الأحد 2022/09/04

آخر تحديث: 08:40 (بيروت)

"أهلا وسهلاً" أو مقاومة السوريين لتدميرهم

الأحد 2022/09/04
increase حجم الخط decrease
عرّفنا مهرجان syrien n'est fait في باريس على فيلم "أهلا وسهلاً" للوكا فرنييه، الذي استطاع، وعلى طوله، أن يذهب بمشاهديه إلى تدمر. رحلته إلى هذه المدينة السورية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة فصول: الأول، سوريا إبّان الانتداب الفرنسي، والثاني، سوريا قبل الثورة، والثالث، سوريا خلال تدميرها على يد نظام بشار الأسد. وبين هذه الفصول، يتنقل فرنييه بين غايتين متصلتين.

ففي بداية الفيلم، هو يعرض صوراً التقطها جدّه في تدمر حين كان عسكرياً مبعوثاً إلى هذه المدينة خلال الانتداب الفرنسي، كما يعرض حكايات رواها جدّه في كتاب نشره عن تدمر، وقد ذكر فيها مجموعة اشخاص، كانوا آنذاك من اصدقائه، لا سيما شيوخ البدو الذين سكنوا الصحراء السورية. على هذا النحو، يسافر فرنييه إلى سوريا لكي يبحث عن هؤلاء الأشخاص، الذي ارتبط جده بصداقة معهم إلى درجة رفضه التعامل العسكري معهم، ما دفع جيشه إلى سحبه من البعثة. غاية فرنييه، في هذه الجهة، أن يجد اصدقاء "ابونا"، على ما كان اللقب العربي لجدّه، ولكن، مع الوقت، تتغير هذه الغاية إلى أخرى.


ففي اثناء وقوع فرنييه على أبناء أصدقاء جدّه هنا وهناك، سرعان ما تخلق صلة متينة معهم. فعندما زارهم في منازلهم، كانوا يرددون عبارة بعينها على مسمعه، وقد استطاع أن يصورها كعبارة-مفتاح في شريطه- ولهذا أطلقها عليه كعنوان طبعاً-هي "أهلاً وسهلاً"، بحيث ان الترحيب به لم ينقطع يوما، بل بقي ابناء أصدقاء جدّه مواظبين عليه طوال حطّه عندهم. هذا الترحيب أدى، وفي خلاصته، إلى صداقته معهم، ما جعل رحلته إليهم تدور حول ما هو قريب من مشابهته جدّه، او بالاحرى سيره على خطاه. الجد كان صديق الأباء، اما، حفيده، فهو صديق الأبناء، ومع الإنتقال بين الاجيال، هناك انتقال في الأحداث. ففي حال كان الحدث الاساس في سيرة جدّ المخرج واصدقائه من شيوخ العشائر هو الانتداب والاستقلال عنه، فالحدث الرئسيي في سيرة المخرج وابناء العشائر هو الثورة والانشقاق عن نظام البعث. وفي حال كان مصير بدو تدمر، في أثر الحدث الأول، هو المكافحة الحكومية لبداوتهم من أجل جعلهم مقيمين، فمصيرهم، في أثر الحدث الثاني، هو اقتلاعهم وجعلهم شتاتاً في مدن العالم.

كل هذا، تمكن فرنييه من تصويره من دون تكلف، لا بل إنه ترك اصدقاءه الجدد هم الذين يقودون كاميرته. فلا مخرج مهووس بعدسته هنا، بمعنى الا مخرج على تصور وتخطيط مسبق لما يريد التقاطه في تدمر، وبالتالي، يحاول جعل ما يصوره ويسمعه، او ما يلتقيه على العموم، في خدمة سيناريو محدد سلفاً. على العكس، فرنييه ترك لمن يحضر امام كاميرته أن يكون على ما هو من دون تعيين لدور ما له، وقد يكون مرد ذلك، ان تصويره لأهالي تدمر لا يحل سوى في سياق الاجتماع معهم. كما لو أنّ فرنييه، وفي تصويرهم، يريد الاحتفاظ، وكجده، بذكرى صداقته معهم، وهذا، أكثر مما يريد ان يوثق عيشهم كأي مخرج بارد او كأي مخرج يتصف بسمات "المهنوية". بالتأكيد، نسج التُدمريون لصداقتهم مع فرنييه ليس سهلا، فهذه الصداقة مهدّدة دوما من قبل نظام الاسد. ففي مشهد من مشاهد الفيلم، يتحدث فرنييه عن تقرّب احد عناصر المخابرات منه لكي يعرف ماذا يصوّر. وفي مشهد آخر، يخفي بدو تدمر المخرج خلال زيارة المخابرات لهم، وهذا، لكي لا يرونه عندهم. فالصداقة، التي تبدأ بالولادة، بين التدمريين والمخرج تبدو، وبشكل من الاشكال، انها موضوع قلق بالنسبة الى النظام، الذي، ولاحقا، يعلن حربه على السوريين وبلدهم.


في هذا المطاف، وبما أن فرنييه قد صوّر من 2009 إلى 2011 في سوريا، فهو شهد بداية الثورة قبل ان يغادر ويعود الى فرنسا. على أنه، وبعد عام او عامين على اندلاع الثورة، قرر الذهاب، وهذه المرة إلى الاردن وتركيا وانكلترا، من اجل التفتيش عن أصدقائه بعد ان صاروا شتاتاً. الملفت في هذا الفصل من فيلم فرنييه هو أن اصدقاءه، وعلى الرغم من اقتلاعهم، فهم لم يرموا عبارة "اهلا وسهلا" جانبا. خلاف ذلك، ما أن يحل بينهم في الاردن او في تركيا او في انكلترا، هم لا يتوقفون عن الترحيب به، كما لا يتوقفون عن تعبيرهم عن فرحتهم بلقائهم به من جديد.

 في هذه الجهة، لا بد من ملاحظة، وهي أن الـ "اهلا وسهلا" هذه، وفي حين توجيهها الى المخرج بعد الاقتلاع، لا تنتج أثر استضافته فحسب، انما تتعدّى شخص فرنييه. وهذا، لتنتج اثراً مختلفاً: ابقاء السوريين على العبارات التي تبني اجتماعهم، التي تجعله مفتوحا، تمسكهم بها وبه، وهذا، في مواجهة كل التدمير الذي ارتكبه بشار الاسد.

فـ"اهلا وسهلا" هي مقاومة لهذا التدمير، "أهلا وسهلا" هي عبارة لا يمكن تحطيمها.

فعليا، لا يمكن القول إن فرنييه صنع فيلماً من دون الإضافة أنه فيلم، بداية، عن حب الحفيد لجده، كما انه فيلم عن الصداقة المستمرة بين الاجيال، مثلما أنه فيلم عن مقاومة السوريين لتدميرهم. ولأن الفيلم هو عن كل هذا، فلا صدفة أن يشكل رمزه عبدالرحمن ابن دلب، بما هو ابن صديق جد فرنييه، وبما هو صديق فرنييه، وبما هو قد لقي حتفه على يد نظام الاسد. فـ"من بعده، انتهت سوريا" لكي تبدأ من جديد ذات يوم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها