الأربعاء 2022/09/28

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

كاميليا.. الغامضة التي كادت تحكم مصر

الأربعاء 2022/09/28
increase حجم الخط decrease
أربع سنوات فقط، كانت كافية كي تجعل من الممثلة كاميليا اسماً بارزاً في تاريخ الفن المصري، بل والسياسة المصرية بوجه عام. قليلون جداً تشابكت خطوط حياتهم الفنية وتماسّت مع الأحداث السياسية الجسام التي عاشتها مصر. ومن بين هؤلاء، ليليان فيكتور كوهين، أو كاميليا التي كانت طرفاً فاعلاً في السياسة المصرية في واحدة من أكثر فترات التاريخ السياسي المصري حساسية وارتباكاً، وهي فترة الحرب العربية الإسرائيلية العام 1948، وقد فعلت كاميليا كل ما فعلته في عالمي الفن والسياسة في نحو أربع سنوات فقط، ثم رحلت في حادث طائرة غامض، لم تتكشف خيوطه حتى الآن، وكان ذلك في 31 آب/أغسطس 1950 من دون أن تكون قد أكملت عامها الحادي والعشرين.

والشيء الوحيد في حياة كاميليا الذي يحظى بالاتفاق هو مشوارها الفني القصير بين العامين 1947 و1950، أما عدا ذلك فكل شيء فى سيرتها يلفه الالتباس والاجتهاد، بداية من تاريخ ميلادها. إذ ذكرت والدتها أولغا لويس أبنور في مذكراتها التي نشرتها صحيفة "أخبار اليوم" العام 1956 أن ابنتها من مواليد 13 كانون أول/ديسمبر 1929، وهذا معناه أنها توفيت بعدما تجاوزت العشرين بأشهر، وإن كان هناك رأي آخر يفيد بأنها من مواليد الإسكندرية في اليوم والشهر المذكورين، لكن العام 1919، لأمّ مسيحية كاثوليكية من أصول إيطالية، وأنها أنجبت ابنتها ليليان بعد علاقة من دون زواج. وهنا يبرز خلاف آخر حول جنسية الأب، إذ تقول مصادر إنه مهندس فرنسي كان يعمل في شركة قناة السويس، بينما ذهبت مصادر أخرى إلى أنه تاجر أقطان إيطالي كسدت تجارته فقرر العودة إلى بلاده، بعدما كانت الأم قد حملت بابنتها، ولم تجد أولغا مفراً من نسب الطفلة عند ولادتها إلى صديق آخر هو اليوناني فيكتور كوهين الذي ظلت ليليان تحمل اسمه في كل أوراقها الرسمية. المهم هنا أن الأم عمّدت ابنتها في إحدى كنائس الإسكندرية وفق الطقوس المسيحية، وهذا معناه أن كاميليا أو ليليان لم تكن يهودية مثلما هو شائع عنها، استناداً لذلك الرأي أنها لأبوين مسيحيين، وتم تعميدها فى الكنيسة حتى لو كانت تنتمي في الأوراق الرسمية لأب يهودي، خصوصاً أن اليهودي في العقيدة اليهودية هو مَن يولد لأمّ يهودية، لكن الثابت أن كاميليا ظلت ممتنة للرجل الذي حملت اسمه ولا تتحدث عنه إلا بصفته والدها من دون أن تنفى عن نفسها ديانته اليهودية، خصوصاً أن يهود مصر كانوا يعتبرونها واحدة منهم ولا يعترفون بغير ذلك. وما يدعم هذا التوجه أن أولغا لويس تقول في مذكراتها إنها تزوجت ثلاث مرات، الأولى من مصري وأنجبت منه ابنها الأول "جان"، والثانية من مغربي وأنجبت منه ابنها الثاني "إدوارد"، بينما كان الثالث يونانياً يهودياً اسمه فيكتور كوهين وأنجبت منه ابنتها الوحيدة ليليان التي أصبحت لاحقاً تحمل اسم كاميليا، وأنها لم تشأ أن تكون ابنتها يهودية على ديانة والدها، فانتهزت فرصة سفره وقامت بتعميدها في إحدى كنائس الإسكندرية. لذلك، بقيت كاميليا يهودية في الأوراق الرسمية، أما ما كانت تدين به فقد ظل غامضاً لا يعرف حقيقته إلا كاميليا ذاتها. وفي ما يخص علاقة كاميليا بأمها أولغا، فقد أكدت الفنانة تحية كاريوكا فى حوار لها نشرته مجلة "كلام الناس" العام 1992، أنها كانت تكره أمها كراهية شديدة، لأن الأم كانت تدخل الرجال على ابنتها وهي في الحادية عشرة من عمرها، فكبرت كاميليا ولديها نفور من والدتها ومن الرجال أيضاً، وأن أية علاقة أقامتها مع رجل بعد ذلك كان الانتقام أحد أهم دوافعها.

وعملت كاميليا لبعض الوقت كموديل وعارضة أزياء، قبل أن يكتشفها أحمد سالم الذى رغب في تقديمها للسينما، لكن ظروفاً تتعلق بظهور الملك فاروق –آخر ملوك مصر– في حياتها، حالت بين أحمد سالم وتقديم اكتشافه الجديد لمدة سنتين على الأقل، إلى أن قام بهذه المهمة الفنان يوسف وهبي الذي اشترى من سالم حق استغلال اكتشافه وقدمها العام 1947 في أول أفلامها "القناع الأحمر" أمام فاتن حمامة وسراج منير وبشارة واكيم. وكان ظهور كاميليا في الوسط السينمائي كالقنبلة شديدة الانفجار إذ تهافتت عليها العروض حتى أنها قدمت خلال هذه السنوات الأربع التي سبقت رحيلها المفاجئ العام 1950، عشرين فيلما بمتوسط قدره خمسة أفلام فى السنة، واللافت أنها في كل هذه الأفلام، لم تتعاون مطلقاً مع مكتشفها أحمد سالم، ولم تقدم كاميليا في هذه الأفلام أداء تمثيلياً مُقنعاً، وإنما اعتمدت على مظاهرها الشكلية كوجه جميل وجسم شديد الأنوثة، ولم يكن السينمائيون يريدون منها أكثر من ذلك، فحبسوها في أدوار الراقصات أو المرأة المغوية أو الفتاة العابثة. ومن أهم أدوارها في تلم الفترة: الروح والجسد، صاحبة الملاليم، شارع البهلوان، امرأة من نار، بابا عريس، والمليونير وآخر كدبة اللذان يعدان أشهر أفلامها على الإطلاق. كما كانت لها تجربة عابرة في السينما العالمية من خلال مشاركتها في الفيلم الإنكليزي "طريق القاهرة" أمام الممثل إريك بورتمان ومن إخراج ديفيد ماكدونالد.

وخلال هذه السنوات الأربع، كانت كاميليا طرفاً في الكثير من العلاقات المتشابكة التي ربطتها بأهل الفن، أوّلهم بالطبع كان مكتشفها أحمد سالم الذي قيل إنه وقع في غرامها ودفع ثمن هذه العلاقة من استقرار حياته الفنية والشخصية، وأيضاً يوسف وهبي صاحب الفضل في ظهورها السينمائي، وكذلك الصحافي محمد السيد شوشة الذي هام حباً بها وسخّر قلمه لمتابعة كل صغيرة وكبيرة تخص نشاطها الفني، ثم أنور وجدي رغم أنه كان في ذلك الوقت زوجاً لنجمة زمانها المطربة ليلى مراد، وأخيراً الممثل الناشئ آنذاك رشدي أباظة الذي دخل من أجلها في خصومة مع الملك فاروق ملك مصر والسودان.

وتعرفت كاميليا على ملك مصر في إحدى سهراتها في ملهى "الأوبرج" بصحبة أحمد سالم. ليلتها، أرسل الملك من يطلب منها مقابلة فاروق في قصر عابدين في اليوم التالي، ومنذ تلك اللحظة أصبحت كاميليا إحدى محظيات الملك وواحدة ممن يفرض عليهن حمايته. وبحسب كتاب "الملف السري للملك فاروق"، الذي كتبه هيوج ماكليف وترجمه أحمد فوزي والصادر عن دار الهلال العام 1977، فإن فاروق كان يصطحبها معه في رحلاته الخارجية، وتسبب ذلك في كثير من الحرج السياسي لمصر، مثلما حدث أثناء رحلتهما إلى قبرص قبيل وقوع نكبة فلسطين العام 1948.

وقد أدى اقتراب كاميليا من الملك في ذلك التوقيت الحرج، إلى استفادة الوكالة اليهودية منها كي تصبح عيناً لها داخل القصر الملكي، من دون أن يأبه الملك الشاب بحساسية الوضع السياسي ساعتها. حتى أن هيوج ماكليف يذكر في كتابه أن مشادة حامية وقعت بين الملك ورئيس وزرائه محمود فهمي النقراشي، على خلفية علاقة الأول بالممثلة الشهيرة وكيف يكون على علاقة بفتاة يهودية فى الوقت الذي تعتبر فيه مصر الحركة اليهودية الصهيونية عدوة لها، وأن هذا مبعث استفزاز للشعب المصري كله، وأن الملك كان مصرِّا على موقفه وأنه لن يسمح لأحد حتى لو كان رئيس وزرائه بالتدخل في شؤونه الخاصة. ويقال إن النقراشي، بعد تلك المناقشة، أوعز إلى أجهزته بضرورة إنهاء هذه العلاقة مهما كان الثمن.

وعن ملابسات مصرعها فى حادث الطائرة، قيل الكثير، لكن الثابت أنها أرادت السفر إلى سويسرا لعرض نفسها على أحد الأطباء هناك بحسب ما أعلنت للمحيطين بها، غير أنها لم تجد مكاناً على طائرة "ستار أوف ماريلاند" التابعة لشركة الطيران العالمية TWA رحلة رقم 903، وقبل مغادرتها مقر الشركة في القاهرة، جاء رجل ليقدم اعتذاره عن عدم السفر على تلك الرحلة، طالباً إعادة التذكرة التي كان قد اشتراها، فتلقفت كاميليا الهدية وحزمت أمتعتها بعد ساعات، وغادرت على متن الطائرة المنكوبة لتلقى مصيرها المحتوم. ولم يكن هذا الرجل سوى الكاتب أنيس منصور الذي حكى تلك الواقعة في مقالة له بعنوان "ماتت هي لأحيا أنا".

وإذا كانت واقعة ركوب كاميليا الطائرة بديلاً لشخص آخر صحيحة، فإن كلام أنيس منصور يبدو لي محل شك، فقد طلبتُ من صديق لي يعمل في TWA، التحقق من صحة المعلومة، فأفادني بأنه استطاع الاطلاع على لائحة ركاب الطائرة المنكوبة في مقر الشركة الرئيسي، ولم يجد اسم أنيس منصور بينها، وأن الشخص الذي أعاد تذكرته وحلّت كاميليا محله، كان رجلاً سويسرياً يعمل في إحدى شركات التأميم في القاهرة واسمه دانيال فولار، ولما طلبتُ منه صورة من تلك اللائحة اعتذر مبرراً ذلك بأنها من أسرار عمله وأنه اطلع عليها بصفة شخصية.

لكن مصادر المخابرات البريطانية، بحسب الكتاب المشار إليه سابقاً، تضيف تفاصيل أخرى أكثر إثارة، فتورد أن فاروق قرر في نهاية صيف 1950، القيام بأول رحلة له بعد حرب فلسطين، وقد اتخذت الإجراءات ليلتقي بكاميليا سراً في مدينة "ديوفيل" بفرنسا، ونزل هو في مارسيليا على أن تلحق به كاميليا التي كان عليها أن تطير من القاهرة إلى سويسرا ثم تأخذ السيارة إلى ديوفيل، وكان قد أرسل سائقاً مع أحد سكرتارييه إلى جنيف لاستقبالها هناك، وفي الموعد المحدّد لوصولها اتصل به السكرتير هاتفياً ليخبره بأن الطائرة التي كانت تقلّ كاميليا من القاهرة، سقطت وتحطمت عند الدلنجات في محافظة البحيرة شمالي دلتا النيل، وأنها قد احترقت وماتت مع 54 آخرين. وتشير مصادر إلى أن فاروق كان ينوي الزواج بكاميليا رسمياً في تلك الرحلة بعدما أقنعها باعتزال التمثيل، لا سيما بعد طلاقه من الملكة فريدة، وأن ذلك كان دافعاً آخر وراء تخلّص الأجهزة المخابراتية المصرية منها خشية أن يصبح ولي عهد مصر يهودياً لو أنجبت كاميليا له الابن المنتظر ووريث عرش مصر والسودان. كما قيل أيضاً إن الوكالة اليهودية هي التي تخلصت منها بعدما أدرك الملك أنها مصدر تسريبات القصر باعتبارها أصبحت ورقة محروقة.

ورغم ذلك كله، خرجت أصوات تشكك من الأساس في وجود علاقة خاصة بين كاميليا والملك فاروق، وأن هذا كله من صنع خيال الصحافة الفنية بإيعاز من رجال ثورة تموز/يوليو الذين حشدوا كل ما يدلّ على فساد ملك مصر السابق، ومن ثم حتمية الثورة عليه على النحو الذي حدث في العام 1952. لكن الفنان شكري راغب، مدير دار الأوبرا المصرية وأحد العارفين بأمور الحياة الفنية في مصر قبل 1952، يذكر في كتابه المهم "الباب الخلفي"، واقعة تشير بوضوح إلى حقيقة العلاقة بين فاروق وكاميليا، إذ دعاه "إدوارد" أخو كاميليا ذات ليلة إلى سهرة بفيللا في شارع عكاشة بالجيزة من دون أن يعرف هوية صاحب الفيللا، وهناك شاهد كاميليا مع ثلاث راقصات باليه أجنبيات، وقال له إدوارد في البداية إنها فيللا أخته، وبعد إبداء شكري راغب دهشته وإلحاحه فى معرفة الحقيقة، قال له إدوارد: أنت فى ضيافة مولانا، ثم اتضح أن لفاروق في هذا الشارع الهادئ ثلاث فيلات خص كاميليا بواحدة منها، وأنه كان يقف في شرفة الفيللا المواجهة يرقب المشهد برمته حتى يختار راقصة الباليه التي يظفر بها في تلك الليلة في دليل قاطع على أن كاميليا لم تكن فقط إحدى محظيات الملك السابق، بل كانت أيضاً هي وأخوها يرتبان للملك سهراته الخاصة.

وعقب مصرعها، نشرت مجلة "المصور" في 8 أيلول/سبتمبر 1950، تحقيقاً عن ملابسات حادث سقوط الطائرة، وجاء فيه: "أخفت النار معالم الجثث جميعاً إلا جثة واحدة لم تستطع النار إخفاء معالمها، إنها جثة كاميليا.. لقد كانت في حياتها إذا ظهرت بين جمع من الناس امتازت عليهم بجمالها، وهي الآن في رقدتها بين هذه الجثث لا تزال محتفظة بميزاتها إنها أحسن حالاً إن جازت المفاضلة بين جثث مشوهة، إن الذين رأوها معي كانوا يحسدونها على أنها ظاهرة المعالم تماماً كما كان الناس يحسدونها على أنها ساحرة المفاتن".

ثم يضيف محرر "المصور": "كان مصورنا مصرف" هو المصور الوحيد الذي شاهد الطائرة في دقائقها الأخيرة، رأى الضحايا جميعاً قبل مصرعهم بنصف ساعة إذ ذهب في منتصف الليل إلى مطار فاروق لتصوير المسافرين، فلما وصل ابتسمت له كاميليا وقالت "إنت دائما تصورني صوراً جميلة، فإياك النوبة دي تضيع مستقبلي"، ثم سألته أي الأوضاع أجمل بالنسبة لها البروفيل أم الفاس؟ فلما قال لها إنها جميلة في كل الأوضاع، ضحكت وقالت "الدنيا كلها بتقول إني جميلة مع إن هناك أجمل مني بكتير بس ما تعرفهمش".

وقد جذبت الأحداث المتتابعة التي مرت بها حياة كاميليا، صنّاع الدراما لتناولها في أعمال فنية. فقدم المخرج عاطف سالم سنة 1976 فيلماً شهيراً بعنوان "حافية على جسر الذهب" عن قصة لإبراهيم الورداني الذي عايش بنفسه تفاصيل حياة كاميليا، وقامت ميرفت أمين بأداء هذه الشخصية من دون الإشارة صراحة إلى شخصية الملك فاروق، بينما أدى حسين فهمي شخصية مكتشفها الفنان أحمد سالم. أيضاً هناك مسلسل محفوف بالمشاكل عنوانه "الفراشات يحترقن دائماً" من تأليف أبو العلا السلاموني، وكان من المفترض أن يرى النور قبل أكثر من 15 عاماً، لكنه ظلّ مجرد مشروع حتى اليوم لأسباب غامضة، تماماً مثل حياة بطلته كاميليا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها