الخميس 2023/01/12

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

عن الشعراوي وأحمد توفيق.. أمراض المثقفين وكتائب قتل الآخر

الخميس 2023/01/12
عن الشعراوي وأحمد توفيق.. أمراض المثقفين وكتائب قتل الآخر
تجلّت أمراض المثقفين لدى مناصري أحمد خالد توفيق، الذين ذهب البعض إلى تسميتهم "أولتراس العَرّاب"
increase حجم الخط decrease
لكي تُحكم الأوتوقراطية قبضتها على المناخ العام، وتسيطر على كل الكيانات والجماعات، وتتوغل بعمق في سائر المجالات والنشاطات، بكل ما تعنيه هذه الأوتوقراطية من تقديس الفردية وتغليب الأنوية المتضخمة وتسييد الصوت الواحد، فإنها في فرضها سيادتها تستعين بمناصرين وأعوان لها، يدعمونها في تعزيز هيمنتها المطلقة، ونفي الآخر وإلغائه، وتأصيل مظاهر الاستبداد، واعتبار هذه المظاهر الاستبدادية هي القاعدة السائدة المقننة في المجتمع، وما عداها هو الاستثناء الباطل.

ومن أسوأ الذين تتخذهم الأوتوقراطية أعوانًا ومناصرين، وأخبثهم على الإطلاق، أولئك المثقفون المدجَّنون، والمبدعون الموجَّهون، الذين يُفترض، ظاهريًّا على الأقل، حماسهم للتعددية والديمقراطية، وانحيازهم الصارخ لحرية الرأي والقول والفعل، واحترامهم للآخر المختلف، وتقبلهم للحوار الإيجابي والجدل البنّاء. وهي شعارات قد يسرّبونها على استحياء هنا وهناك في بعض المناسبات والكرنفالات الاحتفالية، فإذا ما جرى اختبارها على الأرض الساخنة المشحونة بالأحداث والمواقف، انصهرت وتلاشت مثل كرات هشة من الثلج.

وفي هذه الأجواء الغائمة، التي تهدف فيها الأوتوقراطية إلى أن تصير عقيدة يصعب الفكاك من أسرها، وموروثًا جمعيًّا لا يُخطئ أحدًا، فإن النسبة الغالبة من المثقفين، من أصحاب النفوذ والصوت العالي في المنابر الإعلامية وعبر صفحات السوشيال ميديا، هم بحق وصراحة ووضوح: شوفينيون ودوغمائيون ومزدوجون، يمارسون ألاعيبهم الخدمية دون استحياء، كأدوات في يد القمع والأحادية والتسلط والتعمية والتغييب.

ومن مظاهر هذه الشوفينية، التعصب الأعمى للرأي، والعنجهية في التعبير، والإفراط في التحيز اللاعقلاني، والحط من شأن المخالفين وتحقيرهم ووصمهم بالجهل والدونية، وكيل الاتهامات لهم، وربما تخوينهم، ومناصبتهم العداء. ومن سمات الدوغمائية، التحجر والتعميم ورفض النقاش الموضوعي القائم على المنطق والقرائن، وتحويل الاختلاف إلى معارك صوتية زاعقة، وإلى استئساد إرهابي ضد الغير. ومن ملامح الازدواجية، أن هؤلاء المثقفين يتخفّون وراء قناع الحرية والتعددية في حالة تصديهم للدفاع عن مطلب أو هدف أو موقف يوافق هواهم ويخدم مصالحهم، فإذا انقلبت الآية، انقلبوا هم بدورهم فاشيين، من أجل وأد كل ما يجري أو يمكن أن يجري على غير رغبتهم ومطامعهم وانتهازيتهم.

ومن خلال شاهدَين بسيطين عرفتهما الأيام القليلة الماضية في مصر، يمكن تعيين هذه الأمراض كلها في المشهد الثقافي الصادم البائس، الذي يبدو مشهدًا مأساويًّا في طبيعته وحقيقته، وملهاويًّا؛ ربما، في توجهه وهدفه، إذا ما روعي أيضًا في الاعتبار أن خرائط كثيرة تخص هذا المشهد قد رُسمت من أجل التشتيت والتزييف والتدليس وخلق التريند الموازي وصرف الأنظار عن قضايا أكثر خطورة وإلحاحًا، لا يجب أصلًا طرحها للتداول على الموائد الشعبية بأية صيغة من الصيغ.

يتمثل الشاهد الأول في بعض الانتقادات الفنية، العادية، التي جرت بها أقلام البعض، ومنشوراتهم وتعليقاتهم على صفحات السوشال ميديا، وهي تتعرض للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق (1962-2018)، من حيث ثقله الإبداعي، وتصنيفه ككاتب جادّ أم مُدغدغ لمشاعر المراهقين، وتقييم مؤلفاته بشكل مجرّد بغض النظر عن معدلات انتشارها وأرقام توزيعها، وما إلى ذلك من أمور تبدو طبيعية تحت مظلة النقاش النقدي المتزن.

ولم يكد يبدأ الطرح والسجال، حتى تجلت أمراض المثقفين كلها، سالفة الذكر، لدى كتائب مناصري أحمد خالد توفيق المتحمّسين، الذين ذهب البعض إلى تسميتهم "أولتراس العَرّاب"! وبقدر ما راحوا يخلعون عليه قداسة باطلة، فإن أعضاء هذه المافيا أفرطوا أيضًا في إهالة التراب تمامًا على كل من اجترأ على الاقتراب من كتاباته، باعتبارها فوق التقييم والانتقاد والانتقاص. وبدت المبالغات مستحوذة تمامًا على هذه المعركة/التريند، التي تدار بأصابع مشبوهة، وتتخللها جيوش الذباب الإلكتروني، وكأن المراد هو إحداث طنين فارغ، وضجيج بغير طحن.

أما الشاهد الثاني، الذي يبلور أمراض المثقفين، من شوفينية ودوغمائية وازدواجية وعنصرية وغيرها، على نحو أكثر حدة ووضوحًا، فهو ما طفح به المشهد المصري من غثاء إزاء الإعلان عن اقتراب عرض مسرحية تتناول سيرة الشيخ محمد متولي الشعراوي (1911-1998) في أحد مسارح الدولة في القاهرة. وقبيل افتتاح العرض، اعترض مثقفو الصوت العالي على هذه الفكرة، بدعوى أن الشعراوي لا يُحسب على الأئمة المعتدلين، وأنه أقرب إلى التطرف في بعض أفكاره وفتاواه ومواقفه الشخصية، الأمر الذي دفع وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني إلى إلغاء عرض المسرحية، التي كان يُفترض أن يلعب بطولتها الفنان كمال أبورية. وانطلقت جماعة المثقفين (الليبراليين التنويريين)، بعد إلغاء العرض، في تتبع نواقص الشعراوي واتخاذها مادة للحديث اليومي والإعلامي، كما صعّدوا اعتراضهم على العرض الملغيّ، ليطالبوا بمجازاة المسؤولين عن مسرح الدولة في مصر، ومحاسبتهم على موافقتهم المبدئية على مثل هذا العرض، الذي لم ير النور.

والحقيقة أن "الخناقة" التي دارت، ولا تزال تدور إلى الآن، بشأن "هل الذي يُؤخذ عن الشعراوي أكثر أم الذي يُردّ منه؟ وهل يمكن اعتباره، بين قرنائه الشيوخ، أقرب إلى الاعتدال والوسطية والتفتح أم أمْيل إلى التطرف والإرهاب وضيق الأفق؟"، هي خناقة صبيانية إلهائية، لا تضيف أي جديد إلى ما جرى طرحه من قبل حول الشعراوي، في صالحه، أو ضده. وفي حين لم تكتمل دراما مسرحية الشعراوي، التي لم يرها أحد قبل الحكم عليها، فإن دراما أخرى قد اكتملت في المشهد الثقافي المصري، عنوانها من كلمتين اثنتين دالّتين، هما: "الفضيحة العارية".

لقد انطلق المثقفون المعترضون على عمل فني تخييلي، لم يروه أصلًا، من منصّات النفي والحجب والمنع والإقصاء وقتل الآخر، وتجسّدت لديهم كل صفات الشوفينية والدوغمائية والازدواجية للإجهاز على مسرحية ربما كانت تجرّد الشعراوي من قداسته مثلًا إذا أحسنتْ صناعتها، أو تنتقده في بعض تصرفاته ومواقفه وتفتح النقاش حولها بموضوعية من خلال عمل فني، وهو ما يؤتي ثماره في تقييم تراث الرجل بصورة أفضل من حرب الشتائم الجوفاء الدائرة الآن.

ولأنه من البديهيات أن المبادئ لا تتجزأ، فإن هبّة المثقفين من أجل "منع" عمل فني من العرض، بدلاً من رؤيته ثم نقده، هو أمر بالغ الغرابة والطرافة، خصوصًا أن تلك الانتفاضة جاءت تحت شعار حماية الحرية وأربابها من خصومها المتزمتين، الأمر الذي يُذكّر على نحو ما بطرفة القيام بمظاهرة هدفها الدعوة إلى منع التظاهر!

إن مصداقية المثقف على المحكّ، وهي المعيار الأبرز لتصنيفه إنسانيًّا في المقام الأول قبل الاعتقاد به مثقفًا حرًّا مستقلّا. فإذا ما أعلن هذا المثقف الحر مثلًا أنه ضد المصادرة الرقابية للكتب المنشورة بالفعل، وأنه مع مناقشة الكلمة بالكلمة، والحجة بالحجة، ثم إذ به يبادر فجأة بالدعوة إلى وقف طباعة كتاب لم يصدر بعد، ولم يقرأه أحد ليعرف محتواه، فإنها الحالة المرضية المركّبة الميؤوس منها، ولا شفاء من بعدها بالتأكيد. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها