الأربعاء 2023/01/18

آخر تحديث: 12:20 (بيروت)

"آل فابلمان" لستيفن سبيلبرغ.. عزاءات السينما وقوتها

الأربعاء 2023/01/18
increase حجم الخط decrease
أخبرنا ستيفن سبيلبرغ قصصاً عن الديناصورات، والجواسيس، والأجانب، والحرب، والواقع الافتراضي، والصحافيين، وأسماك القرش، وأكثر من ذلك، ولكن الآن حان دوره ليروي قصته الشخصية: حكايات طفولته ومراهقته. في فيلمه الجديد "آل فابلمان"، يلتقط المخرج الأسطوري ( 75عاماً) طفولته ومراهقته وتطوّره المبكر كمخرج والدراما العائلية التي شكّلته. وهو يفعل ذلك بتلك الدوّامة الساحرة من الأحاسيس الفنية المُشتهِر بها.


الدقائق الـ15 الأولى، التي ركّزت على طفولة سبيلبرغ (لعب الصغير ماثيو زوريون دوره في تلك المرحلة)، تقليدية، ومألوفة جداً ولا تقدّم سوى القليل من الأمور العاطفية، لكن الفيلم ينطلق فعلياً بمجرد أن نبدأ في متابعة سامي فابلمان (غابرييل لابيل)، بعدما صار مراهقاً، يصنع أفلاماً منزلية، ويعلّم نفسه أن يكون مخرجاً، ويكتشف سراً عائلياً مزعجاً بقدر صعوبته.

يعيش سامي في منزل يهودي تغمره المحبّة مع ثلاث شقيقات، ووالدته ميتزي (ميشيل ويليامز)، وأبيه بيرت (بول دانو)، إلى جانب صديق العائلة العمّ المضحك بيني (سيث روغن). ميتزي ربّة منزل كما يقول الكتاب، كان يمكن لها أن تصبح عازفة بيانو رائعة، ومن تلك الروح الفنية تتفهّم حبّ ابنها سامي للسينما وحاجته للسيطرة على القصص الأخرى. لم يفهم بيرت هذا الأمر تماماً، وهو رجل رقيق ومحبّ يملك روحاً علمية وعملية، يعشق عائلته ولكنه لا يرى أفلام سامي المنزلية على أنها أكثر من مجرد هواية، بينما يتسبّب ترقّيه المهني وتنقّله بين الوظائف في إحداث بعض الشقوق في زواجه.

قوة السينما هي خيط من الخيوط الكبيرة في فيلم "آل فابلمان"، ويتعامل سبيلبرغ معها بعاطفة كبيرة. يصنع سامي أفلاماً حربية وويسترنية وعائلية صغيرة لمشاركتها مع أحبائه، ومن دواعي السرور أن نرى كيف يتحسّن في كل واحد منها، ويجتاز العوائق التقنية لتعزيز تأثير قصصه، ويتعلّم توجيه الممثلين أو حتى وضع الخلافات الشخصية جانباً لأنه من المستحيل تجاهل النجم عندما يكون حاضراً أمامك في الكادر. وبالمناسبة، يستخدم المراهق فنه أيضاً لمحاربة التحيّزات المضطر لاختبارها لكونه يهودياً يعيش في أميركا الستينيات. باختصار، نحن نشاهد أستاذاً سينمائياً في طور الإعداد.

يندمج هذا الجانب السينمائي عضوياً مع الدراما العائلية المركزية في مشهدٍ استثنائي يتضمّن اكتشاف سامي لحقيقة مدمّرة أثناء تحرير أحد أفلامه (بقطعة بيانو مثالية لمرافقة الاكتشاف المزلزل). إنها قوة السينما المتجسّدة ليس فقط في الهروب من الواقع أو الانغماس في عالمٍ سحري، وإنما كأداة لا تضاهى لإيجاد الحقائق العميقة في أشياء تبدو عادية وعابرة.

وفي الحديث عن اللحظات التي لا تُنسى، ظهر الرائع جود هيرش في منتصف الفيلم لسرقة الأضواء بدور العم بوريس في تسلسلٍ تتخلّل قوته بقية الفيلم. بوريس غريب الأطوار، لكنه أيضاً فنّان، ويكتشف على الفور أن سامي فنان أيضاً، لذلك شرع في إفهامه أنه في يوم من الأيام سيتعيّن عليه الاختيار بين فنّه وعائلته. "الفن مثل وضع رأسك في فم الأسد"، هكذا قال للمراهق، الذي يتغيّر عالمه على الفور.

بالإضافة إلى التطور الرائع للشخصية، يتمتّع السيناريو، الذي شارك في كتابته سبيلبرغ وساعده الأيمن توني كوشنر، بالكثير من الفكاهة (مثل ذلك المشهد الغرامي الغريب والمُهلِك لكلوي إيست في دور مونيكا، المغرمة بالمسيح والتي تعثر في سامي على مسيحٍ مراهق وسيم يجيد التقبيل). إلا أننا نجد أيضاً الجرعة المثالية من الميلانكوليا في القصة، وهو شعور ينمو مع تفكّك الأسرة تدريجياً.

كفنانة محبَطة تغرق ببطء في الاكتئاب، تؤدّي ميشيل ويليامز نوع العمل الذي أحبّ تسميته "SAG's" (أي الأداء التمثيلي المُنادى به في جوائز رابطة ممثلي هوليوود) لأنها تمثّل أكثر، بدلاً من التمثيل بشكل أفضل. ومع ذلك، يناسب عملها أسلوب الحكاية الخيالية، القصة المثالية في بعض الأحيان التي يرويها سبيلبرغ. على الرغم من أنّ أداءها المسرحي يغدو مفرطاً ومفتقراً إلى تلك القوة الناعمة التي رأيناها منها في أدوارٍ سابقة، إلا أن ويليامز تملك حضوراً لافتاً يصعب تجاهله أو التقليل من تأثيره.

أما غابرييل لابيل فهو اكتشاف رائع ومُفسّر مثالي لـ"أنا" سبيلبيرغ السينمائية. أداؤه ليس تقليداً أبداً، بل عملاً دقيقاً يفيض بالإخلاص ويصل ذروته خلال القسم الذي تدور أحداثه في كاليفورنيا: ليس من قبيل الصدفة أن هذا هو أفضل أجزاء الفيلم.

من أجل هذه الاستعادة الهوليوودية لسيرته الشخصية (والتي انتظر لإنجازها أكثر من ربع قرن، خوفاً من ردّة فعل والديه)، اعتمد سبيلبرغ على متعاونين ثقات مثل المحرّريْن سارة بروشار ومايكل كان، اللذين قاما بعملٍ ممتاز في جعل الفيلم يتدفّق بسلاسة؛ بحيث لا يشعر المُشاهد (أو على الأقل كاتب هذه السطور) بمدة الفيلم البالغة 151 دقيقة، جزئياً، بفضل سرعة التحرير/المونتاج. يقدّم الموسيقار جون ويليامز أفضل أعماله وأكثرها دقّة منذ سنوات عديدة، إذ يتحرك هنا بعيداً عن الموسيقى التصويرية الصاخبة نحو التزامٍ بالجوهر العاطفي للفيلم ويجعلك تشعر، بفاعلية كبيرة، بالتيار الخفي الكئيب الخافت المضمّن في السرد. وبالمثل، فإن كل مشهد يشتمل على جهاز عرض سينمائي يستحيل شيئاً سحرياً بفضل كاميرا يانوش كامينسكي التي تلتقط الضوء الخارج من الجهاز بهالة ملائكية تقريباً (هناك طبعاً الكثير من النوستالجيا المحمودة في هذه المَشاهد).

"آل فابلمان"، ليس فيلماً آخر عن عشق السينما أو حتى السينيفيليا، كما إنه ليس سيرة ذاتية تقليدية، بل قصة نضوج مخلوطة بملحمية الأفلام الضخمة تستكشف، من موقع حبٍّ وامتنان وحكمة، كيف يمكن لحدث شخصي صعب أن يؤثر عميقاً على تطوّرنا الشخصي والمهني. فيلمٌ يحتفي عبره سبيلبرغ بمحبّة والديه، وتربيته اليهودية وتطوّره المبكر كمخرج، وأيضاً بالسينما أداةً للتسامح والشفاء والأمل ومعرفة الذات والعالم من حولنا.

 

(*) يُعرض حالياً في القاهرة.

حصل الفيلم على جائزة الجمهور في مهرجان تورنتو السينمائي. كما فاز مؤخراً بجائزتي غولدن غلوب لأفضل فيلم درامي وأفضل إخراج. من المتوقّع حضوره بكثافة (وربما فوزه) في ترشيحات جائزة الأوسكار التي ستُعلن في الرابع والعشرين من الشهر الحالي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها