مسرحية blaha... قتلُ الإنسان لا يُساوي ثمنَ طلقةِ رصاصْ

 بلااا أو blaha كما في اللغة الانكليزية، تعني الثرثرة التي لا طائل منها، أو الكلام الفارغ. وهي التسمية التي اختارها المخرج مجد أحمد يونس لنص "مسرحية دعائية" للكاتب الروسي يوري نيكولايفتش يورين (1889-1927) وهي ملهاة هجائية من فصل واحد- تحكي قصة النص عن كاتب ومؤلِّف، يسرد فيها قصَّة حبِّ رومانسية بين موظَّف بسيط ومغنية في مقهى، ويقع في حبّها لتقوده بعدها الأحداث إلى قتلها في النهاية. النص من تمثيل: مجد عدنان يونس، نور الفيصل، أكرم الشيخ، أوس غدير، حيدر طه. حيث يُوقعنا في مَشاهِدَ لعَبَثِ السلطة القامعة التي ينوب عنها المُخرج- أدَّى دوره الممثِّل أكرم الشيخ، وهو يلعبُ ويلهو، ومن ثمَّ يُحطِّمُ نصَّ المؤلِّف- أدَّى دوره الممثِّل مجد عدنان يونس الذي جاء ليحضر "بروفا" لمسرحيته، فيمنعُه حارسُ المسرح- أدَّى دوره الممثِّل أوس غدير- من الدخول حسب أوامر المُخرج.

 صراعٌ محتدم بين قوَّة قاهرة هي المُخرجُ أو السلطة المستبدَّة- باعتبار أنَّ المخرج ديكتاتور- التي لا تتركك تفكِّر؛ بل هي مَنْ يقومُ بالتفكير عنك، وتغيير جنسك ولونكَ وكل مواصفاتك. وهذا ما يرفضه ويُقاومه المؤلِّف الذي سيرى ورغم كل اعتراضاته واستيائه وصراخه؛ بل وعوائه في وجه المُخرج، كيف يمزِّقُ، ومن ثمَّ يسحقُ المُخرجُ أفكاره/ صراعات شخصيات نصِّه الذي كتبه احتفاءً بيوم المرأة العالمي.

 

المخرج مجد أحمد يونس يُفرجينا وبكثيرٍ من التهكُّم والسخرية- والجمهورُ يضحكُ ضحكَ المقهورين من أزمات الغلاء وانعدام الحياة ومشتقاتها التي يعاني منها الناس، أو من المواقف الصدامية القاسية مابين المعقول واللامعقول، والمنطق واللامنطق حيث يُصَيِّرُ المخرجُ الممثِّلُ أكرم الشيخ المؤلِّفَ الممثلَ مجد عدنان يونس من أسدٍ جائع إلى قطٍّ طائع، فيرضخ لكل إجراءاته العدوانية اللاعقلية تجاه فكره الإنساني.

 فالقولُ عند المؤلِّف يصيرُ اللاقول عند المُخرج الذي يحكم ويتحكَّم في الناموس الطبيعي والكوني للقوانين الموضوعية لحياة الإنسان الذي وُلِدَ حُرَّاً، وهذا ما تفعله الدول الأمنية بشعوبها، تُغيِّر جنسهم؛ بل تمحوهم إِنْ لزم.

المُخرج مجد أحمد يونس في لعبته المسرحية هذه في (بلااا blah)؛ يفرجينا نماذج إنسانية قوية في إحساسها ب (لا) منطقية، ولا معقوليةِ ولا أخلاقيةِ ما نعيشه بصفته "علَّة" تراجيدية، وهذا هو الجانب المؤلم، والذي نصير نكزُّ فيه على أسناننا كمتفرجين، فيما؛ ورغم هذا الألم، وهذه العزلة ما بين المعقول واللامعقول، باعتبارها عزلة هشَّة، يمرُّ، وتمرقُ منها تلك الضحكات التي ضحكناها، والتي بالغَ طويلاً في اجترارها الممثلان أكرم الشيخ بِدَوْر المُخرج وأوس غدير بدور حارس المسرح- خاصَّة الممثِّل أكرم الذي تماهى مع دوره من الناحيتين الفيزيولوجية والنفسية دون مراعاة أنَّ دوره وهو يمثِّل، وهو يتكلَّم؛ إنَّما هو فعل إرادي وعقلي، وأنَّ الممثِّل لا يبتلع ولا يفترس دور الشخصية التي يؤدِّيها، إنَّما هو يعيشها، يستعيدها ويوضِّحها، وبشعورٍ فلسفي. فلا يغالي ويبالغ بدلالات دوره أو يقسرها. وهذا ما انتبه إليه الممثِّل مجد عدنان يونس بدور المؤلِّف، فأدَّى دوره بحسابات وبأبجديةٍ كما لو إنَّه صمٌّ بُكمْ، لقد عاش الدور، كان يُدرك حجم الفاجعة التي حلَّت به وبنصِّه المسرحي وقساوتها ولا معقوليتها وتمريغ عقله ودوسِهِ بالحذاء على يد المُخرج- لكنَّه كان منضبطاً فلا يفرِّط بالقوَّة الحدسية لما يمكن أن يفعله الديكتاتور المُخرج الذي تحوَّل إلى وحش- نلاحظ أنَّ زيَّ لباسه وكذلك زيَّ لباس حارس المسرح، تصميم المخرج مجد أحمد يونس، تقليدٌ لأبطال أفلام الكاوبوي؛ أفلام الغرب الأميركي، فقتلُ الإنسان عنده لا يساوي ثمن طلقة رصاص، فيما لباس المؤلِّف يدلُّ على الوقار والاكتمال، لا صرخات عولمية فيه - أزياء اللباس في العرض المسرحي مفتاح الشخصية تقوم بخلق الإيهام بالعمر والمهنة والجنس.

 الذلُّ والإذلال ثروةُ المُخرج وحارسه المطيع، وقد حوَّلها إلى سلعة للاستهلاك المباشر يفرضها بالقوَّة رغم إنَّه لا طلبَ عليها- المؤلِّفُ وكذا الناسُ، هي عندهم سلعة، ولكنَّها سلعة مُحرِّضة على التمرُّد- إنَّما في وقتها. وهذا ما كان يخفيه أو يضمره المؤلِّف عندما قبِلَ مُكرهاً على تغيير شخصيات وصراعات نصِّه على يد هذا المُخرج. فيُحقِّق المُخرج مجد أحمد يونس تلك الصورة العامة والنقية. فالأحداث التي كانت تملأ فضاء الخشبة، وإن صيَّرَها هو بصفته مُعدَّاً ومُخرجاً لنص يوري يورين في وجهتها التي راحت إليها، إنَّما لأنَّها ليست أحداثاً مُحدَّدة من قبل الآلهة، ولا قضاءً وقدراً، ولا صدفةً أو خطأً. إنَّها أفعالٌ قصدية ماكرة لهذه القوَّة، وكأنَّ الألم والشقاء، وفقدان الكرامة الإنسانيةُ هي ضرورة لكي يعيش المُخرجُ المُستبدُّ.