الثلاثاء 2023/01/10

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

كيف نخلق آلامنا لنعيش؟

الثلاثاء 2023/01/10
كيف نخلق آلامنا لنعيش؟
The Banshees of Inisherin
increase حجم الخط decrease
ضمن تحفة فنية متتالية المعنى، يُقدم المخرج البريطاني مارتن ماكدونا فيلمه The Banshees of Inisherin، الفيلم الذي يرصد علاقة شخصين، في رحلتهما الرتيبة ضمن بيئة قروية بديعة الجمال والبساطة، لجزيرة تدعى إينشيرين، ذات الإطلالة القريبة على الحرب الإهلية الدائرة بقربها. لكن هذا الحدث لا يستدعي من أحد أبطال الفيلم (بادريك)، سوى أن يبدو مُرتبكاً وخائفاً ومحدوداً، وأن يكتفي قائلاً أمام مشهدها البعيد "حظاً موفقاً،.. مهما كان ما تقاتلون من أجله".

لغة الكاميرا تؤسس لزمنين، زمن القرى والجزر البعيدة من الحرب وثقافة المدن ورغباتها وأحداثها، والسكان الممتلئين من الطبيعة والجمال الفطري، وزمن رحلة الذات والجسد في الأرياف، قبل انفجار عصر الرغبة. حتى لغة الكاميرا التي تُلتقط المساحات الواسعة للانفجار الطبيعي، ترصد غرفة نوم وحيدة وصغيرة لأخ وأخت، فرغم كل الفسحة والجمال الطبيعي، إلا أن الضيق الوحيد المطلوب هو اقتراب البشر من بعضهم البعض، حتى ملهى الجزيرة كلها، حانة صغيرة جداً، لا يُمكن فيها لأي أحد أن يقول كلمة من دون أن يسمعها الآخر.


البطل الثاني للفيلم (كولم) مُلاحق من بادريك، بعد طلبه من بادريك ألا يتواصل معه أبداً، وأن تنقطع أواصر الصداقة كُلياً. بادريك ساذج بسيط، لا يملك إلا سجلاً من الاكتفاءات الحياتية في البيئة القروية، والتي تتسول فيها السيدات والرجال القصص من أي أحد. لقطة الكاميرا لدى المخرج تلتقط الحدث الوحيد الذي طفا على سطح الجزيرة (كولم يقاطع بادريك)، لكن لغة الكاميرا تجسد ما هو أكثر، دافع طبيعي يعوض السكان عن أي شيء قد يحتاجونه.

يصور الفيلم علاقات الريف الهادئة في عشرينيات القرن الماضي. تلتقط الكاميرا شخصية كولم في عقده السابع، وهو يتأمل البحر كُل يوم نادماً وحائراً، لماذا لم أعبر البحر؟ لماذا لم أفعل شيئاً من أجل الخلود؟ لغة السينما في متتالية الزمن، هي لعبة مارتن ماكدونا الأفضل، ففي تفكيكه لشخصية كولم، الذي يرفض في حواره مع بادريك صداقتهما التي لا تُنتج معنى، يجعل كولم في مرحلة نفسية خاصة جداً، التفكيك المتدرج للشخصية الانطوائية. أراد كولم التخلي عن صديقه اليومي، بحجة البحث عن المعنى.

في انتظار يوم الأحد، القرية كلها تنتظر كاهن الجزيرة الآتي عبر البحر، يتزين سكان الجزيرة، لنقل الصلوات للرب عبره، ومن ثم غرفة الاعتراف التي يصلها كولم خائفاً من الموت. الكاهن يُشير للقنوط ومساوئه، لكن الجزيرة في حد ذاتها متقشفة وفارغة من حدث الرغبة في الحياة. ماء، اخضرار، وحيوانات تُطعم الجائعين، وسكون هائل للرغبات. الشخص الوحيد الحاد في رغباته يبدو أبلهاً في الجزيرة، (دومينيك) الحالم بالتلصص الجنسي، والذي يفتقد لأي صديق أو صديقة، وحتى إلى أمّ، مكروه من الجميع، لأن حدثه الليبدي الوحيد المنفجر في وجه تقشف القرية هو الحب، بلغته الجسدية الجنسية، فهو الوحيد الذي لا يلتبس شرط الجزيرة الرواقي " تحمل وامتنع".

القصة تبدأ بالقطيعة التي واجه فيها كولم بادريك، وهذا الأخير يُنهي أعماله صباحاً ليتوجه إلى كولم. قطع العلاقة بين الصديقين يصبح حدث القرية، حتى الكاهن لم يستمع إلى كولم، بل عاتبه لمقاطعته بادريك. في تفكك شخصيته، بدأ كولم يحاكي في داخله ذاته، أحلامه في الخلود والتي نمت بعد سنين من الكسل. كولم عازف كمان، حجته لقطع علاقته ببادريك تأليف مقطوعة موسيقية. في مواجهة استعلائية على بادريك البسيط، يقول كولم: أي شيء مهم فعلته اليوم؟ يرتبك بادريك، من السؤال ويكذب في الإجابة. بادريك لا يسأل عن أي معنى خاص لذاته، أخته وكولم وحيوانه الأليف الأقرب حماره.



يقدم الفيلم تحفته النفسية، عبر كولم وبادريك، الانطوائية في حياة كولم، هي احتجاجه الانطوائي بوجه بادريك فقط. الصديقان لا يملكان تجسداً لحياتيهما، إلا الواحد من خلال الآخر، لكن كولم بشخصيته التي تتفكك انفصامياً واجهت ذاتها أولاً، ثم تجسدها المرضي في وجه بادريك. كولم يتمرّد على حياته، وإلحاح بادريك يجعله مستغرقاً في الانطواء على الذات ليجعلها في وجه بادريك كتفضيل جيد لعقابها، من خلال تعذيب نفسه وبادريك معاً. يهدد كولم بادريك، بقطع أصابع يديه في كل مرة يحاول أن يتواصل الأخير معه. هذا الحدث، هو الحدث الوحيد الذي سيكافئ الانتظار لحدثٍ مهم في الجزيرة. كولم بلا مستقبل، رهاب الموت يحتويه، وشعوره بأنه يملك شيئاً فريداً كمؤلف يجعله يعاقب نفسه، مستخدماً كراهية لوجهه الماضوي المتمثل في بادريك صديقه اللصيق. تُقطع الأصابع، التفكيك الانفصامي ينتهي على مستوى البحث من التغيير الانطوائي ومحاولة تجديد الحياة، نحو وجه مازوخي عقابي للنفس كإيجاد دراما للذات وحدث يشغل القرية. كولم حقق حلمه الوحيد في الإثارة، بتقطيع أصابعه، كحجة يحتاجها ليفشل في أن يحقق شيئاً عظيماً. لم تعد المقطوعة العظيمة التي سيؤلفها، مهمة، لأنها في الأصل مستحيلة، ولن يستطيع في أي وقت صنعها. اضطرابه جعله يُحطم هذا الحلم بسرعة، اختار تواصل بادريك معه، أضحية المقطوعة ويديه، كل أصبع هو الأصبع العاطفي الذي يقطعه مع الحلم، ومع الرغبة حتى في صنع الحلم. كيف سيؤلف مقطوعة ويُجربها من دون أصابعه؟ أمّن له هذه السرعة بادريك الذي لم ينفك عنه. لقد انتهى حلم الخلود بإرادة كاملة بقطع الأصابع ثم اليد.

الأصابع المقطوعة، تُرمى على منزل بادريك، حمار بادريك الصغير سيلوك الأصابع، ثم يموت. رغم أصالة العداء الذي حاول كولم في مقاطعته لبادريك أن يصنعه، إلا أنه لم يدع بادريك وحيداً في أي عقبة يواجهها. حمله حينما تعرض للعنف، ولَكَم شرطي الجزيرة من أجله. لكن موت الحمار الصغير جعل بادريك قاتلاً. أيضاً فقد بادريك حلمه الحميمي العاطفي بعد سفر أخته، لقد غادرت الجزيرة هرباً من الاكتئاب واضمحلال حياة الريف. ثم كولم قطع أصابعه كلها من أجل عداء لن ينتهي. بادريك تحول لمضطرب فصامي أيضاً، يُريد موت كولم من أجل الحمار وأخته ومن أجل صديقه الوحيد. لا أعتقد أن المخرج تقصّدن بكل لقطاته المفعمة بالاخضرار والراحةن الحياة الجنة، بل تقصّد شيئاً من غياب الألم وإنتاجه. شوبنهاور يدلي بدلوه هنا: "الألم هو الواقعي الوحيد، وليست اللذة سوى غيابه المؤقت. في شخصية كولم وبادريك، بحث عن الواقع، ولا بد من هذا الألم، إما على النفس أو على الآخر. الأكثر فظاعة ويظهر جلياً في الفيلم، ان مالكوم رغم قطعه لأصابعه ويده لا يتألم كثيراً، التفكك الفصامي يزيح الألم عنه، نحو ذاته، نحو محاولته صنع الحدث أكثر من التألم منه.

مارتن ماكدونا ترك للأسطورة مكاناً، الكنيسة ليست كافية للدلالة الروحية، بل وضع شخصية العجوز كسند للقدَر، الهوس في اختلاق حسّ قدَري، في أي حياة مترفة لا بد من دلالة للموت والألم، كتذكير لما يهرب منه الكل، فكانت شخصية العجوز "ماكورميك" الآتية من الأساطير في تمثلها للموت، فيخلط المخرج سرد مؤلفه بين المبتكر والراسب، ضمن بيئة محتملة في أن تخلو من فضاء راحة الروح بالصلاة والإيمان أو الانغماس في العمل.

الناجية الوحيدة تمضي لتجاوز الجزيرة، كولوم أصبح مقطوع اليد، وبادريك سيقتله في يوم متوقع آخر من أجل الحمار الصغير، الحيوانات كانت تحرس تلك الجزيرة من افتقادات أصحابها العاطفية نحو بعضهم البعض، أو نحو ذواتهم.

فيلم شديد العمق نفسياً ويساوي تحفة سردية، التأويل الأكثر شيوعاً هو العلاقة في جنة مرتاحة، لكن الأهم في الفيلم والأعمق، دلالة حالات نفسية انبساطية وانطوائية وتغيراتها داخل تسلل رحلة الذات في الزمن. لا بد من مشاهدة الفيلم لمرات كثيرة، مثل أي تحفة تعاد مشاهدتها للغرق في تأويلاتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها