الأحد 2023/01/01

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

"دار المعارف".. ما وراء الصورة

الأحد 2023/01/01
increase حجم الخط decrease
في الاحتفال باليوبيل الذهبي لدار المعارف سنة 1941 قال عميد الأدب العربي طه حسين إنه يدين بالفضل لتلك الدار ليس فقط لأنها كانت الناشر الأكبر والأهم، ولا لطبع أعماله وتوزيعها وتعريف الناس بها، لكن لأنها مكنته من تحقيق دخل أتاح له السفر سنويا لأوروبا بشكل منتظم. في ذلك الوقت المبكر الذي كانت أماكن أخرى كثيرة من العالم لاتزال تتلمس طريقها في مسألة الطباعة والنشر، كانت دار المعارف ترعى كتّابها وتدعم سفرهم للخارج للدراسة والتعلّم!

جاء في نص كلمة العميد: "كان عهدي بالكتب التي ننشرها في مصر أنها تكلفنا من العناء في تأليفها وإذاعتها، ثم لا نجني منها شيئاً، أو لا نكاد نجني منها شيئاً، وربما كلفتنا إلى العناء العقلي أثقالا مالية لم نكن نقدر على احتمالها في كثير من الأحيان. فلما اتصلت بمطبعة المعارف ومكتبتها تغير هذا كله تغيراً تاماً. ومن المحقق أن المرتب الذي كنت أتقاضاه من الجامعة لم يكن من شأنه أن يمكنني من الرحلة إلى أوروبا في كل عام هناك حيث كنت أفرغ للراحة أولا، ثم للدرس والإنتاج بعد ذلك. فأنا مدين بالرحلة المنظمة إلى أوروبا، وبما أتاحت لي هذه الرحلة من راحة وإنتاج لمطبعة المعارف ومكتبتها".

بعد مرور 81 عاما على تلك الكلمات، و133 من عمر الدار نفسها تغير الأمر كثيراً، تغيرت ملكيتها ولم تعد اللاعب الوحيد بالتأكيد، وواجهت صناعة النشر نفسها في مصر الكثير من التغيرات والتحولات السريعة والمتلاحقة، وتواجه حاليا أزمة كبرى، لكنها على الأقل لن تكون غير مسبوقة بالنسبة لدار المعارف، فالدار صاحبة التاريخ الطويل رأت الكثير من الأزمات وتجاوزت ما تسبب في اختفاء آخرين. لكن هل ستستطيع حقا التجاوز هذه المرة؟

أجهزة بدلاً من الكتب

صعدت دار المعارف للواجهة مؤخراً بعد منشور جرى تداوله بشكل كبير جدا على فايسبوك ادعى صاحبه تحول أحد فروع المكتبة لبيع الأجهزة الكهربائية عوضا عن الكتب. كتب أنه لم يكن يصدق عينيه في أول الأمر لكنه تحقق من العاملين الذين أكدوا له أن الدار أضافت بيع الأجهزة إلى نشاط بيع الكتب. واستكمل: "تخيلوا أقدم دار نشر مصرية وعربية (1890) مستمرة، واللي بيطلع من تحت ايديها سلسلة طبعات من أهم الطبعات وفضلت لفترة طويلة بتطبع كتب من أهم الكتب العربية، وعاشت تاريخ سياسي وثقافي صخب واصطدمت حتى بالحكومات كذا مرة.. دار المعارف اللي فازت من مفيش كام سنة بأفضل دار نشر عربية… بقيت فيها قسم كماليات واجهزة كهربائية! عارفين نسبة الانحدار! قدروها لوحدكم..". وأرفق كاتب المنشور مع تعليقه صورة من على بعد تتيح رؤية اللافتة التي تحمل اسم الدار لكنها لا توضح طبيعة الأجهزة المعروضة داخل المكتبة.

 بعد ساعات من التداول الكثيف والأخذ والرد على مواقع التواصل خرجت الدار ببيان توضيحي، لم تنف فيه حقيقة الصورة لكنها نفت أن تكون الأجهزة المعروضة أجهزة كهربائية منزلية، أو أن تكون قد أجرت جزء من الفرع للغير، وقالت إنها "أدوات مكتبية (آلات حاسبة – دباسات – خرامات ورق – مساطر – ماكينات فرم – خزن)".

كان بيان الدار موفقاً في التذكير بتاريخها كأقدم دار نشر مصرية وعربية، نشرت ما يربو على الثلاثين ألف عنوان لكبار الكتاب المصريين والعرب إضافة للدوريات والترجمات، لكن جانبه الصواب في تجاهل أزمة النشر العالمية والإشارة فقط إلى ارتفاع تكلفة الإيجار، وهو ما أكده سعيد عبده رئيس مجلس إدارة المؤسسة -ورئيس اتحاد الناشرين المصريين- في تصريحات صحافية قال فيها إن إدارة دار المعارف اتجهت إلى الأنشطة المصاحبة للمكتبات، مثل الأدوات الكتابية، وأدوات قص الورق، وأجهزة التغليف والخزائن، لمواجهة "طفرة في تكلفة الايجارات ارتفعت من ٤٠٠ جنيه إلى ٣٥ الف جنيه، فتم إدخال الأنشطة لمواجهة هذه التحديات التي كادت تؤدى إلى إغلاق بعض الفروع". وشدّد على أن هذه الأنشطة تساعد على سرعة دوران رأس المال لمواجهة متطلبات الزيادة في الإيجار، وهو أمر متعارف عليه في سلاسل المكتبات الكبرى.

تشويه

لكن الأسوأ أن تعتبر الدار كل هذا الاهتمام "حملات تشويه" موجهة ضدها كما جاء بالبيان! رغم أن نظرة سريعة على تاريخ الدار المدون في الكتاب الذي أعده الكاتب الصحافي إيهاب الملاح بمناسبة الاحتفال بمرور 125 على إنشائها، تؤكد أن الاهتمام لم يكن إلا تحسرا من الأوساط الثقافية في مصر والعالم العربي على رحلة شاقة وطويلة بدأت من عند نجيب متري الذي ولد في الشويفات من أعمال جبل لبنان، وتعلّم في مدارسها، ثم انتقل إلى بيروت وتعلم فيها الطباعة، ثم هاجر مع عائلته إلى مصر وتولى إدارة "مطبعة المحروسة" سنة 1884، لكنه تركها وأسس في سنة 1889 "مطبعة التأليف" مع جورجي زيدان، وتركها أيضا لينشئ مشروعه الخاص "مطبعة المعارف ومكتبتها" بشارع الفجالة سنة 1890. وعرف عنه منذ البداية الاهتمام والسعي الدؤوب للنهوض بفن الطباعة العربية، وتعاون مع كبار الكتاب والعلماء والشعراء منهم: خليل مطران، وصالح جودت، وحافظ إبراهيم، ومصطفى لطفي المنفلوطي، وإبراهيم اليازجي، وقاسم أمين.

رحله استكملها إدوارد وشفيق أولاد نجيب متري بعد رحيله سنة 1928 حيث بدأ الأخوان مرحلة جديدة من مراحل التطوير بإدخال الألوان وإصدار السلاسل. رغم أن إدوارد توفي بعد فترة قصيرة من وفاة والده وتولى شفيق الإدارة بمفرده، إلا أنه استطاع تخطى عدة أزمات -منها ما هو مشابه للأزمة الحالية- كنقص الورق خلال فترة الحرب العالمية الثانية، ونجح أيضا في افتتاح فرع جديد للمطبعة وقدم عدة كتب مهمة لعل من أهمها الطبعة الفاخرة من "كليلة ودمنة" في العيد الذهبي للدار، كما استحدث بعدها مجموعة من السلاسل بالتعاون مع كبار كتاب العالم العربي كطه حسين والعقاد، منها: سلسلة اقرأ، وأهل البيت، ومكتبة الكشافة، والدراسات الأدبية، والألعاب الرياضية، والطبّ والصحة، ومجلة الكتاب، وذخائر العرب. إضافة إلى نحو 35 سلسلة للأطفال أشهرها: مكتبة الطفل، ومكتبة التلميذ، والمكتبة الخضراء، ومجموعة قصص الأنبياء.

نقطة تحول

استمرت الدار في التوسع وافتتحت فرع بيروت، وانتقلت المطبعة والإدارة في سنة 1950 إلى الفرع الجديد بكورنيش النيل الذى اعتبر وقتها "أفخم بناء لأكبر دار نشر في الشرق الأوسط". وفي سنة 1963 انتهت فترة إدارة شفيق متري لدار المعارف وبدأ التحول الأكبر في تاريخها بصدور قرار التأميم وانضمامها إلى مؤسسة الأهرام تحت إشراف الكاتب محمد حسنين هيكل، لتطوى صفحة زاهرة من تاريخ الدار وتبدأ مرحلة أخرى دخلت فيها الدار إلى مجال الصحف والمجلات إضافة إلى استمرار دورها كدار نشر.


ينقل إيهاب الملاح عن المؤرخ الأدبي الراحل وديع فلسطين قصة معبّرة عن التحول الذي جرى ربما تكشف منابع الأزمة، فيقول إنها عوملت بعد التأميم على اعتبار أنها دار صحافية بسبب مجلة (أكتوبر) التي ألحقت بها، وارتأى المسؤولون عنها بعد تأميمها الابقاء على صاحبها شفيق متري لكي يشرف على المطابع والعمال مقابل "نفقة" شهرية قدرها مائة جنية وليس مرتبا أو مكافأة، يقول وديع: "عندما التقيت به (شفيق) للمرة الأخيرة في الطريق أخبرني أنه توجه إلى مدير الدار وقال له: كيف أعيش بمائة جنية في الشهر مع أن أجرة الشقّة التي أقيم فيها هي مائة جنيه؟ فقال له المدير: احمد ربك لأننا أبقينا عليك" فهاجر بعدها فورا إلى ابنه الذي كان يعمل في دار هاشيت لطباعة القواميس في فرنسا.

يؤكد الملاح على أن متري كان يستحق بالتأكيد معاملة أفضل نظرا لدوره الكبير وما قام به للثقافة المصرية والعربية، لكنه يشكك في رواية وديع حول كون مجلة أكتوبر السبب الرئيسي في التأميم لأنها –المجلة- ظهرت أواخر 1976 أي بعد التأميم بحوالي 13 سنة!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها