الإثنين 2022/09/26

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

فالتر بنيامين في بيروت.. قراءة في متسكّعيه

الإثنين 2022/09/26
فالتر بنيامين في بيروت.. قراءة في متسكّعيه
بيروت بريشة سيتا مانوكيان
increase حجم الخط decrease
بالنسبة إلى فالتر بنيامين، المدينة هي نص، تُداخله نصوص أخرى. يتغير النص حسب مزاج متلقّيه، وحسب طبقته الاجتماعية، وحسب ما يعتور هذا المتلقّي من سوداوية وعزلة ويأس وقنوط أو ما يعتمل بداخله من فرح وسكينة واطمئنان. 

إن المدينة نص واحد، لكن كلمات هذا النص تصطف رهن مزاج من يكتب المدينة. قد تكون المدينة حديقة غنّاء، رصيفاً، مقهى، صالة عرض، إلى آخره.. لكنها في نهاية الأمر مقبرة. لا يرقد موتى المدينة تحت التراب فيستريحون، بل تراهم على عجلة من أمرهم حيال تكديس الأشياء وقد دفعتهم أسباب الموت لأن يكونوا محض كائنات استهلاك، سلعة، بيع وشراء وترقّب سعر الدولار على المنصة وفي السوق السوداء.

إن "الخوشبوشية" التي انعقدتْ أواصرها بشدة، بيني وبين فالتر بنيامين، تجيز لي قراءة هذا الرجل كما أشاء، بل إنها تجيز لي ملاقاته في مقاهي الروسّا أو الدانكن أو تاء مربوطة أو إم نزيه ومحلات عقيل ومكتبة أنطوان ومكتبة الرافدين وكشك نعيم ومطعم بربر، وغيرها من مطارح شارع الحمراء.

في تقديمها لكتابه Illuminations، خرجتْ حنة آرندت بفالتر بنيامين من ردهة الفلاسفة وموضعته في فضاء الشعراء، وقد تكون في بالها عبارة شهيرة لهولدرين: الفلسفة هي مستشفى مخصص للشعراء المنكوبين.

خرجتُ من الأمسية الشعرية وقد تمادى الملل بما لا قدرة لي على احتماله. كانت العتمة قد انفلشتْ في شارع الحمراء بإتقان، والمطر الخجول كان محل تردد بين الهطول أو البقاء فوق. تلبسني فجأة شعور طافح بما يشبه البدء، بما يشبه لحظة الخلق الأولى، وكأن العالم قد بدأ الآن. شعرت أن القطط من أروع شعراء العالم... ربما القصيدة هي تلك التي لا سبيل لتدوينها: مواء القطط، عواء الكلاب، تكسّر الموج فوق الصخر في ليلة عاصفة أو أنين محتضر وأصوات أخرى. إنما إذا كان لا بد للناس من أن يتجمهروا حول شاعر ما، فليكن هذا الشاعر، على حد قول بنيامين، فليكن هو مجاز المدينة: مقامر مفلس، جندي فار من الخدمة، متسول، فتاة ليل، وعلى رأس كل هؤلاء متسكع يسير في اتجاهات عديدة لا لشيء.

من المفارقات أن بنيامين يعدّ دوستويفسكي شاعراً، وفي تقصّيه لمسألة المدينة ومتسكّعيها جال على عديد الأسماء، لكنه أكثر ما استبقى على صاحب رواية "الممسوسون"، بالإضافة إلى شارل بودلير. إن التسكّع بصحبة فالتر بنيامين في شوارع بيروت، يستدعي بشدة هذه العبارة من كتاب "الممسوسون": "هذه المدينة تشبه أن يكون الشيطان قد وضعها في سلة مثقوبة فتناثرتْ على الدرب هنا وهناك"... كلنا في بيروت ممسوس.

أسمع بنيامين يهمس في أذني: لكن بيروت تستدعي أيضاً بودلير، حيث الإنتحار هو إنجاز المدينة الأبرز، إنه الفعل البطولي الوحيد في فضاء عاصمتنا.
 
(فالتر بنيامين)

إن التسكّع ههنا هو بمثابة آلة رصد للكارثة وآلة رصد للموت، فـ"السوداوية تحرّض على احتضان الأشياء الميتة كطريقة واحدة للخلاص". إنها مدينتنا التي، وقد تحولنا إلى محض متسكعين فوق طرقها وأزقتها، صرنا مجاز الغرباء فيها، صرنا استعارات الحنين وبحسب كلمة عزيزة على قلب بنيامين صرنا مجرد allegory ... نحن لسنا بنحن على الإطلاق، إننا كنايات عن بؤسنا، عن تبدّدنا، وعن موتنا.

بعكس ما قد يتبادر للذهن، ليس للتسكع في هذه الجغرافيا الباهتة علاقة مع نمط آخر مع المكان، كلا، فالتسكع هنا هو أقرب إلى القطع مع الأمل بمستقبل واعد. فالماضي، كما بثّني بنيامين، لا ينتهي، إنما المستقبل هو الذي قد انتهى.

في رسالة إلى أمه بتاريخ 23 ديسمبر 1865، يقول بودلير: "أريد أن أؤلّب كل الجنس البشري ضدي". إن القصيدة ههنا ليست برطمة الكلمات المكدسة قرب بعضها البعض، والتي تنتظر التصفيق، إنما هي هذا الجسد المنعزل المتسكّع الضائع بين سعر الصرف وخطابات السفلة.

لا أخال الضجر بمنأى عن مزاج المتسكع كما أرقبه في يوميات بيروت اليوم، بل أن صوت نعلَي المتسكع يئن فوق الأرصفة كأنين شخص يحتضر. قد يروق للمتسكع أن ينصت إلى صوت الضجر في هوشة الزحام، قد يروق له أن يدوّن نص المدينة كما مرّ أعلاه، كمقبرة... مقبرة شاسعة الأرجاء تفور بالصيارفة ورائحة البراز وصوت رجل يعدنا عبر صواريخه بالحفاظ على نفطنا.

من العناوين البارزة في المتن البنياميني العام، أن ثمة في هذا العالم من يستهويه أن لا تكون حالة الطوارئ إستثناء، بل أن تكون هي القاعدة، ومن باب الدعوة إلى الأمل على الرغم من هذا الإستثناء، يدعونا بنيامين لضرورة "التوصّل إلى مفهوم للتاريخ ينسجم مع هذه القاعدة، (العيش في ظل الإستثناء بشكل دائم)". إنما أيّ أمل هو هذا، وقد عمد بنيامين بالذات إلى الإنتحار بجرعة زائدة من الأفيون، ليس في شارع الحمراء، إنما على الحدود الفرنسية الإسبانية، رغبة منه في الفرار من "سيد" استثناءات ألمانيا النازية ... انتحر فالتر بنيامين بتاريخ 26 أيلول 1940.

إن التسكّع هو القاعدة في مدينتنا اليوم، حتى أولئك الذين يمجّون سيجارهم بعمق في هذا المقهى أو ذاك، تراهم أشبه بدخان سيجارهم... ثمة رغبة عارمة عند الجميع بالتبدد كدخان في قلب عاصفة، كبراز عصفور يرفرف في خلاء السماء.

كنت أجوس الشارع بنظراتي عندما نطق بنيامين بصوتي: "جنباً إلى جنب مع نمو المدن نمتْ وسائل تسويتها بالأرض". كنت هناك أمام مبني السارولا، أقرأ أسماء المصارف المكتظة في الجهة المقابلة. في نصّه عن الفنان التشكيلي، بول كلي، يقول بنيامين: "إن التقدم هو مراكمة البؤس"، وثمة في هذه اللحظات متسكع يخبر متسكعاً آخر في شارع الحمراء، أن بوتين يهدد باستعمال السلاح النووي، ثم يغشاهما الضحك، وأنا مثلهما صرت أضحك... يبدو أن بنيامين كان محقاً لدى بثه في الأطروحة السابعة من أطروحاته حول التاريخ، الحقيقة التالية: "ما من وثيقة للحضارة ليست في الوقت نفسه وثيقة للهمجية"... ولنعد إلى شارع الحمراء، لنعد إلى ضيق شارعنا.

إن التسكّع في هذا المحل هو صيغة أخرى لتمثّل المدينة وقد شارفتْ على النهاية، والمتسكّع في هذا السياق لا يتجاوز أن يكون مجاز الفجيعة الآتية... إنه "نصب تذكاري للموتى" كما جاء في واحد من كتب فالتر بنيامين (One Way Street).

الكل مُنطوٍ على ذاته ومستغرق في دواخله الدفينة، بيد أن هذا الإستغراق لا يغير العالم، لكنه يغير صِلة الإنسان بالعالم حيث السوداوية تأخذ بيد الهزيمة. الوجوه توحي بكلمات العوز، والقسَمات تلحّ على الفرار. فالإنسان هنا كفّ عن أن يكون "دودة بلهاء مؤتمنة على الحقيقة" كما يقول أحد المقربين من فالتر بنيامين (باسكال). إنما إنسان بيروت اليوم هو مجرد دودة، دودة تتسكع فوق الأرض بانتظار لحظة طمرها... نحن ناس بيروت اليوم، لا نتجاوز أن نكون دوداً يتسكع فوق مزابل المدينة.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها