الخميس 2022/09/29

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

حينما قالت امبراطورة إيران:لا نحب الملاءة..

الخميس 2022/09/29
increase حجم الخط decrease
بدأت "صحوة المرأة" الإيرانية في مطلع من القرن العشرين إثر "الثورة الدستورية الفارسية" التي حدثت بين 1905 و1911، وأدّت إلى إقامة مجلس نواب في بلاد فارس. بدأت هذه الثورة في عهد مظفر الدين شاه، خامس حكام السلالة القاجارية، وتعثرت في عهد ابنه محمد علي شاه، غير أنها تركت اثراً كبيراً في الحياة السياسية والاجتماعية، وشكلت تحولاً في تاريخ الإمبراطورية الفارسية. في تلك الحقبة، تشكلت تجمعات نسائية عديدة، أشهرها "جمعيت نسوان وطنخواه"، أي "جمعية النساء الوطنيات الإيرانية" التي أسّست لتاريخ الحركة النسائية الإيرانية بعد الثورة الدستورية. تشكلت نواة هذه الجمعية في 1922، واتسعت في السنوات التالية، في عهد رضا بهلوي الذي خلع آخر شاه من الأسرة القاجارية في 1925، وأسّس الدولة البهلوية.

اتبع رضا بهلوي سياسة اتسمت بطابعها الشمولي، وقام بمشروعات تحديثية عديدة، منها ما يتعلّق بشق الطرق وتأمين وسائل النقل، ومنها ما يتعلق بالتعليم، كتأسيسه جامعة طهران في 1934. في ذلك العام كذلك، تمّ استبدال اسم البلاد القديم، فارس، باسم إيران، بعدما ضمّ الشاه إلى الدولة الإيرانية الجديدة سائر الأقاليم التي كانت تتمتع بالاستقلال أو بحكم ذاتي، ومنها عربستان وبلوشستان ولرستان. في تلك الحقبة، زار رضا بهلوي، تركيا، والتقى بنظيره كمال أتاتورك، وأعجب بالنهج الكمالي، وسعى إلى اتباعه. بحسب المؤرخين الذين عايشوا ذلك الحدث، كانت الزيارة مؤثرة في موقف الشاه في ما يخص تخلّف الإيرانيين مقارنةً بنهضة الأتراك، وجعلته عازماً على تنفيذ قانون عُرف لاحقاً باسم " کشف حجاب در إيران"، أي "نزع الحجاب في إيران"، وإثر عودته إلى موطنه، راح يتحّدث عن التقدّم السّريع في تركيا ويشير إلى ضرورة "كشف حجاب النساء"، وسعى على الفور إلى تنفيذ وتطبيق ما تعلّمَه من نظيره التركي، وأطلق حملة ترويجيّة من أجل تهيئة الرأي العام لـ"كشف الحجاب"، فتمّ عقد سلسلة من المهرجانات والاجتماعات الخاصة بهذا الشأن في طهران ومدن أخرى. في سبيل تحقيق هذه السياسة، أمرت وزارة التربية والتعليم المدارس في البلاد بعقد مراسم الاحتفال والفرح والمحاضرات من دون الحجاب، كما نشرت الصحف العديد من المقالات التي تنتقد الحجاب.

في نهاية 1935، صدر قانون "كشف الحجاب"، ودخل حيز التنفيذ في مطلع 1936. في حفلة مخصّصة لتسليم الشهادة الابتدائية للفتيات، ظهرت الإمبراطورة تاج الملوك مع ابنتيها الأميرتين شمس وأشرف، بالزي الأوروبي، وحضر الإمبراطور نفسه هذا الاحتفال، وألقى خطاباً دعا فيه "بناته وأخواته" إلى السير "في طريق التقدم والنهضة"، وحثّ جميع النساء على ترك الحجاب. ومنذ ذلك التاريخ، أُعلن حظر استخدام الملاءة والحجاب، ومُنعت النساء المحجّبات من دخول الشوارع، كما مُنع أصحاب المحال التجارية من بيع السلع للنساء المحجبات. واجهت الشرطة النساء اللواتي كنّ يحضرن مع الحجاب في الأماكن العامة، ولم تتوان عن نزع هذا الحجاب عنهن بالقوة. أثار هذا القانون موجة من الاحتجاجات، وأعلن العديد من رجال الدين رفضهم له. امتنع البعض عن إرسال بناتهن إلى المدارس، واختارت نساء البقاء في منازلهن وعدم مغادرتها لتجنب مثل هذه المواجهات، وظهرت ملصقات ضد كشف الحجاب على جدران المدينة، وتفاقمت هذه الموجة حين أصدر رضا شاه أمراً يُلزم جميع الرجال بارتداء قبعات على الطراز الأوروبي، ما أثار تظاهرات واسعة النطاق في نواح عديدة من إيران.

التحوّل الكبير
تبدّل وجه إيران في تلك الحقبة، وواكبت الصحافة العربية أحوال هذا التبدّل. في 1938، بالتزامن مع اقتران ولي العهد الإيراني الأمير محمد رضا بهلوي، بشقيقة الملك فاروق الأميرة فوزية، نشرت مجلة "الإثنين والدنيا" مقالة تناولت أحوال "المرأة الإيرانية"، وجاء في المقدمّة: "اقترنت حركة الانقلاب السياسية التي تمّت في السنوات الأخيرة في إيران بحركة انقلاب اجتماعي سايرت فيه روح التطوّر الاجتماعي في تركيا، وقد رأينا أن نسجّل مظاهر النهضة النسائية الإيرانية في ظلّ هذا التطوّر، والاتجاهات التي يرمي إليها دُعاته". تحدّث صاحب المقالة إلى "إحدى الشخصيات الإيرانية البارزة في مصر"، من دون أن يذكر اسم هذه الشخصية، واستهلّ الكلام بالقول: "تنقسم البلاد الإيرانية إلى قسمين: مدن عامرة كبيرة، وصحاري تحتاج الدواب في قطعها إلى وقت طويل. ويُمكن أن يُقال ان ربع سكان البلاد الإيرانية من عرب الصحاري. والملابس الوطنية في إيران تُشبه ملابس أهل الريف في مصر، أما سيّدات الطبقتين الراقية والمتوسّطة، فقد اتّخذن منذ أوائل القرن الحالي الزيّ الفرنجي، ومن يشاهدهن لا يعرف أنهن شرقيات إلا من السمرة الخفيفة التي يلمحها في وجوههن".

واصل المتحدّث الكلام، وأضاف: "تتلقّى الفتاة من الطبقتين الراقية والمتوسّطة حظاً كافياً من التعليم، إمّا على أيدي أساتذة خصوصيين في حريم منزل والدها، وإمّا في مدارس البعثات الأجنبية أو مدارس الحكومة، والاحتشام صفة غالبة في كل ما تصبو إليه السيدة الإيرانية، والفتاة الإيرانية تحتفظ بالطابع الإيراني حتى لو كانت متخرّجة من مدارس البعثات الأجنبية، ولكن عدد المتعلّمات في المدارس الأجنبية أكثر من غيره، وعليهنّ قامت النهضة النسائية في إيران، ومنهن يتزوج شبان الطبقات الراقية. وهن زوجات الوزراء وقادة البلاد اللواتي يقدن النهضة النسائية في إيران بخطوات سريعة، وقد كان من جراء هذه النهضة أن زاد الانصراف عن الحجاب والميل إلى الدراسة النظامية للبنات في المدارس، ووُجدت الأندية الراقية للألعاب الرياضية والفنون الجميلة، كما وُجدت الجمعيّات النسائيّة التي تعنى بخدمة المرأة وحماية الطفولة وترقيتها، وجلالة الإمبراطورة تترأس بنفسها ثلاث جمعيات منها الفرع الدولي لحماية الطفولة وأبناء العاملات. وقد أعلن جلالة الإمبراطور غير مرّة ارتياحه إلى هذه الحركات الاجتماعيةّ التي تعود على البلاد بأحسن النتائج".

استمرّت المواجهة بين أنصار "كشف الحجاب" ورافضي هذا القانون، وعند وصول محمد رضا بهلوي إلى الحكم في 1940، علت الأصوات المطالبة بتخفيف الضغط على النساء المحجبات، وفي 1943، أرسل آية الله السيد حسين الطباطبائي القمي رسالة إلى الملك الجديد داعياً إيّاه إلى إلغاء قانون "كشف الحجاب" الإلزامي، وصدرت في تلك الفترة فتاوى تحثّ النساء على رفض السفور وارتداء الحجاب. استجاب محمد رضا بهلوي هذا النداء، وأسقط هذا القانون المثير للجدال، غير أنه سار على خطى والده في دعوة "بناته واخواته" إلى السير "في طريق التقدم والنهضة". في صيف 1945، زارت مصر الصحافية الإيرانية بروين خلعتبري، وهي "أول فتاة توفدها حكومتها في بعثة دراسية إلى الخارج"، وكانت يومها في طريقها إلى أميركا لنيل الدكتوراه في التربية. استضافت مجلة "المصور" هذه الصحافية التي تعمل في التدريس وتكتب في صحف عديدة منها "إطلاعات"، "جريدة طهران"، "إيرنما"، "نباراد"، و"بونو"، ونقلت عنها حديثا تناولت فيه أوضاع المرأة في زمنها.

قالت بروين خلعتبري في هذه المحادثة: "المرأة الإيرانية تكافح كفاحاً جباراً لتنال حقوقها السياسية والاجتماعية ولكي تتساوى بالرجال في كل شيء. وهناك حزب نسائي أنشئ منذ نحو عامين، ترأسه أستاذة في الجامعة، وهو يناضل من أجل رفع الحجاب تماماً، ويُطالب بمنح النساء حقّ الانتخاب وحق الترشيح في البرلمان، ويسعى لمنح النساء الحق في التعليم بأوسع صوره ومن ذلك مثلا دخول كلية الحقوق التي لا يُسمح لهنّ بدخولها الآن. ويضمّ هذا الحزب النسائي الجديد عدداً من المثقّفات يقرب من 400 سيّدة. والمرأة كالرجل في إيران من حيث تقلّد الوظائف العامة متى كانت حاصلة على درجات علمية معيّنة، غير أنه محظور عليها شغل المناصب القضائية أو تولّي أي عمل من السلك السياسي ووزارة الخارجية. وهناك سيّدات كثيرات يشتغلن بالتدريس وبعض الطبيبات والسكرتيرات من الوزارات. وفي الجامعة الآن حوالى خمسين أو ستين فتاة معظمهن يدرسن اللغات الأجنبية، وفي الصحف بعض السيّدات المثقّفات اللواتي يكتبن في مختلف الموضوعات، من سياسيّة إلى أدبيّة إلى اجتماعيّة إلى نسائيّة وغيرها. وفي كل كليّة أو مدرسة ثانوية جمعية خيرية من الفتيات، كما أن هناك عدداً من الجمعيات الخيريّة العامة التي ترأس الأميرة شمس شقيقة جلالة الإمبراطورة إحداها. والإيرانية الجديدة فتاة متعلمة تمارس الرياضة وتخرج إلى المجتمعات وترقص وهي سافرة، وعلى الرغم من كل ذلك محافظة على التقاليد الشرقيّة، متحليّة بالأخلاق الفاضلة".

الصراع المتواصل
واصلت المرأة الإيرانية هذه المسيرة، واكتسبت حق الانتخاب في 1963، غير أن السجال ظلّ خفيّا بين دعاة السفور وأنصار الحجاب. في عام 1968، استضاف القصر الإمبراطوري "رسّام الملوك" الإيطالي بياترو آنيغوني لتصوير محمد رضا بهلوي وقرينته الشهبانو فرح ديبا، ونشر هذا الرسام الذائع الصيت مقالة طويلة حول هذه الزيارة سارعت مجلة "الحسناء" اللبنانية إلى نقلها إلى العربية. في هذه المقالة يروي الرسام أنه أبدى اعجابه بـ"الملاءة التقليدية التي ترتديها المرأة"، فأجابت الإمبراطورة: "في الحقيقة اننا لا نحب الملاءة، لأنها توحي بالفقر، والتعصب، والإيمان بالخرافة. وكان والد الشاه الحالي قد ألغاها. وسبب بقائها حتى أيامنا هذه انّها ثياب تقليدية، يجب أن يمرّ عليها الزمن كي تزول". وأضافت الامبراطورة: "إذا ما صدفت في مناسبة نادرة، وشاهدت امرأة ترتدي الملاءة، وتغطّي وجهها، أقفز من سيارتي، وأمزق حجابها. ومع ذلك، فإنّني أرتدي الملاءة في بعض الاحتفالات والمراسم الدينيّة، غير أني أحرص على ان لا تُلتقط لي صور، لأنني لا أريد أن كون قدوة في هذا ومشجّعة".

مرّ الزمن ولم تزُل الملاءة. اكتسبت النساء حق الانتخاب في 1963، وترشّحت ست سيدات للبرلمان، وفي محاولة لخلق هيكل تنظيمي نسائي أكثر قابلية للاستمرار، قام ائتلاف نسائي بتشكيل المنظمة النسائية الإيرانية في 1966. بعدها، في 1968، تمّ تعييين فاروخرو بارسا وزيرة للتعليم، فأضحت أول امرأة تشغل منصباً وزارياً. وفي 1969 أتيح للنساء تولي مناصب قضائية، وتم تعيين خمس قاضيات من النساء، إحداهن شيرين عِبادي، التي أسّست "مركز الدفاع عن حقوق الإنسان" وحازت جائزة نوبل للسلام في 2003.

قامت الثورة الإيرانية، وشاركت النساء فيها بشكل كبير، وترجع هذه المشاركة جزئياً إلى الجهود التعبوية للمنظمات النسائية في العقود السابقة. من المفارقات، تحوّلت هذه الثورة سريعا إلى ثورة إسلامية، وتمّ اعدام فاروخرو بارسا رمياً بالرصاص في أيار 1980. في حركة مضادة لقانون "كشف الحجاب"، بات ارتداء الحجاب قسرياً، وأُلزمت المرأة تغطية رأسها وشعرها وارتداء ثوب فضفاض لتغطية جسدها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها