الأربعاء 2023/01/25

آخر تحديث: 11:15 (بيروت)

"عدس بشومر" و"فطائر بالبندورة": مسرح الطعام وحكاياته...وجمهور يطبخ

الأربعاء 2023/01/25
"عدس بشومر" و"فطائر بالبندورة": مسرح الطعام وحكاياته...وجمهور يطبخ
أخذت نجم البندورة ومعتقدات النبتة السامة الحمراء، لتنسج عليها عادات قرية والدتها ونساءها
increase حجم الخط decrease
تعمل المخرجة اللبنانية هبة نجم على سلسلة عروض مسرحية عنوانها "عروض تذوقية" (قدّمت مؤخراً عرضين منها في "مانشن"-بيروت بدعوة من تعاونية "بح")، وهي تحاول من خلالها البحث عن أكلات شعبية مهدّدة بالاختفاء، وتسرد في بناء عرضها طرق تحضيرها وحكايا الناس حولها.

جذبت الأشكال المسرحية التي أُنتجت عبر العصور، اهتمام مجالات العلوم الإنسانية، لا سيما الاجتماعية والانثروبولوجية منها، في محاولة منها لفهم طبيعة المجتمعات بلغتها وطقوسها وكل ما ينتج عنها في حياتها اليومية من عادات وطقوس وطرق تواصل وتأريخ شفهي.

شكَّل الطعام، وطرق التعامل اليومي معه في المجتمعات، منتجاً ثقافياً، ونظّم الحياة الطبيعية والاجتماعية، عبر نشاط يومي متكرّر انبثقت عنه معتقدات وأساطير واحتفالات ونسق تواصل بين الناس. بعض علماء الانثروبولوجيا، اعتبروا أن الطعام كان منذ القِدَم نشاطاً سياسياً يمكن من خلاله تحليل المجتمعات وثقافاتها واقتصادياتها من خلال ما سمّوه نسقاً يومياً متكرراً ينتج الثقافة والمعنى.

‎بين المسرح والمطبخ، علاقة تشابُه لا تخلو من طرافة، فهما فن تحوّل وتمازج. على الخشبة يكون العرض المسرحي نتاج عمل مشترك تسهم فيه أطراف متعددة (كاتب النص، الممثل، المخرج، سينوغرافيا، إضاءة وألوان...) ويُقدَّم إلى جمهور متفرّج. وفي المطعم أو على المائدة، تقدم صنوف من المأكولات هي ثمرة خلط بين العناصر المختلفة من مواد طبيعية وألوان تشبه طقوس العروض المسرحية.



عندما يجلس المتفرجون قبالة الخشبة، لا يرون غير ما يعرض عليهم ممّا تمّ إعداده في الكواليس التي تحجبها عنهم الستائر. كذلك، إذا جلس الحضور على طاولة الطعام، فهم لا يرون ما يتم إعداده لهم في المطابخ الخلفية. فيما تعمل الحداثة اليوم على جعل تحضير الطعام مكشوفاً أمام الحضور، كما تعمل على إشراك هذا الأخير في الإعداد وتحويل المساحة المكشوفة الى ما يشبه عرضاً طقوسياً.

"عدس بشومر"
العرض مساحة مكشوفة على طاولة التحضير والأواني والنار المشتعلة. وقاعة المتفرجين تفرضها طبيعة الأكلة ومكوناتها. طاولات صغيرة والجمهور على الأرض متحلّق حولها. العرض، كما يشي عنوانه، يتألف من مكونين أساسيين. العدس الذي يقدم لنا منذ البداية على صوان، وعلى أضواء الشموع تتم تنقيته من الشوائب غير المرغوب فيها في عملية الطهو. أما الشومر، فتقدمه نجم في منشور العرض المسرحي، كنبتة سحرية اكتشفَتها أو انتبهت إلى وجودها، حين أتى بها خالها من بلدة الخيام في جنوب لبنان، وكانت معه النبتة التي أضحكها شكلها وراحت تبحث عن قصّتها وعلاقة العائلة بها، والتي تترواح من حريص على حمايتها وزرعها وتضمينها في الأطعمة، إلى لا مبالٍ بها. بحثُها هذا أرجعها الى بلدة طفولة والدها، حيث خال الوالد ما زال وحيداً فيها، يزرع ويعيش ويتأمل، ونبتة الشومر ستكون مفتاح الحوار عن العائلة وأسرارها الصغيرة.

حين سافَرت المخرجة الى فرنسا لمتابعة دراستها العليا، كان "الطعام في المسرح المعاصر" موضوع بحثها. اصطحبت معها النبتة التي أصبحت تلازم أكلاتها. ولمزيد من إضفاء المفارقة الضاحكة على العرض، تعرضت نجم لصدمة ثقافية عادت على إثرها إلى لبنان، بعدما علمت أن الفرنسيين يستخدمون الشمر بعكس اللبنانيين، يرمون أوراق النبتة ويأكلون الجذع، فيما يقص اللبنانيون الجذع ويأكلون رأس النبتة.

أما العدس في العرض، فكان مادة حوارية دسمة، ترواحت بين الحكايا والنوادر والأمثال الشعبية وأغاني الأطفال المتعلقة بالعدس وفوائده ودلالاته على المجتمعات الزراعية قديماً، فيما وصل الى السينما في الخمسينات. وبانتظار الطهي والتقديم، وهي مدة العرض الفعلية، عُرض مشهد من فيلم لنعيمة عاكف تغني فيه للعدس في فيلم "أربع بنات وظابط"، فيما تطوي سيرة العائلة مع انتهاء العرض وتتركها بنهايات ناقصة.. "اللي بيعرف بيعرف واللي ما بيعرف بقول كف عدس".

فطاير بالبندورة
وإذا كانت تنقية العدس وطهوه، ممارسة فردية تنم ربما عن انزواء ووحدة، فإن الفطائر شكل من أشكال العمل التشاركي العام مع الفرن الصناعي داخل المجتمعات، والذي نسجت داخله الأحاديث والثرثرات التي بعضها حقيقي وبعضها من نسج الخيال. في عرض "فطاير بالبندورة" مدّت الممثلة والمخرجة هبة نجم، الطاولات، على شكل لوحات خشب الأفران، وأدخلت الجمهور في العجن ورش الطحين وتناقلت الأيدي بشكل دوري الملاعق والمواد المكونة لفطيرة البندورة. العجين أصل رغيف الحياة، وطرق تحضيره وتخميره. توضع أمام الجمهور كرة صغيرة تُمدّ بالأصابع المغمسة بالطحين، في انتظار البندورة التي زُرعت على امتداد طاولة العرض بتاريخها المثير، إذ نسجت عنها الخرافات كنبتة سامة وتم تقبلها بواسطة الحيل وعروض التحدي، لا سيما مع الكولونيل جونسون في الولايات المتحدة الأميركية.

أخذت نجم البندورة ومعتقدات النبتة السامة الحمراء، لتنسج عليها عادات قرية والدتها ونساءها في مناسبات الأفراح والأحزان، ولتضيف اليها احتفالية الفشل في الحب. حكايا جمعتها من فرن قريتها وأضافت إليها الحكايا الحزينة والتجارب الفاشلة في الحب، والعلاقات السامة. احتفالية بالحبّ والحياة لا تخلو من طرافة وأحداث متخيّلة مُهداة الى نساء القرية.

العلاقة بين المسرح والمطبخ علاقة وطيدة. الحضور الدائم للمطبخ في الأعمال المسرحية، لا سيما منها الأعمال المكرسة تاريخياً، لا يهدف الى إضفاء الواقع الشكلي على صناعة المشهد، بقدر ما يقدم دلالات ورموز في فعل "الأكل" ورمزيته وعلاقته بالذاكرة والعاطفة والهوية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها