقل في سن المراهقة إلى روما، وعمل في المحترفات التزيينية الخاصة بالفاتيكان، وبدأ بشق طريقه منفرداً في نهاية القرن السادس عشر، متّبعاً الطريقة التي تميّز بها كارافاجيو، المعلّم الذي قام بإضفاء جوٍ درامي على مشاهد لوحاته الواقعية، من خلال استغلال تفاوت الضوء والظلال، ويُعتبر من كبار روّاد النهج الباروكي.

من روما، انتقل أوراتسيو جنتيلسكي إلى إقليم ماركي المطلّ على البحر الأدرياتيكي، واستقرّ فيه زهاء عشر سنوات، ثم عاد إلى توسكانة في 1621، وبعد ثلاث سنوات، سافر إلى باريس ليعمل في بلاط ماريا دي ميديشي، ملكة فرنسا ونافارا، التي اشتهرت برعايتها للفنون. وفي 1626، انتقل إلى لندن، ملبّياً دعوة تشارلز الأول ملك إنكلترا، وشغل هناك منصب فنان البلاط الملكي إلى أن وافته المنية في 1639. ترك الفنان الإيطالي مجموعة كبيرة من الأعمال الزيتية توزّعت على متحف وأماكن عديدة في أوروبا، منها لوحة القديسة مريم المجدلية التائبة التي تطرحها دار "سوثبيز" للبيع اليوم.

أنجز أوراتسيو جنتيلسكي هذه اللوحة في مدينة جنوة خلال إقامته في إقليم ماركي، بطلب من أحد نبلاء المدينة، ويُدعى جيوفاني أنطونيو سايولي. وانتقلت هذه الزيتية إلى ورثة هذا النبيل من جيل إلى جيل على مدى أربعة قرون، إلى أن طُرحت للبيع في سبعينات القرن الماضي، فدخلت مجموعة خاصة في لندن في 1975، ومنها انتقلت إلى مجموعة خاصة أخرى في سويسرا في 1988، وبعدها وصلت إلى "مجموعة فيش دافيدسون" في 1999.

في هذه اللوحة التي طولها متر ونصف وعرضها متر وتسعين سنتمتراً، تظهر امرأة عارية الصدر، تلتحف رداءً عسلياً يغطّي حوضها وساقيها. تتمدّد هذه الحسناء أرضاً وسط مغارة مقفرة، وتحدّق بعينيها نحو الأعلى، متّكئة بذراعها اليُسرى على كتاب مفتوح يشكّل قاعدة لجمجمة آدمية استقرّت فوق صفحاته. يتبنّى الرسام نموذجاً أنثوياً مبتكراً ظهر في مطلع القرن السادس عشر، وفيه تبدو مريم المجدلية بهيئة صبيّة عارية ذات شعر كستنائي طويل، ترفع عينيها نحو السماء مبتهلة. فكيف تكوّن هذا النموذج، وكيف شاع؟

رسولة الرسل

يُذكر اسم مريم المجدلية مراراً في الأناجيل الأربعة، فهي في انجيل متّى، إحدى النساء اللواتي رافقن المسيح حين اقتيد للصلب، "وكنّ ينظرن من بعيد، وهنّ كنّ قد تبعن يسوع من الجليل يخدمنه" (27: 55)، كما أنّها كانت حاضرة عند دفن المعلّم في القبر (27: 61)، وقد ظهر عليها المسيح بعد قيامته وتحدّث إليها (28: 10). وهي في انجيل مرقص كذلك واحدة من اللواتي تبعن وخدمن المسيح في الجليل، وحضرن "من بعيد" صلبه (15: 40)، ثم شهدن دفنه (15: 47)، وقد ظهر المسيح لها أوّلاً عند قيامته في أول الأسبوع، وكان "قد أخرج منها سبعة شياطين" في ما مضى، فذهبت و"أخبرت الذين كانوا معه وهم ينوحون ويبكون" (16: 10). وهي في انجيل لوقا، كما في انجيل مرقص، "المجدلية التي خرجت منها سبعة شياطين" (8: 2)، كما أنها واحدة من اللواتي نقلن خبر قيامة المسيح للرسل (24: 10). في المقابل، يقول يوحنا في انجيله إنّ مريم المجدلية كانت واقفة "عند صليب يسوع" مع "أمه وأخت أمه" (19: 25)، وهي من جاءت في أول الأسبوع "إلى القبر باكرًا والظلام باق، فنظرت الحجر مرفوعًا عن القبر" (20: 1)، وهي أوّل من التقى يسوع بعد قيامته من الموت، وأوّل من بشّر الرسل بهذه القيامة.

في الخلاصة، كانت المجدلية احدى النساء اللواتي تبعن المسيح حين كان في الجليل، و"كنّ يخدمنه من أموالهنّ" (لوقا 8: 3)، ممّا يعني أنها كانت ذات ثروة، وقد سارت على درب السيّد بعدما أخرج منها سبعة شياطين ابتليت بها. وثبتت إلى المنتهى، فكانت معه وقت الصلب، ثم عند الدفن، وكانت واحدة من اللواتي حملن الطيب إلى القبر لغسله به، وقد ظهر لها السيد وخاطبها، فذهبت وبشّرت التلاميذ بالقيامة، ولهذا وُصفت منذ القرن الثاني بـ"رسولة الرّسل"، ولقّبتها الكنيسة بـ"الحاملة الطيب والمعادلة الرّسل". تحوّلت هذه القديسة إلى خاطئة تائبة حين خلط البعض بينها وبين امرأة ذكرها لوقا من دون اسم، وقال إنها "خاطئة" علمت بزيارة المسيح لأحد الفريسيين، فـ"جاءت بقارورة طيب، ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تبل قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب" (7: 38).

فينوس التائبة

راج هذا الدّمج في العالم الكاثوليكي تحديداً، وشكّل أساساً لسيرة المجدلية التائبة التي لاقت شهرة واسعة. ومع بروز البروتستانتية، عظُم شأن هذه السيرة، وتضاعف عدد الأعمال الفنية التي تترجمها بلغة الرسم اللون، وأشهرها تلك التي صوّرها تيتيانو وجيامبياترينو في العقود الأولى من القرن السادس عشر. سار أوراتسيو جنتيلسكي على هذا النهج، وجمع في زيتيتّه بين صورة فينوس التقليدية وصورة الخاطئة المسيحية التائبة، وفقاً لتقليد مترسّخ نشأ في عصر النهضة، يقوم على احياء التقاليد اليونانية الرومانية الكلاسيكية. ونقع على اعمال عديدة تشابه في تأليفها هذه اللوحة من دون أن تماثلها، منها زيتية تٌنسب إلى أرتيميسا جنتيلسكي، ابنة أوراتسيو، التي لمعت كذلك في هذا الميدان، وزيتية أخرى تحمل توقيع غويدو كانياشي. وقد بقي هذا النموذج حياً في الذاكرة، كما تشهد زيتية بريشة رائد الرومنطيقية أوجين دولاكروا، تعود إلى 1829.

هكذا حضرت صورة مريم المجدلية الخاطئة التائبة في العالم الكاثوليكي بقوّة، وكادت أن تحجب صورة "الحاملة الطيب والمعادلة الرّسل". في 1969، في عهد البابا بولس السادس، رفضت الكنيسة رسمياً الدمج بين المجدلية التي كانت أول من بشّر بالقيامة، والخاطئة التي بلّلت قدمي المسيح بالدموع، وراحت تمسحهما بشعر رأسها، وتقبلهما وتدهنهما بالطيب. وفي 2016، دعا البابا فرنسيس إلى إطلاق كنية "رسولة الرسل" على المجدلية. بالرغم من ذلك، بقيت صورة المجدلية التائبة حاضرة في الذاكرة الجماعية في زمننا، تماماً كما كانت في الأمس، وعلى مدى قرون.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها