الخميس 2023/01/19

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

"إلهامات" هيبت بلعة بوّاب.. وجوه بلا ملامح تتسع للإسقاطات

الخميس 2023/01/19
increase حجم الخط decrease
تحت عنوان Local inspirations (إلهامات محلية)، تعرض الفنانة اللبنانية، هيبت بلعة بوّاب، مجموعة من الأعمال لدى غاليري Art on 56th - الجميزة-بيروت. وكما ورد في النشرة الخاصة بالمعرض، فمن الواضح أن الأعمال المعروضة لا تعتمد تقنية واحدة، بل تتنقل بين أساليب عديدة في هذا المجال، علماً أن الفكرة العامة تتمحوّر حول موضوع محدّد: البشر في أحوالهم ويومياتهم ومواقفهم، الفيزيائية منها شكلياً، وغير الفيزيائية من حيث مدلولاتها الرؤيوية.

ما من شك أن الحديث عن أحوال الناس وهمومهم أصبح، في أيامنا الحالية، موضوعاً لا مفر منه، تتداوله ألسنة الجميع، صغاراً وكباراً، من زوايا مختلفة، وبحسب مستويات متفاوتة. أشبع المحللون "الأذكياء" الموضوع تحليلاً، وقالوا فيه كلاماً كثيراً، يبدو أن لا فائدة منه سوى شغل فترات حوارية على وسائل الإعلام. الفن التشكيلي، كما هو معلوم، لا يتعاطى اللغة الشفوية. يعمل أصحابه بصمت ومن دون ضجيج. "كل من يريد أن ينذر نفسه للتصوير، عليه أن يبدأ بقطع لسانه"، قال هنري ماتيس ذات يوم، بعدما طرح على نفسه هذا السؤال في كتابه الفني المعنون Jazz، العام 1947. اعتبر الفنان الفرنسي، الذي لم ينحَز يوماً إلى التجريد الصافي، أن دور الصورة يشبه الكتابة في الحالة التصويرية – التمثيلية، وقد تكون هذه الكتابة عبارة عن "خلفية سمعية" لا مرئية، تختفي وراء المتن الملوّن.



لا يقتصر الصمت على الفنانة، صاحبة المعرض، على ما نعتقد، بل إن هذا الصمت ينسحب على شخوصها الكثيرة التي تتوزع بغزارة على قماشات أعمالها. قامات بشرية من أجناس وأعمار متعددة: رجال نساء وأطفال، يبدو بعضهم وكأنهم في صدد الوقوف أمام عدسة مصوّر فوتوغرافي. وجوه محايدة بلا ملامح ومن دون تفاصيل، وكأنها قوالب جاهزة يمكن إسقاط المزايا المطلوبة عليها عند الحاجة. هذا، في حين تبدو قامات، في أعمال أخرى، غير عابئة بإستعراض نفسها، لذا، فإن أصحابها يديرون ظهورهم للمشاهد – المتلقّي، وربما كانوا يسيرون على غير هدى، بحسب ما تشي حركات أجسادهم، وإتجاه نظراتهم الذي تمليه وضعية الرأس المرئي من الخلف. قد يُخيل إلينا أيضاً، إذا ما عمدنا إلى التأويل، بعدما تقصّدنا ألاّ "نستجوب" الفنانة حول الفحوى والفكرة (هذا الإستجواب يكون محرجاً للصانع أحياناً لما يحمله من أسئلة تبسيطية)، نقول إننا لا نستبعد أن تلك الجموع، التي سمحت بها مساحة اللوحة، تسير في ما يشبه التظاهرة، التي لا يمكن أن يعبرّ القائمون بها سوى عن الهمّ، أو الهموم اليومية. المقاربتان المذكورتان تقتربان لصقاً بالموضوعات التي يقوم عليها عنوان النعرض: إيحاءات ترتكز على حالات محلّية قريبة بشدّة من الواقع الذي نعيشه في الوقت الحالي.

في ما يختص بالتقنيات، لم تلجأ هيبت بلعة بوّاب إلى أسلوب واحد. من الملاحظ أن تقنية الإلصاق (كولاج) إحتلت حيزاً بارزاً في طريقة تنفيذ الأعمال. وللمناسبة، قد يكون من المجدي أن نذكر أن جورج براك وبابلو بيكاسو كانا من أوائل من استخدم هذه التقنية ("طبيعة ميتة مع كرسي القصب" لبيكاسو). جرى ذلك خلال الأعوام 1912- 1913، حين ظهرت الأعمال الأولى التي أخذت بهذا المدخل التشكيلي، ومن ثم قامت ميريام شابيرو وميليسا ماير بإعتمادها مع إضافات أخرى. ربما قام كثيرون منا، في روضة الأطفال، في البيت، أو في فصل الفنون، بممارسة هذا الفعل على سبيل التسلية. لكن الإتجاه الفني اكتشف، من حيث الناحية الفنية التطبيقية، أن هناك شيئاً أعمق يختفي وراء عملية الجمع هذه، الناتجة من طريق التراكب البصري. في أعمالها "الكولاجية" المعروضة، أدركت الفنانة أن مفهوماً يتوارى خلف كل صورة أو مطبوعة، واستحضارًا خيالياً لوقائع معينة قد يحدث من خلال تثبيت الصور والكتابات وسواهما جنباً إلى جنب، أو واحدة فوق الأخرى، حين تكون المواد المستعملة، المستهلكة سلفاً، من طبائع مختلفة، ناهيك بالإضافات اللونية الذاتية التي عمدت إليها الفنانة في أعمالها التي نحن في صددها. 



وبالرغم من أن هيبت بلعة بوّاب كانت هدفت، في أعمال الكولاج، على خلق منظور هندسي معين من خلال جعل أحجام الشخصيات الواقعة في المقدمة أكبر من تلك التي في خلفية اللوحة، فإن المحصلة العامة تشير إلى مساحات مسطّحة، لا منظور فيها، ذات خامات مادية مختلفة من حيث التقميش. على أن المحصلة المذكورة تكتسب بعداً بصرياً واضحاً، إضافة إلى استجابتها للمفهوم النظري المقرر سلفاً.

وضعت الفنانة الكثير من ذاتها في ما صنعته، وكأنها هنا تقع في الجهة الواحدة، والمقابلة معاً، لما قاله لوكا غوديسار، الذي إعتمد الإلصاق غالباً في أعماله، حين قال: "كي أقول الحقيقة، لا أعرف... أضع من نفسي كثيرًا في ما أفعله ، لكنني غالبًا ما أدرك ذلك بمجرد الانتهاء من الكولاج، إذ إن العمل يجد عنواناً له. أو عندما أرى ما فعلته مرة أخرى بعد فترة، وأربط هذه الصورة بالموقف الذي وجدت نفسي فيه عندما صنعته. لكنني لا أفعل ذلك أبدًا بوعي، (على خلاف بلعة بوّاب) فغالبًا ما أدرك ذلك لاحقاً. لذلك إذا كان هذا الأمر يُعتبرشكلاً من أشكال التحليل النفسي، فسيكون من دون معرفة بذلك، أو من خلال عدم وعيه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها