الأحد 2023/01/15

آخر تحديث: 09:18 (بيروت)

الرابطة الأرثوذكسيّة اللاهوتيّة العالميّة في فولوس

الأحد 2023/01/15
increase حجم الخط decrease
هي، في العادة، مدينة خفرة الحضور في الشتاء، وكأنها حلزونة تختبئ في بيتها الرهيف. أمّا في الصيف، وعلى الرغم من موقعها الجميل على الأبيض المتوسّط، فهي لا تجتذب قوافل جرّارةً من السيّاح كبعض مدن البرّ اليونانيّ والجزر الإغريقيّة المعلّقة على صدر الماء ببياضها المرمريّ. لكنّ فولوس، المدينة المشلوحة على منتصف الطريق بين العاصمة أثينا وسالونيك البيزنطيّة، تمتاز بما تحسدها عليه سائر المدن اليونانيّة الأخرى، أي أكاديميّتها اللاهوتيّة، التي باتت تُعتبر قبلة أنظار أهل العلم، إذ تستقطب منذ نيّف وعشرين سنة خيرة العقول في اللاهوت والفلسفة والتاريخ والعلوم الاجتماعيّة بين كاليفورنيا وسيوول.

إبّان الأيّام الأربعة الماضية (11-14 كانون الثاني/يناير)، كانت فولوس وأكاديميّتها على موعد مع أكبر مؤتمر لاهوتيّ أرثوذكسيّ في العالم: اللقاء الدوريّ الثاني للرابطة الأرثوذكسيّة اللاهوتيّة العالميّة (IOTA)، التي انطلقت فكرة تأسيسها العام 2016، وعُقد مؤتمرها الأوّل في مدينة ياش من أعمال رومانيا العام 2019. أمّ فولوس الصغيرة، للمشاركة في هذا المؤتمر، نحو أربعمائة امرأة ورجل من القارّات كافّةً، بمن فيهم حفنة من المطارنة وعدد لا يستهان به من الكهنة والشمامسة، فضلاً عن الأساتذة الجامعيّين وطلبة الدكتوراه وبعض الرهبان والراهبات. وقد كان لبعض الآتين من الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة كالأقباط والسريان حضور لافت، فضلاً عن الكاثوليك والإنجيليّين ودارسي الأديان من غير اللاهوتيّين، الذين جعلوا من التراث الأرثوذكسيّ موضوعاً لأبحاثهم. 
لئن تركّزت أعمال المؤتمر على رسالة الكنيسة الأرثوذكسيّة في عالم اليوم، إلّا أنّ المحاضرات والندوات وحلقات البحث طالت كلّ ما يشغل الكنائس عموماً من هموم وشجون، من قضايا العولمة وظاهرة الهجرة المتصاعدة مروراً بتراجع الانتماء إلى الأديان التقليديّة في بعض أنحاء العالم وازدهاره في أنحاء أخرى، وصولاً إلى علاقة الدين بالحداثة والعلوم والمسائل الجندريّة. وليس من المبالغة في شيء القول إنّ الحرب الدائرة على الأرض الأوكرانيّة أرخت بظلالها على أجواء المؤتمر لا من حيث شبه غياب المشاركات والمشاركين الآتين مباشرةً من الاتّحاد الروسيّ وأوكرانيا فحسب (بعض مَن بات منهم يقيم في ديار أخرى جرّاء الحرب كان حاضراً)، بل أيضاً بسبب المسألة الشائكة التي أعادت هذه الحرب تفجيرها على نطاق لم يشهد له العالم الأرثوذكسيّ مثيلاً من قبل، أي علاقة الكنيسة بالدولة من جهة وعلاقتها بالمجتمع من جهة أخرى من حيث مشروعيّة تحوّلها إلى رافعة للفكرة القوميّة والترويج لها. 

منذ وضعت الحرب العالميّة الثانية أوزارها وخيرة اللاهوتيّين الأرثوذكس لا تألُو جهداً في تفكيك ارتباط الهويّة الكنسيّة بالهويّة القوميّة. غير أنّ خبرة الحرب الأوكرانيّة عمّقت الشعور بالفصام بين الخطاب اللاهوتيّ ذي الطابع النقديّ من جهة، وسلوك المؤسّسة الكنسيّة من جهة أخرى. هذا الفصام آخذ في التعاظم، ويا للأسف. والحقّ أنّه لم يسبق أن عرفت الكنيسة الأرثوذكسيّة مثل هذا الظاهرة التي تتلخّص بلامبالاة القيادة الكنسيّة بما يقوله ويكتبه أفضل لاهوتيّيها ولاهوتيّاتها، وحسبانها أنّها تستطيع الاستمرار عبر مجرّد دفن رأسها في التراب واستنساخ ذاتها من دون أيّ مساءلة. من كندا إلى الهند مروراً برومانيا وصربيا والشرق الأوسط يترسّخ الشعور بأنّ الكنائس الأرثوذكسيّة الرسميّة لا تقيم وزناً لدعوات الإصلاح والمراجعة التي تنطلق من رحمها، بل تمعن في الخلط بين الدينيّ والقوميّ والثقافيّ، وصولاً إلى مغازلة الساسة أحياناً، وتحويل الأجندات السياسيّة إلى مادّة للوعظ والتعليم الدينيّ. 

المؤتمر الثاني للرابطة الأرثوذكسيّة اللاهوتيّة العالميّة في فولوس هو، ولا شكّ، عرسٌ فكريٌّ غامر ومناسبة للتلاقي الإنسانيّ والروحيّ. لكنّه يفضح أيضاً ما تعانيه الأرثوذكسيّة راهناً من شرخ عميق بين اللاهوت والممارسة الكنسيّة. لعلّ هذا الشرخ لم يكن يوماً بهذا الحجم…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها