الأربعاء 2023/01/11

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

"صنين" خالد المعالي... حياة واقفة عند أطراف المعاني

الأربعاء 2023/01/11
"صنين" خالد المعالي... حياة واقفة عند أطراف المعاني
عن صفحة "ليبانيز جيوغرافيك سوسايتي"
increase حجم الخط decrease
عندما قرأتُ كتاب "رعوّيات صِنّين وقصائد أخرى" للشاعر والناشر العراقي خالد المعالي (منشورات الجمل)، لفتني أنها من المرات القليلة التي يأتي فيها شاعر من مناطق الداخل العربي ذات البعد الصحراوي، ويذهب إلى جبل لبنان "الملهم" كما يصفه بعض القوميين اللبنانيين، ليكتب عنه، أو يقيم في فضائه. غالباً ما كانت بيروت تشغل الشعراء الهاربين من الأنظمة والباحثين عن الحرية أو الدّور أو المقهى، هي "الخط الأبيض في المحيط الأسود"، حيث يتلاقى الشعراء والكتّاب والمثقفون والفنانون العرب، وقد ساهم العراقيون في بلورة التجديد بسبب حماستهم لطرح كل ما هو جديد، خصوصاً في مجال الشعر. عراقيون بارزون استضفاتهم بيروت... كانت حينها نقطة لقاء بين الرغبة في الخروج من الثقافة العربية النظامية الأيديولوجية، وبين الرغبة في الإفصاح عن المكبوت الثقافي رمز الحرية والتحرر.

"أنشودة" بدر شاكر السياب أصدرها في بيروت، وشاع وقعها في الأذهان، وشكلت "الصدمة". الشاعر بلند الحيدري عرف السجن في العراق قبل أن يعيش سنوات المنفى في ويكتب: بيروت/ يا موتاً أكبر من تابوت/ يا موتاً لا يعرف كيف يموت/ لن يعرف كيف يموت. جان دمو نام فوق سطوح بيروت وثمل في حاناتها وكتب قصائد ضاعت في لياليها، أو قدمها ثمن وليمة عابرة من صديق. مظفر النواب لم تعجبه العاصمة اللبنانية، أول قصيدة كتبها عقب زيارة لها في العام 1969، تمشى الشاعر القادم من بغداد في شارع الحمراء ولاحظ أنه أقرب إلى المدن الغربية منه إلى المدينة العربية، فشعر بالغربة وتساءل: "لماذا استأجرتم لغة أخرى/ وأبحتم وجه مدينتنا لليل؟". سركون بولص كتب: "يمكنك أن ترمي بمفتاحك في البحر، طالما أنّ القفلَ ليس في الباب، ولا الباب في البيت، ولا البيت هناك". قال هذه الكلمات، بعدما غادر العراق في رحلة طويلة شاقة قاطعاً مئات الكيلومترات سيراً على قديمه، قاصداً بيروت لينطلق منها إلى أثينا ولندن وبرلين وسان فرانسيسكو. في المنفى قال: "البدءُ نختاره، لكنّ النهاية تختارنا، وما من طريق سوى الطريق".

خالد المعالي المولود في السماوة، غادر العراق لأسباب سياسية وهو في الـ23 من عمره، على مبدأ "ما من طريق سوى الطريق". لم يمكث طويلاً في بيروت التي كانت محطة عابرة، فهو غادر إلى أوروبا، ناشطاً وشاعراً عائشاً التيه والتشرّد لسنوات، ومشاركاً في إصدار مجلات غير تقليدية. في نهايات الألفية الثانية، عاد ناشراً بشكل مواظب. كنا نراه يراجع مخطوطات كتبه في المقاهي والحانات، منطلقاً في أفكاره الجديدة والجريئة بعد سنوات من التجريب والتلاقي مع الشعراء والكتّاب والبحث عن الثقافة الممنوعة أو "المحرّمة"... ربما يكون آخر ما تبقى من الكتّاب العراقيين في بيروت. في السنوات الأخيرة، بدا عاشقاً للجبل، وجبل صنين تحديداً وسفحه ومنحدراته وسكونه ورعيانه وأفقه، جبل ميخائيل نعيمة ورشيد أيوب. وفي مكان عزلته السنوية، كتب ما يقارب المئة قصيدة، ما بين العامين 2015 و2017، كأنه هناك يعيش خارج ساعته، وزمانه.

أول ما يتبادر إلى الذهن: ما المقصود بكلمة رعويات ومفهوم الشعر الرعوي من التعريفات التي تتطرق إلى معناها وخصائصها. يرى الشاعر الألماني فريدريك شيللر (1758- 1805) أنّ الإيديلا: "صورة عاطفية غايتها ترميم الوحدة المتصدّعة بين الروح الإنسانية والطبيعة". لقد طوّر الإغريق والرومان القدماء هذا النوع من الشعر، فنظموا قصائد وأناشيد رعوية متوسطة الطول غالباً، عرضوا فيها مشاهد الريف، كالأنشودة الاغريقية ليثوكريتوس (310_250 ق.م) الذي يعدّ رائد الشعر الرعويّ، وأناشيد الرعاة لفرجيل صاحب الإنيادة (70_19 ق.م). في كل هذا الشعر، كان الواقع المعطوب حاضراً بكل نتوءاته وتضاريسه، لكنه الحضور المرفوض، وغير المرغوب فيه. 

في "صنينه"، يحدّد خالد المعالي علاقته بالشعر والقصيدة والمعنى والكلمات، لا يتردد في القول إنه "سئم الكلمات التي لديه، معانيها المكرورة،/ وقفاتها في نهاية البيت، اللغة أخذت/ تضيق وشحّ قاموسها، فكان عليه أن، يغور في الأقاصي، أن يشمّ الفراغ". والفراغ على ما جاء في لسان العرب، هو الخلاء... وإذا ما انهدمت أركان البيت في القصيدة، و"ظل القوافي انتفى"، كان الشاعر يسرع إلى "الكلمات الشاردة، المعاني التائهة"، عساه يصل إلى البداية، فهو "متعلّق بالكلمات، بأصدائها، عسى، تقفز الجملة في خياله"، وحياة الشعر بالنسبة إليه "واقفة عند أطراف المعاني"، "سرت علّ الحياة تشرق بضوئها من/ جديد، علّ الخيال يبدو، على الوجه الضحوك/ يأتي، ليمنحني الألق اللازم لكي أجد/ الجملة التي يمكن أن تقودني إلى القصيدة"...

لكن الشاعر الذي تخشبت حياته، فأضحى "تائهاً"، "بلا لون"، ولم ير للحزن "وجهاً"، تتجنبه الكلمات، قلمه يخط الفراغ، يرى الحيرة في الظلال، يعبر حطام الجسر، خلفه من بعيد، تبدو الذكريات "جنّة آفلة"، والنهر يصبح "يابساً" يسحب "أمواهه، ليمضي، وصورة النهر التشاؤمية أبعد من عنوان "نهر الرماد" لخليل حاوي. والشاعر يستعير بيضة الرخ كتعبير عن الحياة والانكسار، ويسأل "أما من موتٍ سعيد، لتشقى به، عسى يعبر بك الليالي يُطلقك، يعيدك ساحراً، فوق الجبال"... وهو "لم يعد يعرف الدفء"، و"يمضي حائراً / في طريق كل شيء فيه تلاشى". عدا التلاشي "يسير بلا هدف"، يهم بالسير من جديد، عساه يمسك الحرف. و"من لا مكان كان يعلّم الدروب/ لكن الحياة تمحوه..."، أضاع الرؤى في الطريق، لكنّه يعدّ لنفسه طريقاً ويغلقه. في الأعالي يسأل "متى تركن النفس، متى يهمد الشرّ"، وحياته التي كانت حطاماً، شالها اليوم بكيس وسار في جنازة نفسه. نسي الحياة التي كانت له.

يحضر اليأس حضوراً لافتاً في قصائد المعالي، فاليأس أضحى "له خيمة"، و"يدق مسماره ثم يمضي ببطء"، و"يعود إليه كلما غربت الشمس" وصار "دثار نومنا". وهو التميمة التي ينتظرها و"أضحى للقادمين مأوى"، وتصل المعاني إلى أن الشاعر يدور في مكانه "يائساً من الكلمات، من الشعر"، و"عريت اليأس في الطريق وصرتُ مثل أيام الفراغ". في المحصلة "كم صار اليأس أملاً"... وعساه "يغلق أبواب بيته وينام؟" و"أرى اليأس وقد تدلى من الغصن، والأمل وقد يبست روحه"، وحتى الأسى "حط بين يديه كطائر"...

هي رعويات المعالي، تبدو مواجهة مع اليأس والفراغ وحطام الأشياء وتلاشيها وأمور أخرى كثيرة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها