الثلاثاء 2022/09/27

آخر تحديث: 19:09 (بيروت)

ثورة الإيرانيات.. أجسادهن

الثلاثاء 2022/09/27
ثورة الإيرانيات.. أجسادهن
increase حجم الخط decrease
ليس عشوائياً انتشار تعبير "أبارتهايد جندري" في مدوّنات داعمي الثائرات الإيرانيات. تمييز، سحق، قمع، بناءً على الأنوثة وخنقاً بالأغطية لمساحة جسم، وأفق عقل وروح وحياة. تماماً مثلما كان يوماً التمييز على أساس لون البشرة، الجِلد الذي به يُصنَع عَيش كريم وتُحفَظ حقوق طبيعية، أو يُورَّث الظُّلم لأجيال متوالية. منذ زمن طويل، لم يكن حراك سياسي مركزه الجسد بالكامل هكذا، مثل الحال الإيرانية، ليتّسع عامّاً بحجم أمّة، وصداه للكوكب.

الانتفاضة الإيرانية هذه، شَعرُها الطائر، أو المتناثر مقصوصاً بعِناد وغضب فوق جنازة، ليست مثل تحركات من أجل الحق في الإجهاض والاقتراع، وحق المولودات في عدم تشويه أعضائهن التناسلية. ليست كمسارات التحرر من الوصاية على كامل الجسد وحركته، تعليمه ورياضته وسَعيه، عشقه وأَجره بعد عَمل، ترشّحه لقيادة أو اختيارها، ومساواته بجسد يختزن هرمونات أخرى. قتله من أجل "شرف" سواه، ضربه وتسمية الجريمة "أُسَرِيّة"، رقصه وغنائه وزواجه وحتى قيادته السيارة. هذه كلها مسارات شابَتها صعوبات، ودُفعت فيها أثمان باهظة، فبدّلت السردية "المقبولة" وغيّرت وجه العالم، أو بعضه الكثير. لكنها قلما تحركت وحدها، أو كانت هي المتن الطاغي منفردة. أما أجساد الإيرانيات، فهي الموضوع والشعار وأداة النضال في آن... وبقية السياسة والاجتماع والاقتصاد والحريات، مَجدُولة مع خصل الشعر المتمردة.

لعله، منذ بدء الحركات التحررية للسّود، لم تُربَط الحقوق بالجسد هكذا. كل الحقوق، كل الحرية، كل التغيير المنشود. هذا الجسد ينمو الآن على امتداد أكثر من 40 مدينة إيرانية. حراكات العام 2019 و2021، ووقت سابق من 2022، كانت معيشية في المقام الأول. وقبل ذلك، في 2009، كانت سياسية ضيقة، بالمعنى التقليدي للكلمة... انتخابات وتصويت وتزوير. التغيير الأشمل كان مأمولاً ومُضمراً لا محالة، لكن الصورة كانت مُعارَضة شعبية فوهاتها الأحزاب والتيارات، والخبز والمحروقات. لم تصل إلى الفرد، كل فرد على حدة. والآن كل فرد يقف إلى جانب فرد، لتتراكب صورة شعب، ويهدر صوت شارع. وأغنية "بيلا تشاو" غيّرت معانيها لتُوائم صوت الإيرانية التي تنشدها، وليست الشابة هي التي تبنّت الأغنية بدلالاتها الأصلية. الشابة هي الأغنية.


في هذه الانتفاضة، لا مكان للتسويات، ولا التفاوض، ولا البيع والشراء. الغلاء والجوع وتداعي الخدمات الحيوية، الباسيج والسجون، حرية الاقتراع، والتشريع والحكومات والإعلام والسينما... تحتمل البازار الذي منه تَخرَّج هؤلاء الملالي. تحتمل مقايضات. غض نَظَر وتساهل من هنا، من أجل هدوء هنا وهناك. لكن الآن، فإما التغيير الفعلي، وإما القمع الكامل الماحق. إما سقوط الحجاب، أو تثبيته على الرؤوس بالكَيّ ودقّ المسامير... والدم أصلاً بدأ يسيل. سقوط الحجاب لا يمكن إلا أن يعني سقوط عَمامات وعباءات، سقوطها بكراسيها. وبقاؤه لا يمكن إلا أن يعني إزهاق أرواح، وزيادة الزنازين، لإعلاميين وناشطين، ولأناس عاديين يوميين.. كتلك العجوز، الجارة أو الأمّ أو الجَدّة التي يعرفها باعة الحيّ ونواطيره، وأمس كشفت ما تبقى من شعرها الأبيض وهتفت بالموت لخامنئي. مثلها الشابة التي قصّت شعرها ونثرته فوق جثمان أخيها شهيد التظاهرات. راحت تفتته في الهواء بازدراء... أمِن أجل هذا مات شقيقها، وماتت مهسا أميني، ويموت عشرات في الشوارع؟ "الموت لخامنئي"... لا لأمريكا ولا لإسرائيل ولا للامبريالية، لأن الداخل هو الآن الأصل والأساس والحقيقة الأولى.

الانتفاضة هذه المرة، قلبها النابض، آخر. أضخم، أعتى. الجسد القلب. يجمع فئات أوسع من الإيرانيين والإيرانيات. يتّسم بالشباب أكثر من أي وقت مضى. العجائز والكهول، به، شباب. صورته وجسده أنثويّان، لكنه في العمق مُوحّد جندرياً، لأن الحريات لا تتجزأ.


وصُور إيران القديمة، الذاكرة المُختارة لما قبل "الثورة الإسلامية"، كلها أجساد. رجال ونساء معاً لا يفصلهم إلا الهواء والضحكات. على الشاطئ، بمايوهات وتنانير قصيرة وبذلات على موضة الستينات والسبعينات. "الثورة الإسلامية" ابتلعت أجسام النساء، ولا بد أن تكون مناهضة النظام بأجسامهن نفسها. إنه منطق الأشياء والتاريخ.


بيروت مثلاً، صُورها النوستالجية عمران ومبانٍ تراثية صامدة، مقاهٍ وجامعات، مسارح ومهرجانات، رخاء وساحات تتمازج فيها الطبقات والطوائف، وطبقة وسطى مهيمنة. صُور اللا-حرب. لكن أطياف إيران قبل ثورة الخميني، مثل أفغانستان قبل "طالبان" وأحياناً مصر قبل المدّ الديني، أناس مرتاحون في أجسادهم، وأجسادهم مرتاحة في أرضها وبيئة لهوها وعملها وأطفالها. ولئن ضمّنت ثورات أفغانستان ومصر، كما ثورات الربيع العربي، تلك الأجساد في سياق قومي وإقليمي، اقتصادي وعسكري، فإن إيران الحاضر والذاكرة، ظلت جسداً مُحاصراً. جسد امرأة أولاً، بما يُخفى منه ويَظهر. صوته، ألوانه. في الذاكرة المستعادة مراراً، المطربة كوكوش–"صوت إيران" المحبوب، ومرجان ساترابي، صاحبة كتاب/فيلم Persepolis المنفية في باريس.


حتى الناشطة المقتولة مؤخراً برصاص الشرطة في الشارع، حديث نجفي، يتشارك الغاضبون الآن صورها ببلوزة قصيرة تنحسر عن بطنها، وإيشارب موضة، ومكياج مُلفت. بها يناكفون السلطة، ومن أجلها. بذكراها هذه، بعد الموت، بل بسبب هذا الموت. السينمائيون والكتّاب والناشطون الذي ما زالوا في الاعتقال أو هاربين، يبدون، على أهميتهم وشجاعتهم في جمال وإبداع وتحدٍّ، كأنهم يبقون إكسسوارات لمشهد الإنثى وجسدها. ليس لتهميشهم، بل لأن هذا الجسد بات يمثّل القضية الإيرانية ككلّ، يختصر عنفها ومأساتها وتراجيديتها. هذا الجسد يمثل رجالاً ونساء، شباباً وأطفالاً، أجنّة في الأرحام، وكيانات بشرية ما زالت أفكاراً لم تولد.

ثمة مَن كتب: "من الآن فصاعداً، ستُعرَف إيران بنسائها، لا بالزعفران ولا بالسجاد، ولا بالقطط الفارسية".

إيران فروة رأس. فروة رأس فارسية. فروات رؤوس فارِسات.. صِرن هن خطوط "الله" في البياض وسط العَلَم. شعار "نساء، حياة، حرية" سيذوّب كل "لبَّيك يا...".

ثمة هنا ما هو أبعد من نسوية. أقوى، أعمق، أبسط. أكثر عضوية وفِطرية. وإذا نجحت الإيرانيات في إسقاط نظام خميني-خامنئي، فستكون النسوية مَدينةً لهن إلى الأبد، وكذلك سكان هذه البقعة الشقية من العالم، وربما العالم.   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها