الجمعة 2023/01/13

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

"أفاتار: طريق الماء".. الإثنولوجيا الأبدية

الجمعة 2023/01/13
increase حجم الخط decrease
"آه، أمّنا الأرض/ بحقولك الخضراء/ المطروحة من جديد أمام الأيدي الجائعة/ إلى متى يمكنك أن تعطي ولا تأخذي/ وتطعمي هذا العالم الذي يحكمه الجشع."
- نيل يونغ، أمّنا الأرض.

مع أول "أفاتار" حقّقه في العام 2009، فاجأ المخرج جيمس كاميرون جزءاً كبيراً من عالم الصناعة السينمائية، لأن قلة من النقاد والمنتجين رأوا في هذا الهجين السينمائي الغريب من تقنية ثلاثي الأبعاد والخيال العلمي والبحث الميداني الإثنولوجي وموتيفات الغرب المتوحش القديمة (المتماهية بشكل أو بآخر مع وقائع وأحداث معاصرة)، ذلك الفيلم الذي أصبحه لاحقاً: الفيلم الأعلى تحقيقاً للإيرادات على الإطلاق.

والحقيقة، أن الحكاية بعدما رُويت في الجزء الأول، انتهت فعلياً، لكن كاميرون لا يستطيع ولا يريد تركها، إذ يخطّط لإطلاق خمسة أفلام أخرى من السلسلة حتى العام 2028. والآن، بعد 13 عاماً، يأتي الجزء الثاني، متجسدّا بديناصور مستقبلي ينزل إلى الساحة السينمائية ويفترَض به تجاوز سلفه في كل شيء.

ومرة أخرى، نزل الفيلم الجديد إلى الصالات بأبعاده الثلاثية (حيث لا يُنتج تقريباً أي فيلم ثلاثي الأبعاد حالياً)، وبطوله المفرط (يزيد بنحو نصف ساعة أخرى عن الـ167 دقيقة التي تضمّنها سَلَفه)، وبالطبع مزوّداً بذخيرة تكنولوجية هائلة، لا تعني شيئاً في مصطلحات اليوم بخلاف التدخّل المطلق لكلّ ما هو غريب ولا يمكن تصوّره في واقعنا، ولا يختلف كثيراً عن العروض المسرحية "الغرائبية" في أوائل القرن العشرين والعروض الشعبية في القرون السابقة.

وسردياً أيضاً، ينتقل كاميرون إلى مسارات مجرّبة ومعروفة، يقتصر دوره فيها على توسيعها من أجل الوصول إلى المزيد من الفئات المستهدفة. "أفاتار: طريق الماء"، لم يكن ظاهرياً أكثر من مجرد إعادة سرد لتاريخ الإثنولوجيا الحديثة تحت ستار خيال علمي إثنولوجي. فقصته لا تختلف عن مسار تلميذ عالم الأنثروبولوجيا الرائد برونيسلاف مالينوفسكي، السير إدوارد إي. إيفانز بريتشارد (يعتبر على نطاق واسع عالم الأنثروبولوجيا البريطاني الأكثر نفوذاً في القرن العشرين)، الذي انطلق "كضابط استعماري" في العام 1926 لإنجاز بحثه الميداني الإثنوغرافي بين قبائل الأزاندي في السودان، ليصير يوماً بعد يوم منبوذاً من "موكّله" الأصلي؛ تماماً مثل جيك سولي (سام ورثينغتون) الذي ابتعد أكثر فأكثر عن بيئته العسكرية في الجزء الأول من "أفاتار"، بعدما انخرط في انجذابه إلى إحدى بنات السكّان الأصليين على كوكب باندورا، المكلّف بالتجسّس عليهم لتسهيل إبعادهم عن موئلهم واستغلال كنوزهم الطبيعية، لكنه، على العكس، اتخذ جانبهم تماماً، ولم يصبح "أفاتار" فحسب، بل "رجل غابة" حقيقياً عبر عملية تحّول مادي/جسدي اختتمت الفيلم الأول.

يستكمل الجزء الثاني أحداثه بسلاسة بعد عشر سنوات فقط من ذلك الحدث الفارق. الآن، جيك رُزق بأطفال من ثمرة زواجه بحبّه الكبير نيتيري (زوي سالدانا) من الجزء الأول. لكن كما يحدث في الحياة، السعادة عمرها قصير، والجيش المهزوم في الجزء الأول يعود إلى الكوكب ويكرر أفعاله. 


يلتقط كاميرون هنا أيضاً موتيفات الويسترن الكلاسيكية، "هنود" الماضي، الذين قاتلوا في أفلام الويسترن بالأقواس والسهام ضد جنود أميركيين مدججين بالبنادق والمدافع، هم الآن شعب "نافي" الأصلي الطائرون على حيوانات شبيهة بالتنين، ويتعيّن عليهم الدفاع عن أنفسهم ضد أسلحة عالية التقنية وطبيعة الأعماق البحرية. هذا كله شيء أميركي خالص Americana متجذر بعمق، ويُقدَّم باستمرار وبالطريقة نفسها في الجزء الثاني.

وفي "أفاتار: طريق الماء"، يتيح كاميرون أيضًا لبطله أن يفعل ما يفعله بشكل أفضل: بصفته عالماً إثنولوجياً (لكن هذه المرة مع أسرة يرعاها)، يستكشف مجموعات عرقية جديدة خارج غابات باندورا، لذلك، نذهب إلى البحار، إلى المجموعات العرقية التي، على عكس سكان جزر تروبرياند (موضع دراسات برونسيلاف مالينوفسكي)، تعيش في سلامٍ تام، لكنها من ناحية أخرى تشبه عائلات تلك الجزر وتعيش في منازل تشبه العمارة الكلاسيكية للشعوب الأصلية في جزر بحر سليمان. لكن هذا كل ما في الأمر، لأنه على عكس التروبريانديين، حيث سادت الأمومة وكُلّفت النساء بمناصب مهمة في المجتمع، أعاد كاميرون إنتاج الصور الويسترنية النمطية القديمة.

لكن على الأقل هنا يقدّم كاميرون كل ما هو ممكن تقنياً في الوقت الحاضر، هو الفنّان المهووس بالتكنولوجيا والعلوم منذ فيلمه "تيرمناتور" (1984)؛ فيفقد نفسه في رحلات تحت الماء وفوقه، تُذكّر مرة بعد مرة بجماليات أفلام الطبيعة الرائعة لناشيونال جيوغرافيك، لكنها هنا لديها إمكانات أقوى بكثير لمنح تنفيس هروبي نموذجي، بسبب الآخر المتمثل في السكان الأصليين والصور الحاسوبية الرائعة وتقنية التقاط الحركة رقمياً. وهذه الأخيرة تحديداً تجعل من تجربة مثل لعب الممثلة سيغورني ويفر (73 عاماً) لدور فتاة مراهقة، شيئاً يثير الاهتمام. ومع الماء وحتمية التأقلم معه، يبرز موضوع العائلة النووية من خلال شعار/تعويذة "الدم أثخن من الماء"، لكن الأسوأ منه يأتي مع كليشيهات "الطبيعة الأمّ" التي رأيناها بالفعل في الجزء الأول، ونثرها فوق رشّات قليلة من أفكار كارل يونغ والعقل الباطن الجمعي.

لكن هذا كلّه سيكون مجرد أرضية جديدة ضئيلة، حتى بالنسبة إلى فيلم مكمّل. وكاميرون لا يترك الأمر عند هذا الحد، وإنما يريد المزيد، ويكاد يكون جشعاً بقدر الفكرة الرائعة التالية التي يلقيها حرفياً في عمله، إذ يقتبسها من هيرمان ملفيل وروايته الكلاسيكية "موبي ديك"، وبالتحديد، بطلها الكابتن آهاب، الذي يصطاد هنا حوتاً أبيض، تماماً كما في رواية ملفيل.

من الواضح أن كاميرون استغل الحوت الأبيض بروح "فرضية غايا" التي صاغها عالم الأحياء الدقيقة لين مارغوليس والكيميائي جيمس لوفلوك (تقترح هذه الفرضية تفاعل الكائنات الحيّة مع محيطها اللاعضوي على الأرض لتشكيل نظام معقّد تآزري مستتب، بهدف المساعدة في الحفاظ على الظروف المواتية للحياة على الكوكب وإدامتها. وهكذا يُشبه الكوكب، أو بالأحرى المحيط الحيوي، كائناً حياً واسع التنظيم ذاتياً.). فالسمكة العملاقة في الفيلم (أو الحوت) هي الأرض المعذَّبة والمترابطة مع كل شيء. آهاب، من ناحية أخرى، هو نقد كلاسيكي للرأسمالية، الجشع الأبدي للبشرية، والتي هنا أيضاً لا تريد شيئاً من الحوت أكثر مما يريده الناس في أوقات صيد الحيتان، حتى لو كان ذلك يعني زوالها. وهو الأمر الأكثر تهديداً في مستقبل كاميرون، حيث أن الأرض على وشك الانهيار، ومن المفترض أن تكون باندورا ملجأ للناجين، لذلك بالطبع لدينا القليل من العمل البيئي في لوحة العمل.

هناك الكثير من الأفكار والمستهدفات لفئات بعينها ترهق العمل، ويمكن للمتفرج بالطبع الخوض فيه أبعد من ذلك؛ إذا ما اعتبرنا الصراع الموضّح هنا في شكل معركة بانورامية، تكراراً للصراع الأبدي بين داود ضد جالوت، أوكرانيا وروسيا، إريتريا وإثيوبيا، وأي ما شئت من ثنائيات متعاركة وأبدية. وبالطبع هناك الكثير أيضاً مما يمكن تفسيره والتفكير فيه، حول العائلة، وضرورتها، وآبائنا، وما إذا كان من الأفضل عدم معرفة المرء لآبائه في المقام الأول عندما يتعلّق الأمر بحماية "أمّنا الأرض".

"أفاتار: طريق الماء" يحاول التقاط هذا الخليط من المراجع والثقل النظري من حول مواقفه وفخاخه العاطفية في جميع الزوايا والنهايات السردية. لكن أي متفرج سيذهب إلى السينما لتقييم الأفلام على مقياس الدموع أو يحبّ أن يتعمّق أبعد من مستوى تفكير كاميرون، من المحتمل أن يصاب بخيبة أمل، حتى أن المحتضرين يبدون مجرد ضحايا للتكنولوجيا وأشبه بشياطين فزعة. لا يساعد في تغيير ذلك المآل أن يقتبس كاميرون نفسه وينقذ أخيراً العائلة التي لم يكن لها مستقبل على متن "تيتانيك" في تسلسل "تيتانيكي" مطوَّل.

بدلاً من ذلك، ما زال إبهار الإنتاجات الضخمة حاضراً، وبكثير من الإتقان والاقتراحات المصمّمة خصيصاً لهذا الهدف. وبلا أدنى مبالغة، فإن مرئيات الفيلم هي شيء لم تره من قبل في شاشة السينما. لكن، في ما وراء البراعة التكنولوجية وجمال الصور والجانب الغامر من الفيلم، يفشل كاميرون للأسف في إخفاء ضعف السيناريو الذي لا يتجاوز ثلاثة أسطر، بينما يستمر الفيلم أكثر من 3 ساعات. وحتى على مستوى "الحدوتة"، لا يقدّم قصة الإثنولوجيا الأبدية فحسب، وإنما أيضاً قصة مقاومة أبدية. في الماضي، بقدر ما في حاضرنا، وأكثر من ذلك في المستقبل، على كوكب ما.

(*) يُعرض حالياً في الصالات.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها