الجمعة 2022/09/09

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

كوثر عظيمي كروائية لأدب مضاد للأدب

الجمعة 2022/09/09
كوثر عظيمي كروائية لأدب مضاد للأدب
تحاول فرض سردية مقاومة للأدب النهاب
increase حجم الخط decrease
هناك سؤال تطرحه الروائية الفرانكوجزائرية، كوثر عظيمي، بطريقة مضمرة في روايتها الأخيرة "نذير شؤم" ( دار سوي)، وهو: كيف يمكن للأدب أن يكون مضاداً للأدب؟
 
بالطبع، ومن أجل تفسير كيفية الوقوع على هذا السؤال، لا بد من إعطاء لمحة عن الحكاية الأساسية لرواية عظيمي التي اختارتها المجلة الثقافية "Les Inrockuptibles" كواحدة من بين 20 رواية متميزة باللغة الفرنسية... تجري الأحداث في قرية الزهرة في الجزائر، بين ثلاثينات وتسعينات القرن المنصرم، حول صداقة سعيد وليلى وطارق، الذين، ومع الوقت، إما انقلبت علاقتهم إلى زواج، كما في حال ليلى وطارق، أو انقلبت إلى تباعد، كما في حال سعيد، الذي انتقل إلى تونس ليتعلم، فـ"تحضر"، منقطعاً عن ماضيه والمقيمين فيه. تروي عظيمي مصائر هذه الشخصيات المتداخلة، ولكي تفعل ذلك، تنطلق، ومن مطلع روايتها، من شيء محدّد، وهو أول رواية مكتوبة بالعربية في الجزائز بعد استقلالها عن فرنسا.

تصوّر حفلة توقيع هذه الرواية، التي كتبها سعيد نفسه، ثم تمعن في وصف غلافها، الذي يظهر فيه كل من ليلى وطارق، كما لو أنها تلاحق هاتين الشخصيتين. على هذا النحو، تذهب بهما إلى ما قبل بلوغهما ذلك الغلاف، أي يوم كانا وسعيد في القرية. بالتالي، تنطلق عظيمي في سرد روايتها من رواية أخرى، بحيث تبدو أنها تمحو الحد بين الاثنتين. إنها لعبة سردية، تقليدية نوعاً ما، لكن المهم هنا أن عظيمي عرفت كيف توظفها من اجل أن تصل إلى سؤالها ذاته حول الأدب المضاد لنفسه.
 
اذ إن هذه اللعبة، وفي عقبها، تضع سعيد في مقابل صديقيه. فهو كان قد كتب رواية عنهما، وبهذا، أماط اللثام عن عيشهما الخاص، ما أنتج، ومع وصول روايته إلى القرية، أثراً فيهما: ليلى وجدت أن سعيد قد سرق حياتهما هي وطارق، أي أنه قبض عليها، وجعلها محبوسة في رواية تجمدهما على سمات وهيئات بعينها. نتيجة ذلك، يمكن القول أن "نذير الشؤم" الذي جلبته الرياح العاصفة إلى قرية الزهرة، ليس سوى الأدب مثلما كتبه سعيد، أي الذي يضع يده على عيش أناس ويبني مجده عليه. وهذا، ليس فقط من دون قبولهم بذلك، إنما أيضاً من خلال التقدّم على أساس أنه مكتوب "من أجلهم". اللعبة السردية التي تعتمدها عظيمي عند انطلاق روايتها من رواية سعيد هي، وبشكل من الأشكال، رد على ذلك الأدب النهاب، بحيث انها، ومن سرديته، تحاول فرض سردية مقاومة له. في هذا السياق بالتحديد، يبرز سؤال عظيمي: كيف يمكن لأدبها أن يكون مضاداً للأدب الذي يسطو على عيش أناس، فيجعلهم، وبكل عنف، موضوعاً مصمماً له؟

فعلياً، رواية عظيمي كلها تتمحور حول هذا السؤال. وهي، إن كانت في لحظات تبدو كأنها تجيب عليه بالاستناد إلى ما يشبه خطة سردية مسبقة، لكن ذلك لا يلغي أنها استطاعت أن تفعل ذلك بطريقة مميزة. ويمكن تقسيم إجابة عظيمي إلى جوانب عديدة، هنا، ثلاثة منها:

بداية، ثمة الأسلوب، الذي صحيح أنه يقوم على سرد سهل وواضح، لكن ليس هذا ما يصنع قيمته، إنما تفاصيله الشعرية. الشعر، في هذا السياق، هو ما يحل كمعبَر لأبطال الرواية من صمتهم إلى كلامهم. فوالدة طارق امرأة خرساء، وبالتالي، ابنها كان يمضي القسم الأكبر من عيشه معها في الصمت، كما أنه لم يتعلم الكتابة ولا القراءة، بل قرر، ومنذ طفولته، أن يكون راعياً. لكن طارق، وحين يأخذ الكلام في الرواية، لا يسرد حكايته من أجل أن يخلق صورة عنه، بل من أجل وضع هذا السرد في خدمة ما يحل بين الصمت والكلام، أي الشعر. تقول عظيمي في ناحية من نواحي الرواية، أن طارق، وفي أثر صمته، صار يجد لكل كلمة يستخدمها وقعها النادر، وبالفعل، هو حين يسرد يتحدث شعراً. كل المقاطع التي يصف فيها حديقة مكان عمله في روما، مطبوعة بالشعرية التي تبدو مضادة لسردية سعيد عنه. فهذا الروائي النهاب جعله مجرد راعٍ وأمّي وبائس، في حين أنه يدبر عيشه كشاعر. لكن الرد على سرد سعيد لا يتعلّق فقط بتصوير مختلف عن طارق، أو بتقديم طارق على سبيل شعري، إنما أيضاً بكون الوجود الذي ينخلق بالشعر، وعلى عكس ذاك الذي يرتكز إلى السرد، لا يمكن سرقته. بعبارة أخرى، السرد قابل للسرقة أكثر من الشعر، وهذا لأن الشعر، وبسرقته، يخدع سارقه: يزول من بين يديه، يتكشف عن اضمحلاله. هذه الفرضيّة تحض عليها عظيمي، كما لو أن الأدب السردي، لكي يكون مضاداً لأدب سعيد، لا يجب أن ينفي الشعر منه.

الجانب الثاني هو صعيد سوسيوسياسي، تحاول عظيمي أن تجعله عصب روايتها عبر ربط مصائر الشخصيات بحوادث كبيرة: استقلال الجزائر، الهجرة، الحرب الأهلية، صعود الإسلاميين، الخ. تعلق عظيمي مصائر شخصياتها على هذه الحوادث التي تبدو أحياناً أقوى منها. لكن هذا لا يعني أن عظيمي تحوّل شخصياتها إلى مترجمي حوادث، انما إلى متفاعلين معها، بمعنى أن طارق وليلى لم يفقدا، وعلى ما يقدمهما أدب سعيد، تأثيرهما في هذه الحوادث. فليلى وطارق ليسا مجرد متلقيَين لهذه الحوادث، كما لو أن لا حيلة لهما ولا قوة. الأمر نفسه ينسحب على موقعهما من المواقف الاجتماعية، فهما ليسا مجرد خاضعَين لها. حين يجبر أهل ليلى ابنتهم على البقاء في المنزل، تقفز من النافذة، وحين يجبرها أهلها على الزواج المبكر، تغادر منزل زوجها متمردة. هذا كله، لم يره أدب سعيد، بل اكتفى بجعل كل من طارق وليلى أشبه بـ"المتخلفَين" في قريته الماضية.

في الجانب الثالث، وإن كان لا بدّ من الإشارة إلى أبرز ما في رواية عظيمي، فهو أنها عرفت كيف تبين أن الأدب، وبما هو أدب سعيد، قد يسطو على عيش أناس ما على أساس أنه، وبذلك، يساعدهم. فسعيد يقدّم نفسه كنسويّ، وداعية حريات، وهو حين يكتب عن ليلى يفعل ذلك بالانطلاق من كونه يريد "تحريرها"، "إنقاذها"، وإرادته هذه لا تؤدي سوى الى نتيجتها الحتمية، أي إلحاق الأذى بليلى نفسها. فصديقته القديمة هذه لم تنتظر مَن يحررها وينقذها، فهي تتحلى بشجاعة، لم تحصل عليها بفعل التثقف وبفعل الرجوع الى فكر ما، على العكس، هي منعتقة لأن انعتاقها ينم عن ضرورة حيوية. من هنا، تبين عظيمي كيف أن الأدب الذي يسطو بإسم الحرية، لا يعرف عن هذه الحرية أي شيء. بل إنه، وبفرضه لها، يشارك أي سلطة قمعها. في مقابل هذا الأدب، هناك أدب يشير إلى كيف أن هؤلاء الناس لا يطبقون "الحرية" بالانطلاق من أي خطبة، بل إنهم أحرار في الانطلاق من ضرورة عيشهم. وفي مقلب متصل، هذا الأدب يبين أن فرض الحرية على أناس ما ليس سوى ضرب من ضروب الاستعباد، ولو كان "حديثاً" و"جميلاً" و"متحرراً" و"نظيفاً".
 
كيف يكون الأدب مضاداً للأدب إذن؟ يكون كذلك حين يوصلونه إلى خاتمة كتلك التي أنهت عظيمي روايتها بها: طارق وليلى ما زالا يعيشان في الزهرة، وهما، وقبل أن يستسلما للنوم كل مساء، يشبكان يديهما، وفي هذا الوقت، ينبت شجر التين حولهما. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها