السبت 2022/09/03

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

مقبرة طه حسين وهجرة الموتى

السبت 2022/09/03
مقبرة طه حسين وهجرة الموتى
طه حسين بكاميرا فان ليو
increase حجم الخط decrease
تتمدّد رقعة المدن مع الزمن، هذا جزء من طبيعتها الحديثة، كمراكز لرأس المال وأنشطته وبفعل متواليات الزيادة السكانية نتاج التحسن الهائل في سجل الصحة وفوارق معدلات المواليد والوفيات. الأطر الخارجية تنزاح بعيداً، أما ما كان طرفياً، ومن بينها المقابر، فيزحف رويداً رويداً إلى المركز، ويصير ما كان يعدّ في الماضي من الضواحي وسطاً للمدينة. هكذا إحداثيات العمران وانتقالاتها، ليست علاقات في المكان، بل في الزمن.

في مدينة بالغة الضخامة، "ميغا سيتي" برقعة هائلة من العشوائيات، مثل القاهرة، لا تنتقل المقابر إلى قلبها فحسب، بل يتشاركها الأحياء مع الموتى، وتنمو من داخلها أحياء كاملة بمرافقها ومدارسها وخطوط باصاتها وفقرها المدقع بالطبع. كانت مدن الموتى القاهرية هذه، وحتى وقت قريب، موضوعاً مفضلاً للمصوّرين وصناع الأفلام الوثائقية الأجانب.

في مدينة مكتظة بحجم القاهرة، يمكن لمسألة نقل المقابر أو اقتطاع مساحات منها لصالح المنفعة العامة، أن تكون مقبولة أو على الأقل مفهومة الدوافع على مضض. إلا أن الصور التي خرجت للعلن لمقبرة طه حسين، بعلامات "أكس" الحمراء على جدرانها الخارجية وكلمة "ازالة"(بدون همزة في الأصل) المكتوبة عليها تشي بقدر مخزٍ من الاستهانة، استهانة لا تمس بذكرى عميد الأدب العربي وحده، بل وبحرمة الموت في عمومه. إعلان عدد من أفراد العائلة التفكير في نقل رفات حسين إلى الخارج، يكشف مرارة تجاه سوء إدارة الجهات الحكومية للمسألة، وتوحي بأن ترتيبات لائقة لم تطرح (لاحقاً طُليت علامة اكس وكلمة إزالة).

تأتي الصورة المخزية في خضم سياق أوسع، انطلقت فيه الجرافات لتزيل أحياء بأكملها مُقتلعةً إياها من وسط القاهرة مع سكانها متواضعي الدخل، وفي الخلفية عمليات إخلاء قسري مستمرة تستهدف أهالي الجزر النيلية في العاصمة، فيما تقف المصفحات العسكرية في الشوارع ويعرض السكان المحتجين تظلّماتهم أمام النيابات العسكرية ومحاكمها. تطول عمليات المحو والاقتلاع، ونفي الأحياء والموتى على قدم المساواة.

يتطابق المشهد إجمالاً، مع ما يصفه الجغرافي البريطاني ديفيد هارفي، في كتابه "مدن متمردة"، حين تطغى حمى الاستثمار العقاري على كل شيء آخر، فلا تُعدّ المدينة مكاناً للعيش، بل يغدو خيال التخطيط العمراني فيها منصبّاً على تحويل أرجائها إلى نقاط للأنشطة الاقتصادية الكثيفة وتوليد الربح. أنشطة تجارية ومقاصد للسائحين ومضاربة على أسعار العقارات المتضاعفة. أما شوارعها وميادينها، في ذلك المنظور، فلا تكون سوى مسارات للوصل بين تلك النقاط بأقصى سرعة ممكنة. هنا يمكن لنا أن نضيف لما يقوله هارفي، أن مدننا، كما لم تعد أماكن للعيش، فبالقدر نفسه لم تعد صالحة للموت في سلام.

في لقاء مطول أجراه الناقد والمؤرخ، غالي شكري، ونشره بعنوان "هكذا تكلم طه حسين لآخر مرة"، يظهر جلياً ألم العميد ومرارته. فحركة الضباط الأحرار، التي كان هو أول من وصفها بالثورة في مقال له في "الأهرام" بعد اندلاعها بأيام، قام رجالها لاحقاً بدفعه إلى الظل. الحياة البرلمانية التي كرس لها قسطاً وافراً من نشاطه السياسي وعمره، والتي نصح بها حكام يوليو مراراً، كانت قد ولت بلا رجعة. أما المؤسسة الأخرى التي نذر لها حياته المهنية، أي الجامعة، فيخبر شكري في لقائه الأخير أنها انتهت بعد تفريغها من حرية الفكر، وما بقى منها أشبه بمدرسة ثانوية. بعد مقال له في جريدة "الجمهورية" العام 1962، يخرج فيه العميد عن صمته الطويل بشأن السياسات الداخلية لنظام ناصر، وينتقد فيه "الميثاق" وناصر بشكل مباشر، لتصل علاقته مع الثورة التي تحمس لها فشبّهها بالثورة الفرنسية، إلى نهاية الطريق. بعدها بعامين، سيتلقى العميد رسالة بالبريد تعلمه باستغناء "الجمهورية" عن خدماته.

"أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل". هكذا تركنا طه حسين في حواره الأخير، وكأن واقعة إزالة مقبرته اليوم نهاية جديرة في رمزيتها بهذا المسار الطويل من التداعي. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها