الخميس 2023/01/12

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

"امرأة عند النافذة" لرامي طويل: ترتيب شؤون الموت

الخميس 2023/01/12
"امرأة عند النافذة" لرامي طويل: ترتيب شؤون الموت
increase حجم الخط decrease
أكثر ما تشي به مجموعة رامي طويل القصصية "امرأة عند النافذة" هو أن القصة القصيرة قد لا تكون من جهة الدلالة، قصيرة على الإطلاق. غالباً ما تستهويني تلك النصوص التي تخالف توقعات القارىء أو تلك التي تضاد تخميناته، إنما ماذا عن تلك النصوص التي تطلق العنان لمخيلة القارىء من أجل استكمالها؟!

أكثر ما هو مغرٍ في هذه المجموعة القصصية هو أن نهاية كل قصة تستدعي، بالتحايل تارة وبصريح الإشارة تارة أخرى، استئناف بدء آخر. 

قد يستبطن فعل القراءة استدراج القارىء للسكينة، للتأمل، للغضب أو للإنفتاح على الآخرين - وهو ما لا ينطبق عليّ للأسف - وقد يستبطن أشياء أخرى، إنما من الحيوية بمكان أن ينطوي فعل القراءة على رغبة المتلقي باستكمال النص، بالوقوف على ما هو غير مبثوث بالكلمات الصريحة في متونه. 

لست أدري ما هي الغريزة التي تحرّك مجموعة رامي طويل القصصية، بيد أن لغريزة الحزن إسهاماً وافياً في كل قصة من قصص "امرأة عند النافذة"، وكأني بالحزن متلصصاً خفياً لا يني يسترق النظر تارة خفية، وتارة بالعلن عبر هذه النافذة.

على الرغم من تنوّع موضوعاتها وتشتت مآربها وعدم ركونها على نقطة ارتكاز واحدة، إلا أن ثمة هوية واحدة تولّدها هذه النصوص بصراحة: الحزن... فحتى تلك الجثة الضخمة في قصة "سنضحك" والتي تدعو مشيعيها لأن لا يأخذوا الموت على محمل الجد، ولا تكف عن الضحك، هي بلورة لنمط آخر من الحزن، حزن يتوارى خلف الضحك والخفة واللامبالاة ... إنها النصوص المتعينة بغرائبية الحدث وشخصياته، وهو ما نشاهده في قصة بعنوان "المقهى" حيث الشخصية الرئيسية في هذه القصة، كما رأيت أنا إلى الأمر، هي المرآة، لنكون إزاء استدعاء غير مباشر للسؤال التالي: ماذا عندما يكون النص مرآة؟ مرآة صادقة، مرآة كاذبة، مرآة مشوهة أو وهم مرآة. ثمة نص مواز paratext غالباً ما تلفح به المرآة الناس.

في قصة "المقهى" عكست المرآة، الموت المتحقق لمن كان يحدّق في نفسه عبرها، عكست ما لم يقله النص صراحة، ما لم يشر له ببنيان البيان: الإنسان كائن الحطام. في القصة الأولى من المجموعة، "الموتى يعودون"، وردتْ العبارة التالية، "حطام يبدو راسخاً في المكان"... قد يليق بهذه العبارة أن تكون عنوان مجموعة "امرأة عند النافذة" الصادرة عن دار الساقي بطبعتها الأولى. والحطام في مجمل سياقات القص، أكثر ما يتمظهر عبر الدبيب المتأني للموت، فالموت في هذا المحل لا يتقدّم بخطى ثابتة وبدوي الصوت بل تراه أقرب إلى الهسهسة والتمتمة والنقر على الأبواب بالسر.

إن شخصيات هذه المجموعة برمتها هم أقرب إلى كائنات يرتّبون شؤون موتهم منذ الأسطر الأولى للسرد... يقول تيري إيغلتون في "عن الشر": الموت هو ما يجب التدرّب عليه في الحياة إذا ما أريد لها أن تُنجز بنجاح". تنطبق عبارة إيغلتون هذه على سائر شخصيات العمل موضوع القراءة إذ أن النجاح المتألّق الذي يمكن لأي من هذه الشخصيات التباهي به هو النجاح في التصالح مع الموت، النجاح في ترتيب كل شؤون الحياة لتحقيق هذا الإنجاز: الموت. 

لكن هذا لا يعني نهاية القَصّ، ذلك أن المطوي والمنثني والصامت والمخبوء لا ينفك يطلّ برأسه، تماماً مثل تلك المَشاهد التي يتأملها السجين عبر نافذة وهمية في جدار سجنه (قصة النافذة، ص 63). إن القص في هذه المجموعة المحتشدة يعادل في بعض متونه النظرة الخاطفة إلى "سماء متناثرة" حيث القبض على الدلالة الأخيرة للمشهد يقع في ركن المستحيل. 

مرة قال الصديق خورخي لويس بورخيس أن القصة القصيرة هي بمثابة حلم مقتضب أو هذيان قصير الأمد. ثمة الكثير من الهذيان يحفّ وقائع ناس تلك المرأة التي عند النافذة كما صاغ رامي طويل هؤلاء الناس، لكن هذا الهذيان يكفّ عن أن يكون وهماً إذ أن السياق السردي لكل من قصص المجموعة ينم عن الحقيقة التالية: إن الوهم هو الأصل والواقع مجرد وجهة نظر، مجرد طقس عبور، وفي أقصى احتمالاته الواقع هو نمط عيش رتّبه لنا على غفلة منا ذلك الذي نفر منه بأن نطلق عليه كلمة "وهم".

لست أدري أي واحد من أهل الشغل بالنصوص قال مرة إن الأسلوب، فضلاً عن كونه طريقة في الإنشاء، فإنه أيضاً طريقة في إدراك العالم. إن وعينا بالعالم هو واقعة خاصة بنا وليس بالعالم بذاته، هو واقعة نترجمها عبر أسلوب عيشنا وعبر طريقة تلقفنا للأحداث وطريقة حكينا وصمتنا ولفتاتنا وجديتنا أو سخريتنا وصولاً إلى اختيار شكل الموت عند الأكثر شجاعة بيننا، وقد يكون ذلك العجوز في قصة "المتحف" واقعة عينية لهذه الفكرة. ولعل الجدير ذكره، تطابق مصير العجوز في قصة رامي طويل مع شيخ Luigi Pirandello في رائعته القصيرة جداً "أحلام الشيخ"، بصرف النظر عن تباين السياقات والظروف بين كل من العجوزين... إنه السرد الذي لا يحفل في الكثير من الأحيان إلا بإلقاء القبض على الأكثر عتمة في دواخلنا.

ما قلته في هذه المادة هو محض انطباعاتي الشخصية عن ناس امرأة رامي التي عند النافذة، وهي انطباعات قد تخالف تصورات الكاتب جملة وتفصيلاً ولا بأس بهذا الأمر. فبالنسبة لي، العلاقة بين الكاتب ومتلقّيه تقوم على الإرجاء على الإختلاف وأكثر ما تقوم على التناطح بين السردية الثقافية للمؤلف وتلك التي تحتضن وعي أو لا وعي المتلقي المسكين، شأني أنا في هذا الأمر. وكخاتمة لتصوراتي عن هذا العمل، فإن "امرأة عند النافذة" هي في بعض شِيْفْراتها بمثابة الفرصة التي أتيحتْ للذكريات المؤلمة والمكبوتة والمزاحة جانباً أن تعاود الحضور عبر القص والسرد والتلميح وكأننا إزاء "محاولات إحداث خروق في جدار" كما جاء في إحدى قصص الكتاب.

(*) رامي طويل: روائي وقاص وسيناريست سوري. صدرت له في القصّة مجموعة بعنوان «الخاتم». صدرت له عن دار الساقي: «رقصة الظلّ الأخيرة»، «قبل أن تبرد القهوة»، «حيوات ناقصة». 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها