الثلاثاء 2023/01/24

آخر تحديث: 16:04 (بيروت)

أطلس العَين.. والشفاه أبواب الجحيم

الثلاثاء 2023/01/24
أطلس العَين.. والشفاه أبواب الجحيم
الشفاه أبواب الجحيم
increase حجم الخط decrease
"وجّه توماس مان إلى الفن أفظع تهمة حين بيّن أن كل ذوي الحياة المريبة الغامضة المشكوك فيها، وكل الضعفاء والمرضى والمنحلّين وكل المغامرين والأفاقين والمجرمين... كل هؤلاء أقارب روحيون للفنان".
- آرنولد هاوزر – الفن والمجتمع عبر التاريخ.

... ولندخل الآن في صلب الموضوع: ينوّه بورخيس بالفكرة الغامضة ولكن الرائعة التي أتى بها عالم الطبيعة الإنكليزي فيليب هنري غوس، في كتابه Omphalo، والتي تقول أن الله عندما خلق العالم خلق معه الماضي، والترجمة الإنكليزية لكلمة Omphalo هي navel والتي تعني نقطة الوسط، نقطة الإرتكاز ومن معانيها أيضاً السُرَّة.

في جهة أخرى من العالم، في سهوب أميركا الشمالية بالتحديد، رأى شامانات الهنود الحمر في بعض العيون البشرية ما رآه فيليب غوس في العالم. ثمة عيون حسب هؤلاء الشامانات تحمل مشاهد الماضي السحيق، تحمل من المشاهد ما يتجاوز بالفعل ما قد رآه حاملو هذه العيون... فهذه العيون تختزن كل ما رآه الـancestors، كل ما شاهده الأسلاف في غابر الأزمان. فالعيون في هذا السياق تكفّ عن أن تكون محض أداة بصر، هي الآن بمثابة الخرائط التي ترسم حدودها الروح.

كان ذلك في أحد محلات الحلويات على أوتوستراد خلدة باتجاه الجنوب لما أخذتْ هذه الأفكار تستبدّ بذهني عنوة. المحل يفور بالناس فنحن في العشية الأخيرة من العام 2022 وساعات قليلة تفصلنا عن سهرة استقبال العام الجديد.

كان الرجل يرمق المرأة بنظرات حادة وبِمَدّ من ملامح المقت بينما هي، ومن دون أن تأخذ منه بالاً، كانت تضفي على المكان جواً من البهجة والجمال والحبور. تمثّلتُ الرجل بشعر ذقنه الكث وبشنبه الحليق كأنه واحد من عناصر مكافحة الإرهاب بينما تلك المرأة الجميلة لا تعدو أن تكون إرهابية مزنرة بأحمر شفاه وبتبرّج رائع تريد عبره نسف كل شرع الله.

كنت، أنا الشرطي العتيق، أراقب المشهد بكل خبث وأكرر على نفسي القول، جمال العالم هو فائض عن جسد المرأة بالإجمال... عن أجساد كل النساء. تداخلتْ جغرافيات الشعوب داخل تضاريس رأسي فجأة وتداخلتْ الحقب الزمنية وتشابكتْ كل التأويلات حيال الجسد وكل القناعات الراسخة والتخمينات... أنا الشرطي العتيق.

كان اللاهوتيTertullianous (220- 160) وهو أول من كتب باللاتينية من علماء اللاهوت المسيحيين، يختصر التبرّج في خطيئة الكبرياء، لأن التبرّج حسب هذا اللاهوتي الأصيل هو محاولة لإعادة خلق ما قد خلقه الله، وهو ما يستبطن الادعاء بالتفوق على الرب... بينما الشيخ في محل الباتيسيري كان قد زمّ شفتيه إلا من تمتمات غاضبة.

في أسبارطة حظر شيخ المشرّعين Lycorgus استخدام مستحضرات التجميل، لكن هذا لم يمنع الكيميائي والباحث الأميركي الروسي إسحاق عظيموف، في المعجم الذي وضعه بغية الإنصات إلى ترددات كلمات الإغريق في القرن العشرين، لم يمنعه من تلمّس كلمة cosmetics وأيضاً كلمة cosmopolitan في كلمة Cosmos شديدة العراقة في عالم الإغريق الأولين... أن تعتبر نفسك كائن العالم بإطلاق (cosmopolitan) يعني أن تساهم عبر جمالك البرّاني والجوّاني بشكل خاص في إخراج العالم من حالة الفوضى (Chaos)  إلى حالة الإنسجام (Cosmos) تماماً كأنك نجم يسري في الرحلة اللانهائية للكون. لم يكن رجل الباتيسيري في حالة استواء، لم يكن في حالة انسجام، بينما ذلك الفرح المنطلق من وجه المرأة كان يشي أن العالم على ما يرام.


تخبرنا أدبيات القرون الوسطى أن نجاح الرجال في أي من الأعمال كان ينتهي بطقس تأمّل الـmemento mori أي تذكار الموت، والذي هو عبارة عن جمجمة يحدّق بها هذا المبرّز كل الوقت كي لا يغفل للحظة واحدة أن كل مجد أرضي هو حكماً إلى زوال، بينما ناس قبيلة هورونيا (huronia) في كندا، كانوا حتى أثناء طقوس تشييع محبيهم، يعمدون إلى الرقص بزخم حول إحدى الشجرات الضخام، فهم عبر رقصهم هذا يهيئون الغابة لاستقبال ميتهم وضمه إلى لا تناهي الشجر، لا تناهي الكون ما يشي أن لا شيء في هذا العالم إلى زوال.

لطالما حاول مبشرو الجيزويت، ثني ناس الهورونيا عن هذا الرقص، لأنه يضاد تقاليد الكنيسة، وقد غاب عن هؤلاء الجيزويت – كما يقول أحد الأنثروبولوجيين – أن الرقص بالنسبة إلى هؤلاء القوم هو واقعة متجذرة غيبياً، لكنه ليس كغيب ديانات التوحيد، إنما غيب من نمط آخر يستمد قداسته من جذور الأشجار المشدودة إلى باطن الأرض ومن هناك إلى أقصى أبعاد السماء. إن الحبور المنطلق عبر ملامح تلك المرأة في ذلك الباتيسري يشي بدوره أن للفرح جذوراً في تربة العالم ولن ينتهي إلى زوال.

النواميس تكتب نفسها
أشحتُ نظراتي الدقيقة عنها لأحوط الرجل بهذه النظرات. رحت أراقب تفاصيل حركاته وكل ما يأتي به جسده من معلوم ومجهول. كان جسد الرجل كما تبيّنَته نظراتي في تلك الأثناء ترجمة حرفية للعبارة التالية والمدونة في ذهني عفواً ولست أعلم مصدرها من أين: النواميس تكتب نفسها بشكل مستمر على الأجساد وتنقش حروفها على جلود رعاياها في كل لحظة وآن.
ثمة لاتيني مجهول يقول، وقد استبدّ التاريخ بذهني بما فاق توقعاتي يومذاك، إن الوجه ثمين جداً لأنه يترك أثره في كل مكان. أما الفيثاغوريون فكانوا إبان طقوسهم السريّة يبتهلون للآلهة كي تسكب الروح اللطيفة فوق قسمات الوجوه، فالوجه اللطيف حسب هؤلاء هو انعكاس لوجه الله في العالم وقد لازمت هذه الفكرة كل طرائق الغنوصيين من أهل العرفان وصولاً إلى متصوفة الإسلام... فها هو أحد هؤلاء وقد فاض جسده عنه يقول، إن الله لطّف ذاته فسمّاها حقاً وكثّف ذاته فسمّاها خلقاً... وما جهنّم إلا تجهّم الوجوه كما قال واحد آخر من أهل الصفوة هؤلاء.

أما أنا الشرطي الذي كنت أراقب بصمت، فقد رأيت ذاكرتي تنصبّ فجأة فوق إحدى غرف التحقيق في ما عُرف بمحاكم التفتيش. لم يكن المحقق في تلك المحاكم الدينية ينتظر ما سوف يدلي به اللسان، فالوجه في تلك التحقيقات هو الأولى بالخضوع للتحقيق، الوجه هو محل الإستجواب. إن الوجه شيفرة الروح، خريطة النوايا ومرآة الماوراء وما يمور في القلوب.
لم يكن من الصعوبة بمكان فك شيفرة ملامح رجل محل الحلويات على أوتوستراد خلدة الجنوب، لم يكن عليّ تفلية مجمل نظراته حيال تلك المرأة، امرأة العيد. كان الرجل مشتت النظرات فوق جسد المرأة ووجها إنما كل تلك النظرات كانت تلتحم فوق شفتيها المخضبتين بالأحمر الجميل... لكن الشفاه أبواب الجحيم.

سلاسل الشيطان
ثمة مِن أهل الإيمان في القديم من العصور مَن كان يرى في التبرّج سلاسل الشيطان وكان يشِيْد بتلك البقع التي تظهر فوق البشرة. فتلك البقع، أو "إقحوانات المقابر" كما كان يُطلق عليها، هي نعمة من الرب لتذكير النساء الساعيات إلى مجد الرب بالموت المحتّم وتذكيرهنّ أيضاً بلا جدوى شؤون الأرض، ومع هذا، وعلى الرغم من إيمانها بهذا المجد، كانت زميلتي ليندا في وزارة الداخلية لا تني تكرر أن جل اهتمامها في هذا العالم ينصب على ثلاثة أمور: بيتها، الكوميديا الإلهية لدانتي، ومكياجها المقدس كما كانت تقول. ولم أكن أناقشها البتة حيال هذه الأفكار، ربما لأني آنذاك كنت محل انشغال دائم بتحلل جثة رينيه ديكارت كطالب فلسفة عند موسى وهبة... تحية لليندا حيث هي الآن، وتحية لموسى الذي كان يعشق الشجر.

جربتُ كثيراً أن أَخرُج من الشرطي الذي ما زال يلازمني، وأكف عن مراوحة النظر بين المرأة والرجل، بين الماضي والحاضر، وبين تشابك الثقافات، لكني فشلتُ. فالفيض الشمّي في محل الحلويات وانهماكي بفعل المراقبة كل الوقت، أديا بي في ذلك اليوم لأن أكون شرطياً مكوّناً من محض أنف وعين. فالوجه هو سيّد التحولات والمزاج، ولا أخفي أن الغبطة كانت تصاحبني وأنا أتتبّع سلسلة الأمزجة والتحولات فوق وجهَيْ المرأة والرجل، ففضلاً عن كوني شرطياً سابقاً، فأنا أسعى كي أكون روائياً، وهل ثمة أكثر من الوجوه من يبث الحكايات!

فالجسد بعامة، كما يتفق أهل الإختصاص، هو بناء رمزي بإطلاق، ومن الصعوبة بمكان حصره في تصور لاهوتي أو فلسفي أو حكائي بعينه. وكم رغبتُ في ذلك اليوم بإقناع رجل الباتيسري بهذا الأمر. كان الفيلسوف الفرنسي غابرييل مارسيل يقول إن علاقة الأنا بالجسد ليست مشكلة فلسفية، لكنها "سر فلسفي"، جاعلاً من الثنائيات اللاهوتية والمشيخية في هذا السياق مجرد دباديب من الفرو الأحمر في حضانة الرب الواحد. أما الفرنسي الآخر ميرلو بونتي، وفي phenomenology of perception، فقد رأى أن الجسد هو القَبْلي الأول (apriori) الذي يسبق كل القبليات. فبالنسبة لبونتي، الجسد هو أداة انخراطنا الأولى في العالم وهو العنصر التواصلي الأول بين الجماعة البشرية. فإذا كانت اللغة عبر عديد كلماتها هي اعتباطية الدلالة بل ومتفرعة في المعاجم عبر الحقب والتوظيفات، فإن المعنى في العالم تأسس قبلياً عبر الجسد.

اللغة هي واقعة اتفاقية. أما الجسد فهو واقعة تتجاوز عن أن تكون صوتاً كما هو حال الكلمات المنطوقة، بل إن الجسد، وعذراً لبث هذه الكلمة الإشكالية، الجسد هو كما يرى ميرلو بونتي إلى الأمر واقعة "أنطولوجية" ما يشي أننا كأجساد لا نخضع لمحض ثوابتنا البيولوجية، فنحن عبر مسامات جلدنا تجسيد حي لسرديات التراب ولحاء الشجر وملح البحار والمحيطات والحلزونات... ولنتأمّل في هذا الصدد بماذا ردّ أهل قبيلة الهورينيا على جماعة الجيزويت حيال رقصهم حول الشجر. فللجسد حيله الخاصة لأنه في العمق أقرب إلى أن يكون واقعة سردابية (cryptic) حيث الفيزيقي والميتافيزيقي وحيث المقدس والمدنّس وحيث الطاهر والنجس، وغيرها من الثنائيات الحادة، تنجدل كانجدال نظرات شيخ الباتيسري مع حركة جسد تلك المرأة التي ما كفّتْ عن أن تكون لغزاً تارة، وصراحة فجة تارة أخرى، لكنها بالإجمال كانت ليلتذاك وجه الرب السعيد إذا أردنا أن نستوحي صانع العدسات المكبرة والذي كان يجيد النظر واسمه اسبينوزا. 



فالجسد هو شبكة من العوالم الرمزية التي لا يمكن ضبطها ولا سبر أغوارها، فحتى الألم الذي ينغّص راحة الجسد من المستحيل تلقفه كـ1+1 = 2. كان بوزيدونيوس الصالح يقول مخاطباً ألمه: "خذ وقتك أيها الألم، مهما كنت لجوجاً ومزعجاً فلن تقنعني أبداً أنك شر". أما عند نيتشه فإن الألم قد تجسّد بهيئة كلب: "منحتُ اسماً لألمي، يقول نيتشه، وأسميته كلباً. فهو وفيّ ومفضوح ووقح وهادىء كأي كلب. يمكنني أن أهجوه أن أصبّ جام غضبي عليه". وبكل أحواله فإن الألم الجسدي، كمفردة، يحيل إلى التكفير عن اقتراف الذنوب، فالجذر اللاتيني لكلمة pain هو poena أي الجزاء. أما اللفظ الإغريقي poine والمشتق من السنسكريتية pu، فإنه يحيل إلى التكفير عن اقتراف الذنوب بحق الآلهة أو المدينة أو البيت. فالجسد في هذه السياقات، وبالعودة إلى ميرلو بونتي، ليس objectum أي هو ليس ما يلقى أمامنا مثل سائر الأشياء.

يجعل الأشياء مرئية
كان بول كلي يقول: "إن الفن لا ينتج المرئي، لكنه يجعل الأشياء مرئية". حبذا لو كان بمقدوري ليلة العيد تلك إقناع ذلك الرجل في خلدة أن جسده قد يكون تحفة فنية على الرغم من اضمحلال كل تضاريسه الماورائية والسحرية عبر مبرد تكرار حركات الصلاة منذ قرون وقرون. لطالما ردد ميشال فوكو في سياق حكيه عن الإنضباط الذي يُمارس على الأجساد القول، إن الطفل أكثر تفرداً من الراشد، والمريض أكثر تفرداً من السليم، والمجنون والمنحرف أكثر تفرداً من السوي وغير المنحرف، لكن هل ثمة من يقنع ذلك الرجل الذي كان يزدرد تلك المرأة بقضم النظرات أنها أكثر تفرداً منه بأشواط وأشواط!

شيّعتُ المرأة بنظراتي السعيدة إلى خارج المحل، ولما عدت بوجهي إلى قلب المحل، كان الرجل وقد صار قبالتي تماماً، زائغ النظرات مع ملمح من الحزن يرسم تعابيره الكثة. دنوت منه بضعة خطوات ودفعتُ للكاشير ما يتوجب عليّ دفعه من نقود، ولم أكن على يقين حيال ذاتي بعد فعل المراقبة ذاك. مَنْ أنا؟ أكنتُ شرطياً في ذلك اليوم؟ أم كنت مجرد روائي في عالم الكلمات؟ لا أخفي أن ثمة التباساً حيال ذاتي قد لفّني بذعر.

يقول جوزف كونراد في رواية "العميل السري": "لقد خرج الإرهابي ورجل الشرطة من السلة نفسها". بالعودة إلى عبارة توماس مان والتي استهللتُ بها هذه المادة أسأل: لماذا لا يكون الشرطي والروائي قد خرجا من السلة نفسها؟

... لا يهم، فأنا منذ أسابيع خلت أمعن النظر في الغابة، في التراب ويرقات صغيرة فوق عتبة البيت. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها