السبت 2023/01/21

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

غاشبار ميكلوش تاماش: رحيل فيلسوف المرارة

السبت 2023/01/21
غاشبار ميكلوش تاماش: رحيل فيلسوف المرارة
increase حجم الخط decrease
من العواصم العربية المهزومة، إلى دول شرق أوروبا بعد سقوط السور الحديدي، مروراً بالكتّاب السوفيات الفارين إلى المنفى، نموذج اليساري التائب كان الظاهرة المميزة للنصف الأخير من القرن العشرين. إما بمغادرة الماركسية إلى ما بعد الحداثة، أي استبدال الطبقة بالهويات العديدة المتشظية، أو بالقفز من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. بين هؤلاء، يبرز غاشبار ميكلوش تاماش، واحداً من ألمع مفكري وسط أوروبا، والذي رحل عن عالمنا يوم الأحد الماضي عن 74 عاماً.

ولد تاماش لعائلة من الأقلية المجرية في إقليم ترانسيلفانيا بوسط رومانيا في العام 1948، وتخرج بشهادة في الفلسفة في جامعة كلوج نابوكا قبل أن ينتقل إلى المجر في العام 1978، وهناك انضم إلى الجيل الأخير من مفكّري مدرسة بودابست للماركسية الأوروبية. كان تاماش نوعاً من المتمرد الأبدي، حيث أفكاره مع الأحزاب الشيوعية الحاكمة في البلدين، ففي رومانيا اضطُهد بسبب ما رفض أن يفعله، وفي المجر بسبب ما فعله. وعلى تلك الخلفية انصب مجهوده الفكري والسياسي في الثمانينيات على نقد التراتبيات اليسارية الزائفة منطلقاً من مرجعيات فوضوية.

"قُل وداعاً لليسار" كان نص إعلان توبته في العام 1989، ومثله مثل الكثير من أبناء جيله في مرحلة ما بعد الشيوعية، سيغازل المفكر المجري أفكار اليمين الليبرالي، فدولة أصغر حجماً وأقل تدخلاً على المستوى الاجتماعي تمثل تهديداً أقل من حيث مقومات الاستبداد. القفزة من المعارضة الطوباوية ضد الأنظمة الماركسية إلى براغماتية الحد الأدنى في عصر القطب الواحد، رافقها توجه تاماش إلى السياسة العملية، فسيتم انتخابه نائباً في البرلمان المجري عن تحالف "الديموقراطيين الليبراليين". وبخصوص تلك الفترة من العمل البرلماني، صرح مراراً بلكنة من الندم، أنه قضى سنوات في صياغة القوانين بينما فقد سوق العمل المجري مليونين من الوظائف من دون أن يلفت ذلك انتباهه. الشعور بالعار، هو ما يوجز به تاماش تاريخه النيابي هذا، قبل أن يطلق بيان توبته الثاني، "قل وداعاً لليمين" العام 1994. من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار، إلا أن أفكار الفيلسوف المجري لا تتحرك على قوس بندولي، فهو لا يعود إلى موقعه السابق أبداً، ببساطة لأن الفضاء المفاهيمي الذي هجره مع غيره لم يعد موجوداً بالأساس.

في واحد من حواراته الصحافية، وحين طلب منه التعليق على "مراجعاته" و"استفاقاته"، ردّ تاماش بأن ما دفعه في كل مرة هو المرارة. رصيد منها يتراكم بفعل الخسارة المزدوجة، مرة تحت مظلة اليوتوبيا الشيوعية، ومرة أخرى في الكنف القاسي للديموقراطية النيوليبرالية. إلا أن الإقرار بالهزيمة الكلية لا يساوي بالضرورة التشاؤمية. فبالإضافة إلى تهمة اليأس، وُصم تاماش بالاستعراضية والتذبذب والتيه الأيديولوجي والمساواتية، لكن مرارته كانت حافزاً نحو التفتيش عن الحقيقة والحاجة إلى قلب النقد على ذاته. ففيما وضعه البعض في خانة الاشتراكية الديموقراطية، ظل هو ماركسياً بطريقة فريدة، طريقته الخاصة، حين قدم نقداً للماركسية بواسطة ماركس، وانتقد ماركس بأدوات الماركسية. وفي ذلك السياق يقدم واحداً من مساهمته الأهم في مقال واسع التأثير "قول الحقيقة بشأن الطبقة" (2006)، فهو اتهم التنظيرات الماركسية بخصوص الطبقة العاملة بـ"اللاماركسية"، فليس ثمة ما يستحق الاحتفاء بخصوص البروليتاريا ولا ثقافتها، ففيها صورة "جهنمية" للرأسمالية كما رسمها ماركس بدقّة، هي جزء من بُنيتها حيث يتجلى الاغتراب في مداه الأكثر بؤساً وقسوة.

بحسبه، الماركسية لا يجب أن تكون معنية بانتصار الطبقة العاملة أو تسييدها، بل حلّها تماماً. هكذا، فإن تاماش، على عكس الكثير من منتقدي اليسار الجديد، لم يجد المعضلة في حياد هذا اليسار عن الصراع الطبقي لصالح سياسات الهوية، بل في سوء فهم اليسار لمسألة الطبقة من البداية.

بين تلك الالتفافات النقدية والمراجعات كلها، لم يجرؤ أي من خصوم تاماش على وصفه بعدم الاتساق، فالمبدأ الحاكم الذي ظل وفياً له في تراثه الفكري وعمله السياسي، هو الحرية. ففي ظل القمع الشيوعي، وجد نفسه في الجانب المعارض للسلطة جنباً إلى جنب مع أوربان، رئيس الوزراء اليميني المتطرف حالياً، بل ويقال إنه تظاهر من أجل إطلاق سراحه حين اعتقل من قبل النظام الشيوعي. لاحقاً صار تاماش المثقف الأعلى صوتاً في معارضة أوربان، ونقد سياسات اليمين المتطرف في القارة الأوروبية، حتى استحق، بفضل استشرافه المبكر لصعود اليمين المتطرف، لقب "نبي الفاشية الجديدة".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها