الثلاثاء 2023/01/24

آخر تحديث: 10:56 (بيروت)

"بابل" داميان شازيل.. تحية سينمائية مصطنعة

الثلاثاء 2023/01/24
"بابل" داميان شازيل.. تحية سينمائية مصطنعة
هوليوود الجميلة.. هوليوود القذرة
increase حجم الخط decrease
مثل القول الشائع القائل بأنه إذا كان لشيء ما أربع أرجُل، وهزّ ذيله ونبحَ، فهو كلب؛ فمن الواضح أن فيلم داميان شازيل الجديد، "بابل"، قد فُكُّر فيه وكُتب وصُوّر مع تركيز تامٍ لدى صانعيه على جوائز الأوسكار. طاقم التمثيل متعدّد النجوم، مروراً بالظهورات القصيرة لحفنة أخرى منهم، وغزارة الأخبار الترويجية للفيلم منذ أشهر، والتركيز المفرط على البراعة التقنية، لا سيما في تصميم المجموعات وحركات الكاميرا، وقبل ذلك، قصته المصمّمة خصيصاً لتكريم السينما، وخصوصاً كلاسيكيات هوليوود (رهان أثبت سابقاً فعاليته في حصد الترشيحات، كما يتضح من الفيلم الموسيقي متعدد الترشيحات "لالا لاند"، أشهر أعمال شازيل إلى الآن)... كل شيء يشير ويصوّب ناحية حفلة الأوسكار. هذا فيلم أوسكاري بامتياز.

إلا أن "بابل" يواجه صعوبة في تحقيق هدفه. فقد تلقّى خمسة ترشيحات "فقط" في جوائز غولدن غلوب (فاز فقط بجائزة الموسيقى التصويرية، وهي فئة ثانوية نسبياً)، بينما في جوائز "بافتا" البريطانية لم يظهر إلا في ثلاثة فئات، كلّها ثانوية أيضاً. بالحكم على مدى زخرفاته البصرية وحملة الترويج المرافقة له، يجب أن يعتبر مثل هذا الأداء في موسم الجوائز فشلاً سيئ السمعة من قِبل منتجيه. لكن بالرغم من ذلك كله، فعلى الأغلب سيحفظ الفيلم حظوظه في الترشّح لجائزة أوسكار الرئيسية لأفضل فيلم حين تُعلن الترشيحات يوم الثلاثاء المقبل.

تذكرنا القصة بـ"بوابة الجنّة" لمايكل تشيمينو. وهو فيلم انقسم حوله النقّاد في أوائل الثمانينيات، وسعى بلا جدوى لاجتذاب الجماهير، وحدّد نهاية استقلال الشركة المنتجة "يونيتد آرتيستس". قد لا تنتهي الأمور بشكل مماثل بالنسبة لشركة "باراماونت"، منتجة فيلم داميان شازيل الجديد، لأن مثل هذه المشاريع في الوقت الحاضر مؤمَّنة بشكل أكثر استدامة، وما لا يستمر في صالات العرض قد يثير اهتمام بعض النفوس الفضولية على خدمة البث المباشر التي تقدّمها باراماونت، ويأتي ببعض الأرباح الجانبية.



على أي حال، فأرقام شباك التذاكر هزيلة بسبب العاصفة الشتوية التي ضربت الولايات المتحدة أواخر العام الماضي، عطفاً على الحال المتردد عموماً لإيرادات الأفلام بعد جائحة كورونا، وقد يتساءل المرء أيضاً عمّا إذا كان الفيلم الممتد لثلاث ساعات هو نفسه ما لا يريد أن يراه أحد. مثل "بوابة الجنّة"، الذي سعى للإشارة إلى أن "الغرب القديم" (أو "الوايلد ويست" كما يسمّيه الأميركيون) لم يكن بأي حال أرضاً للحرية بل للاستبداد، وأن الحلم الأميركي ليس إلا محض كذبة جميلة؛ يريد شازيل أن يروي قصة بالوعة تاريخية للخطيئة اسمها هوليوود، وربما لم يكن في ذهنه مايكل تشيمينو، لكنه على الأقل فكّر في أعمال مثل "الحياة الحلوة" (1960، فيديريكو فيلّيني)، و"ناشفيل" (1975، روبرت ألتمان)، وبالطبع ملحمة "العرّاب" (1972، فرانسيس فورد كوبولا).

هذا هو السبب في أن الفشل المؤقت لا يعني شيئاً حاسماً، لأنه في الأخير، من الذي يحبّ أن يرى نفسه مجرّداً من أساسه الأخلاقي؟ ثم إنه، بعد سنوات عديدة، أُعيد اكتشاف وتقدير تشيمينو وفيلمه. أما بخصوص إذا ما كان شازيل، الذي مثل تشيمينو، تمتّع بمكانة "الطفل الأعجوبة في هوليوود" بعد فيلميه الأولين، "ويبلاش" و"لالا لاند"، وعانى من أول انتكاسة في شباك التذاكر فقط مع فيلمه "الرجل الأول" (2018)، سيلاقي مصيراً مشابهاً؛ فالوقت وحده سيخبرنا، ومثل "بوابة الجنة"، ربما يوماً ما يكون فيلمه نفسه موضوعاً لفيلم آخر، تماماً كما يحكي فيلم شازيل نفسه عن السينما وسنواتها الأولى. ليس مثل مارتن سكورسيزي في فيلمه الرائع "هوغو" (2011)، عن بدايات العصر الصامت، أو حتى تارانتينو في فيلمه الممتع "ذات مرة... في هوليوود"، عن التغيير في البنية الهوليوودية وصولاً إلى ما جعله مايكل تشيمينو ممكناً. لا يفعل شازيل أياً من هذا، إنما يحكي عن زوال السينما الصامتة ودخول الصوت.


تدور أحداث الفيلم في هوليوود في نهاية عشرينيات القرن الماضي، وهي السنوات التي، رغم أن أحداً لم يكن يعرف ذلك وقتذاك، ستمثّل أيضاً نهاية عصر السينما الصامتة. يُبنى السرد على نموذج كورالي يتيح الفرصة لبطولة جماعية، إذ يتابع مجموعة من الشخصيات خلال تلك الحقبة، ويصحبهم خلال مسيرتهم المهنية والشخصية. نجمة طموحة ستدركها الشهرة وتغرق فيها (مارغو روبي)، نجم سينمائي راسخ (براد بيت)، مهاجر شابّ (دييغو كالفا) يحلم بدور أكبر في مصنع الأحلام، صحافية فضائح فنّية (جين سمارت) تراقب وتروي ما يحدث. كلّهم جزء من عالم كانت السينما فيه لا تزال فناً محفوفًا بالمخاطر في جانبه الإنتاجي والإنساني، ولكنها مع ذلك كانت قادرة على إنتاج وخلق أعمال جليلة وسامية.

تبدأ الأحداث بأقصى سرعة، ويقدّم الفيلم تجربة غامرة في إحدى الحفلات المشهودة المقامة في قلب السينما في تلك السنوات. يبدو فيلم شازيل نسخةً عشرينية جامحة من فيلم سكورسيزي الجامح بدوره "ذئب وول ستريت" (2013)، فهنا أيضاً جنس ماجن، وعربدة منحطّة، ومخدرات وفيرة، ومهرّجو حفلات، ومارغو روبي؛ لكن، هذه المرّة مع براد بيت بدلاً من ليوناردو دي كابريو. يسجّل شازيل كل شيء بدءاً من لقطات تسلسلية معقدة وكادرات مهندَسة تحكمها السيمترية والنسب الدقيقة. النتيجة: يبدو الافتقار (المفترض) إلى السيطرة محكوماً بدقة، ويكشف مبكراً عن حيل المخرج ونواياه وحدود تأثيره (المفترض أيضاً).

نظراً لهذا الهوس بالحفاظ على النظام، يعمل النصف الأول من الفيلم ككوميديا يستمتع فيه أبطاله بنجاحهم، وصعودهم إلى قمة أوليمبوس. من ناحية أخرى، فالشوط الثاني عبارة عن دراما خالصة، تتابع منحنى السقوط المرتقب. بهذا المعنى، لا يمكن لـ"بابل" تجنّب فخّ الأخلاقية، وهو في الواقع كذلك بالفعل، بدءاً من عنوانه التوراتي. وهكذا، فإن كل ما يُرى في البداية بعيون مرحة وممتعة يستحيل عقاباً وقصاصاً في النهاية. من المناسب أن ينطبع الفاصل بين المرحلتين بوصول الأفلام الناطقة، والتي من ناحية تدلّ على انحطاط نظام النجوم "المنحرف" هذا، ومن ناحية أخرى ظهور عالم جديد بروح معاكسة، تحكمه النزعة المتزمّتة لقانون هايز (مجموعة تعليمات للرقابة الأخلاقية التي حكمت إنتاج الأفلام الأميركية التي أصدرتها الشركات الرئيسية من العام 1930 إلى 1968).

يكشف هذا السياق عن تأثير فيلم "الغناء في المطر" (1952، ستانلي دونين)، الدائر حول نفس دراما نجوم السينما الصامتة الذين اضطروا للتكيُّف مع متطلبات السينما الناطقة وتطورات العصر. لا يُخفي شازيل العلاقة ويعرض العديد من الإشارات إلى الفيلم الموسيقي من بطولة جين كيلي، مثل استلهامه الموارب (لكن الواضح في حقيقة الأمر) من شخصيات هوليوودية حقيقية. لكن آخر تلك الإشارات، في نهاية الفيلم، يفضي إلى مشهد مونتاجي قصير يمثّل تكريماً حقيقياً للسينما، مثلما يصبح الشيء الاستثنائي الوحيد الذي يقدّمه "بابل" في خضم مزيجه المفرط (في طوله وألعابه) والمصطنع لتحيّة هوليوود وكراهيتها في الوقت ذاته. رؤية هذا المشهد في صالة السينما قد يجعل الأمر يستحق دفع ثمن التذكرة.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها