الجمعة 2023/01/13

آخر تحديث: 19:30 (بيروت)

مَحاضر الطائف: الأرشيف الشبحيّ

الجمعة 2023/01/13
مَحاضر الطائف: الأرشيف الشبحيّ
في مدينة الطائف السعودية العام 1989
increase حجم الخط decrease
مع رحيل الرئيس حسين الحسيني، عادت التساؤلات عن مصير "المَحاضر السرية" لاتفاق الطائف الذي "أنهى" الحرب اللبنانية، وأصرّ الراحل أن يبقيها بحوزته محجوبة، إذ اعتبر، ومثله كثر، أن كتمها صون للسِّلم الأهلي.


نُسخ من هذه المحاضر، أو على الأقل أجزاء منها، متوافرة مع سياسيين وزعماء لبنانيين آخرين، إضافة إلى مرجعيات دينية ومسؤولين عرب. وخطير، على ما يبدو، محتوى هذه المحاضر. إذ يقال إنها تُظهر مواقف وهواجس النواب والزعماء، أي رؤساء الطوائف الذين أدلوا بها بصراحة وبلا تحفظ خلال الاجتماعات في مدينة الطائف، وعلى إيقاعها صِيغ الاتفاق. ويُعتقَد أن مضمون المحاضر هذه، يكشف الجهات التي تنازلت عن صلاحيات رئاسة الجمهورية، والثمن الذي تقاضته. كما قد تظهر خلفيات تكريس التوقيع الثالث الذي يمنح وزير المالية القدرة على التعطيل.

لكن السؤال الأخطر يبقى: ما الذي تقوله فعلاً هذه المحاضر، ككيان أرشيفي في سبات طويل داخل كهف عميق؟ عن لبنان، عن اللبنانيين ولَهُم؟ وأي خدمات يقدمها هذا الأرشيف كحاضر بغيابه؟ ولمَن؟... ذلك أن الأسئلة عن المُدوَّن صراحة في مكنون تلك المستندات، لا يصعب التكهّن بإجاباته. أما الإجابة الواضحة على السؤال الأرشيفي لهذه المَحاضر، فهي أقسى وأعنف، إذ تفنّد فعلياً عناصر الحرب الأهلية التي يعيشها اللبنانيون، منذ أكثر من 15 عاماً، خلف ستائر السّلم الأهلي الشفافة.

"لا سلطة سياسية من دون سيطرة على الأرشيف، إن لم نقُل الذاكرة"، يقول جاك دريدا، معتبراً أن الديموقراطية الفعالة تقاس دائماً بمعايير أساسية: المشاركة في صنع الأرشيف، حرية الوصول إليه، تكوينه، وتفسيره.

والسلطة اللبنانية، التي ما زالت هي هي منذ اتفاق الطائف، رغم تفاقُم هنا وتلاشٍ هناك، هي التي تسيطر على هذا الجزء من الأرشيف وسواه الكثير. ليس فقط من خلال حجبه، إذ أن التمسك بالحجب قد يعني أن تغييراً لا ترغب فيه السلطة سيحدث إن خرَج للعلن. في حين أن الحقيقة على الأرجح ليست كذلك، طالما أنه لا مجتمع لبنانياً مكتمل أركان الفاعلية السياسية والاقتصادية، أو مستقلاً بمصالحه عن مصالح السلطة. لكنها تسيطر، بالحجب الرمزي للمستندات، وبالممارسة الفعلية لمضمونها الذي ليس أفضل من وصفه بالسرّ الذائع.

وبُنية الأرشيف تحدد ما يؤرشَف. وبحسب دريدا، لو أتيحت لسيغموند فرويد وزملائه، مُراسَلات عبر الهواتف وأجهزة الفاكس والبريد الإلكتروني، لتغيّر تاريخ وتطوُّر التحليل النفسي برمّته، بناء على طريقة "حدوثه" نفسها: الأرشفة هي مُنتِجة في حد ذاتها، بقدر ما تسجّل ما أُنتج قبلها. وبُنيَة مَحاضر الطائف، كأرشيف مخبّأ ومُعلَن في الوقت نفسه، تزعق باستمرارية السلطة التي أنتجها هذا الاتفاق، وبملامح انهيار الدولة والمجتمع التي نراها اليوم.

لكنها الذاكرة اللبنانية أيضاً. وهذه أتيح لها أرشيف موازِ، غير رسمي. في الأدب. في منجزات مؤرخين موثوقين، إنما قِلّة، ومن دون كتاب تاريخ موحد للمناهج المدرسية. أتيح في السينما، الصحافة وصورها، الأكاديميا، وحتى المتاحف المثيرة للشفقة. وفي مبادرات مدنية متفرقة، منها ما يُبقي حياً ملف مصائر مفقودي الحرب، ومنها ما يعيد كتابة بيروت وطرابلس وغيرها من حواضر البلاد بعَمارتها وأحيائها وناسها قبل أن تتغوّل فيها الحرب، وخلال المقتلة الطويلة، وصولاً إلى السِّلم المُخردق.

أرشيف شخصي حيناً، إبداعي، تخييلي، أو عِلمي أحياناً. جميل ومطلوب وغني، لكنه يبقى ناقصاً. عالم الاجتماع، توماس أوزبورن، يحث على التفكير في الأرشيف باعتباره "مركزاً للتأويل والتفسير"، مثله مثل قاعات المحكمة، جلسات العلاج النفسي، وكلّيات العلوم الإنسانية، وفي الوقت نفسه يراه رافداً لتلك المراكز كلها بما يجعلها تعمل وتستمر.

وعلى بُعد سنوات ضوئية من كوكب أوزبورن، تدور الأرض اللبنانية الدائخة على محور محاضر الطائف السرية وما شابهها. فيما الصراع بين الأرشيف الرسمي الهُلامي، وبين أرشيف نشتريه من المكتبات ونشاهده في السينما، هو الصراع بين الموت واللذة. نزعة الموت التي تدمّر وتلغي، تحذف وتنتقي، تُعلي نسياناً على إبقاء، وتُعدِم ذاكرة. واللذة المرتبطة بالجَمع والحِفظ، بالوعد الذي، عبر سجلات الماضي، يقطعه الحاضر للمستقبل. فكل كَشف هو حَجب، والعكس أيضاً صحيح. والصراع في البرزخ هذا، أرشيف في ذاته.

للأرشيف دور في تشكيل وعي وطني عام مقترن بمُواطَنة ديموقراطية ليبرالية، كأرشيف ألمانيا ما بعد النازية وسقوط جدار برلين. وأرشيفٌ آخر مختلف، هو ما خلّفته بريطانيا بعد استعمار الهند، واشتغلت الهندية غاياتري سبيفاك على استنطاقه وتفكيك ألغامه. التسميات كثيرة: من الأرشيف الخام، إلى الاجتماعي والامبريالي وما بعد الامبريالي. ولا تُخفى، في المقابل، الاستخدامات الاستبدادية للأرشيف كسلاح بتّار في يد الديكتاتورية، بالقدر نفسه الذي يجعله لَبنة بناء في مجتمع حر. "سوريا الأسد" مثال على الأرشيف المسنّن الذابح. وأرشيف لبنان، كيف يوصف؟ فلا هو سيف ولا هو لَبنة. كأنه الشبح في هذه البلاد المسكونة، يُسمع هبوبه السامّ وتُرى جرائمه، ولا قابض عليه.

لطالما رافَق الأرشيفَ، الشكُّ فيه. سارا منذ البداية، يداً بيد. باحثو ما بعد الكولونيالة يتمحّصون مشكّكين في أرشيف الكولونيالية، ساعين وراء الأصوات المكتومة والوجوه المغيّبة، مُراجعين المحفوظات لإعادة كتابتها أو إفساح المجال لظهور الأضعف بسويّة المنتصر الذي كتَب وأرشَف. والدراسات النسوية، تضيء كشّافاتها وتلملم من الماضي قصاصات جانبية لتركيب أرشيف مُكمِّل للمتن الذي همّش النساء في سرديات تاريخية وثقافية وسياسية... لكنك بحاجة إلى أرشيف، أياً كانت تشوهاته وثغراته، لكي تشكّ فيه، تشتبك معه، أو حتى تُجِلَّه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها