الثلاثاء 2022/09/06

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

البحث عن الثقافة المصرية المفقودة

الثلاثاء 2022/09/06
البحث عن الثقافة المصرية المفقودة
increase حجم الخط decrease
يف يمكن تفعيل الثقافة المصرية مستقبلًا؟ سؤال مهمّ ومركّب، يحمل في طياته إشارتين؛ الأولى: إلى الحالة الراهنة لهذه الثقافة، وهي وفق صيغة السؤال حالة تعطيل وركود وجمود وفقدان. والإشارة الثانية: إلى احتمالية ابتعاث هذه الثقافة من مرقدها، فمواتها غير أبدي، وإنما هو ظرفي مرهون بشروط قاسية وحصار مفروض. وليس مستحيلًا إحداث حراك، إذا تبدلت الأوضاع المحيطة إلى الأفضل، وتغيّرت السياسات والاستراتيجيات إلى نهج إيجابي ابتكاري.

هذا السؤال يطرحه، إلى جانب أسئلة ومحاور أخرى كثيرة متعلقة، الكاتب المصري خالد عزب، رئيس قطاع المشروعات والخدمات المركزية بمكتبة الإسكندرية سابقًا، الباحث في مجالات العلوم الاجتماعية والتاريخ والمطبوعات والنشر، وذلك في دراسته الجديدة المهمة "البحث عن الثقافة المصرية ومستقبلها"، الصادرة حديثًا ضمن سلسلة "أوراق حقوقية" (أغسطس/آب 2022)، عن "مركز التنمية والدعم والإعلام" (دام)، وهي مؤسسة مصرية تدعم حرية الرأي والتعبير وحرية الاعتقاد وتداول المعلومات والحق في المعرفة.

ويثير عزب في ورقته المكثفة مجموعة من القضايا المتشابكة، المتصلة كلها بالعنوان الأساسي حول الثقافة بين الحاضر والمستقبل، حيث يتطرق إلى تآكل مشروع الثقافة الوطنية المصرية بسبب غياب البرامج الفاعلة، وتراجع الدور المصري (العربي والإقليمي والدولي) في ميدان القوى الناعمة، وأزمة غياب الهوية وتصاعد الاستلاب الثقافي لصالح قوى أخرى خارجية صاعدة، وتخبط وزارة الثقافة المصرية في أولوياتها ومخططاتها، وصولًا إلى تحديات اللحظة الحالية من أجل انتشال ملف الثقافة المصرية من تعثراته الشائكة، وكيفية التعاطي مع الثقافة كأسلوب حياة، وغيرها من النقاط الجوهرية الملحّة في هذا التوقيت العصيب.

ببساطة، يلخّص خالد عزب وضع الثقافة المصرية الآني بأنه وضع يتراوح بين الفخر بالماضي، والعجز عن الإنجاز بما يواكب المنافسة الشرسة في المنطقة، على الصعيدين الدولي والإقليمي. بل يمتد العجز إلى عدم القدرة على استيعاب الطاقات الجديدة واكتشافها، مع مساحات محدودة من الفعل الثقافي سواء في فضاء المؤسسات الثقافية، وفي الفضاء الرقمي.

ولقد كانت مصر إلى عهد غير بعيد فاعلًا ثقافيًّا ومعرفيًّا قويًّا في المنطقة العربية، وبصورة نسبية على الصعيد الإفريقي، وبصورة أقل على الصعيد الدولي، فما الذي أدى إلى هذا التراجع الكبير؟ من الأسباب الرئيسية التي يلتقطها الباحث، عدم وجود برامج حقيقية لكي تزيد مساحة الثقافة المصرية على هذه الأصعدة. وحتى على الصعيد الوطني، تتراجع الثقافة المصرية أمام سيل جارف، كان قادمًا من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، والآن من الصين أيضًا صاحبة المشروع الثقافي الذي يخدم سياساتها واقتصادها، وروسيا صاحبة البرامج التي تعزز قوتها الناعمة، وألمانيا التي تمضي قدمًا في مشروع نشر اللغة والثقافة والأدب وترجمة الفكر الألماني إلى سائر اللغات.



ويلمح خالد عزب في كتابه إلى لعبة تبدّل الأدوار في المنطقة العربية، فيشير ضمنًا إلى أن ما يجري الترويج له دعائيًّا حول استمرار السيطرة المصرية في الحقل الثقافي هو أمر غير حقيقي. فإذا كان المصريون هم بناة الحياة الثقافية في الخليج العربي على سبيل المثال، فإن الحياة الثقافية هناك الآن، وفق الباحث المصري، يقودها المواطنون، ومن حق كل دولة أن تسعى إلى نشر ثقافتها كأداة من أدوات التأثير والهيمنة وخدمة المصالح، وكلمة السر في نجاح تجارب هذه البلاد هي "بناء الكوادر الوطنية التي تتولى هذه المهمة".

إن من آفات الحالة الثقافية الراهنة انحصار مفهوم الثقافة داخل جدران الوزارة الضيقة. ولقد تعددت الإضاءات والمقالات من حملة الأقلام، ومنهم كاتب هذه السطور، حول إهدار قيمة الثقافة بفعل تولية الموظفين وغير المهنيين والمنتفعين أدوارًا قيادية وتخطيطية وتنفيذية في أروقة الوزارة، ما أفقدها الرؤية والاستنارة والتطوير والمصداقية، وأورثها التكلس والتحنيط والشعارية الجوفاء، وأبعدها عن زخم الثقافة المستقلة الموازية، التي يجري تهميشها وتقزيمها عن تعمّد أو عن عدم دراية.

ويلتفت خالد عزب إلى هذا المنعطف الخطير، مبرزًا أن الثقافة أشمل وأكبر من الوزارة، التي يجب أن تكون أداة واعية من أدوات تنفيذ الاستراتيجيات الثقافية. وتبقى المشكلة الأزلية أن وزارة الثقافة المصرية، منذ إنشائها قبل أكثر من ستين عامًا، تعمل دون تحديد أولويات، أو تعيين سياسات ثقافية، الأمر الذي يجعلها صدى لقدرات الوزير وطبيعته، والحاشية الملتفة حوله. ولذا، بلغ التدهور مداه في السنوات الأخيرة، في ظل غياب الكفاءات والمحترفين، وتصعيد الموظفين وأطقم السكرتارية في الحقل الثقافي، كما في معظم مجالات العمل العام.

وثمة آفة أخرى تسم الثقافة المصرية، جرّاء انغلاق مسؤوليها الرسميين ومحدودية أفقهم، هي التشرنق على ذاتها، والانكماش إزاء الآخر المتمدد. ولا يغفل عزب أيضًا هذه السمة، التي طالما تحدث عنها المثقفون والكتّاب، المنفلتون من حظيرة التدجين والانتهازية والعطايا الصغيرة. ويرى عزب أن هذا الانكفاء الثقافي على الداخل من أهم أسباب ابتعاد مصر عن المنافسة في الساحة الدولية، إذ انعدمت رؤية ما لدى الآخر، وما يتميز به، وكيفية بناء الذات المصرية برسوخ يوطد الشخصية الوطنية، عبر تراكم الخبرات المتوارثة، وتلافي سلبيات الأنا، بانتقادها الموضوعي النزيه.

وإذا كانت منظومة القيم والسلوك تشكّل بعدًا حافظًا لتماسك المجتمع، وقدرته على الصمود، ومواجهة الصعاب، فإن هذه المنظومة قد جرى هدمها خلال السنوات الأخيرة لصالح "ثقافة الفهلوة"، بحد تعبير خالد عزب، لتتصاعد الفردانية، وتفقد الأسرة حضورها وجذورها الثقافية. وهنا يثير الباحث سؤالًا لافتًا، هو: "أين الحق في الثقافة؟"، مشيرًا إلى أنه ينبغي أن تتوفر لكل المواطنين الخدمات الثقافية اللائقة والجادة، التي تحقق الإشباع الثقافي والفكري، لكي لا تُترك العقول في الفضاءات الرقمية تبحث وتتجول دون ضابط، وقد تسقط فريسة لمن يلتقطها ويسعى إلى إعادة صياغتها.

ومن دون فتح المجال للمجتمع المدني ليكون شريكًا في الفعل الثقافي التنويري، فلن تقوم قائمة للثقافة المصرية المحتكَرة من جانب المؤسسة الرسمية. وهنا، يلفت عزب إلى أمر قد يغيب عن البعض، هو أن الكثير من القدرات والطاقات الفعلية قد لا تستطيع أصلًا العمل تحت مظلة الدولة، وأن طبيعة الإبداع عمومًا أن يتحرر وينمو وينطلق عبر المجتمع المدني، الذي يحتاج إلى قوانين لتحفيزه وتنشيطه، وليس لإعاقته وتقييده. وعبر هذا التوجه، يمكن الوصول إلى مدلول الثقافة كـ"أسلوب حياة"، ينغمس فيه المواطنون، بصورة قد تختلف من مكان لآخر داخل الوطن، وفق العادات والموروثات والأعراف والتعليم الرسمي والشفهي.

ومن ثم، تتبلور الهوية الوطنية للثقافة، والشخصية الثقافية للمواطن، وتتجلى مظاهر الثقافة في طريقة التفكير، والسلوك الجماعي، ونظرة الأفراد لأنفسهم وللآخرين، وأسلوب الملبس والمأكل وسبل ممارسة الحياة والاستمتاع بها. كما تتجلى الثقافة الوطنية في احترام تدريس اللغة في المدارس والاهتمام بها في التعاملات، وتغذية قنوات القراءة في المكتبات العامة والخاصة وغيرها، وإيجاد حلول جادة لمشكلات صناعة النشر في ظل الأزمة الاقتصادية المحلية والعالمية، وكذلك دعم الفنون والإبداعات الجماهيرية المؤثرة، وعلى رأسها السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، وإنقاذ الحرف التقليدية والمهن الأصيلة المعبّرة عن ذاكرة المجتمع من الاندثار.

كما يتطرق الباحث المصري إلى أهمية بناء شبكة وطنية للمكتبات تعمل بآليات معاصرة، وبناء أرشيف ومتحف للصحافة المصرية، وإنتاج أفلام وثائقية وكارتون في كافة مجالات الثقافة، خصوصًا في التاريخ والتراث، وتأسيس منصات مصرية للكتاب الرقمي، وإحياء المراكز الثقافية المصرية في الخارج، في إطار هيكلي جديد.

ولعل ما يجري على أرض الواقع من إحباطات متتالية ومتشعبة، يجعل حلم خالد عزب بتفعيل الثقافة المصرية صعب المنال في المستقبل القريب. لكن طرحه هذا يستمد شرعيته ومعقوليته من خلال أخذه بالأسس التي تنهض عليها الثقافات الوطنية، في التجارب الحية حول العالم. فهل يكون لمصر وللمصريين نصيب، ويصير الحلم حقيقة ذات فجر مشرق؟!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها