الأحد 2022/09/25

آخر تحديث: 08:11 (بيروت)

في رحاب الكنيسة التي في مصر

الأحد 2022/09/25
increase حجم الخط decrease
حين تأخذ الطريق الصحراويّ الذي يحملك من القاهرة إلى الإسكندريّة، من الصعب أن تتخيّل أنّ الجمال في مقدوره أن يتفجّر في الصحارى، وأنّ القفار يمكنها أن تتحوّل إلى منبسطات خضراء. كانت محجّتنا دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون طلباً للقاء مع الشباب المصريّ نظّمته، بالتكافل والتضامن، كلّ من مؤسّسة برو أورينتي (Pro oriente) النمساويّة، التي تعنى بالحوار بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الأرثوذكسيّة، ومجموعة «نختار الحياة»، التي أطلقت في شهر أيلول من العام المنصرم وثيقةً على جانب كبير من الأهمّيّة تتناول أوضاع المسيحيّين في الشرق الأوسط. وقد استضاف تواضروس الثاني، بابا كنيسة الأقباط الأرثوذكس والكرازة المرقسيّة، هذا اللقاء في مضافة «لوغوس» (أي الكلمة) الأنيقة الواقعة في قلب الدير. استعادت الأيّام الثلاثة (16-18 أيلول/سبتمبر) التي قضيناها هناك معنى الضيافة الحقّ، تلك القيمة الكبرى التي تمتدّ من ابرهيم، أبي المؤمنين، إلى الكنائس المتناثرة في الإمبراطوريّة الرومانيّة كما يصفها العهد الجديد. هناك، في دير الأنبا بيشوي، كانت ضيافة بابا مصر منطلقنا إلى تلاق إنسانيّ كثيف مع وجوه منيرة بسمرتها، وإلى أحاديث عميقة عن خصوصيّات السياق المصريّ وديناميّات ولوجه إلى شركة حقيقيّة بين كنائس لا يزال بعضها يحترس من بعضها الآخر ويخاف منه. وقد لفتنا توق جيل الشباب إلى مزيد من المجمعيّة والمعيّة لأنّ المحبّة لا تصان إلّا بمزيد من المحبّة. ويتصاحب هذا مع شعور متنام لديهم بأنّ الشرخ آخذ في التعمّق بين فئة شبابيّة تأتي، وإن لم تعِ ذلك كلّيّاً، من إرهاصات الثورة المصريّة الأخيرة، ومؤسّسة كنسيّة تكاد تفقد لغتها وجسر عبورها إلى مجتمع تصطخب فيه احتمالات التبدّل. 
لعلّ دير الأنبا بيشوي هو أكثر ديورة الأقباط الأرثوذكس قرباً من مؤسّسة البابويّة المصريّة. فهو يحتضن مقرّاً بطريركاً يلجأ إليه البابا تواضرس كلّما أثقلت كاهله شؤون الكنيسة المصريّة الكبرى وشجونها. ومن الدير، الذي يعيش فيه اليوم نحو مئتي راهب، يتمّ في العادة اختيار أساقفة المجمع المقدّس. وتلفتك في هذا الدير مكتبة بطريركيّة تأسّست العام2019 تضمّ، إلى جانب مجموعة من المخطوطات القيّمة وقطعة من خشبة الصليب، نحو ستّين ألف كتاب ومجلّد هي في طريقها إلى الفهرسة والتنظيم، بحيث يتسنّى للباحثين أن يقصدوها في المستقبل ويعبّوا من كنوزها. كذلك تلفتك كنيسة معموديّة شارك في رسم جدرانيّاتها فنّان ملحد من الشرق الأقصى. ويؤمّ بابا الأقباط هذه الكنيسة الصغيرة على نحو متواتر كي يعمّد الأطفال بطلب من ذويهم كائناً ما كان موقعهم الاجتماعيّ ومكان سكنهم، وذلك كي تتعمّق أواصر التعارف والودّ بين بابا مصر وأبناء كنيسته.

من الواضح أنّ تواضروس الثاني يجدّ قدماً في تحرير كنيسته من الجمود الفكريّ الذي أصابها إبّان عهد سلفه شنودة الثالث. فتجده يسعى إلى دعم الكلّيّة اللاهوتيّة في العبّاسيّة بعقول وطاقات جديدة، ويفكّر في إنشاء أكاديميّة لاهوتيّة من الطراز العالميّ الرفيع. وهو، إلى ذلك، يلمّ بالنزعات السلطويّة لدى بعض الأساقفة، ويرصد أنّ الرهبنة ليست في منأًى عن الانحراف، كما تدلّ جريمة اغتيال الأنبا إبيفانيوس، أسقف دير أبو مقار ورئيسه، قبل نحو أربع سنين. لكنّه أيضاً يدرك أنّ التغيير عمليّة تراكميّة بطيئة ولا يتحقّق على نحو آليّ. ويُحسب له أنّه لم يسعَ يوماً إلى تهشيم الإرث الروحيّ المترامي الذي خلّفه سلفه الأنبا شنودة، وأنّه لم يحاول إبعاد الذين كانوا يحيطون بسلفه وشرذمتهم، بل هو ما زال يتّكل عليهم ويستشيرهم في أمور شتّى، حاسباً أنّ الجمع أفضل من التفريق والاستدخال خير من الإقصاء. يقود هذا الرجل، الذي هتف ذات يوم أنّ وطناً بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن، كنيسته بكثير من الاتّضاع والصبر. يحبّ البنيان من دون أن يهمل الإنسان الذي هو القيمة الكبرى وجوهر كلّ سعي إلى العمران. وهو يدرك ما لا يدركه كثيرون أنّ الكنيسة ليست مؤسّسةً من مؤسّسات هذا العالم، ولا يمكن قيادتها بمجرّد إصدار الأوامر بحيث تتحوّل الإدارة إلى شيء يشبه العسكريتاريا. لكنّه يفقه أيضاً أنّ الفساد الذي ينخرها هنا وهناك لا بدّ من التصدّي له بكلّ جرأة وحزم على الرغم من أنّ أحداً لن يستطيع اجتثاثه من العقول والممارسة بسحر ساحر. 
تبدو كنائس مصر اليوم أمام تحدّ عظيم هو ضرورة كسر النمطيّة الخرساء التي تحكّمت في علاقاتها بعضها ببعض إبّان العقود الأخيرة والذهاب إلى المعيّة الحقيقيّة والسير معاً كما أرادهما إنجيل يسوع. وتقف الكنيسة الأمّ بينها وكبرى كنائس الشرق العربيّ، أي الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، على مفترق طرق عظيم، وذلك في غمرة التبدّلات البعيدة الأثر التي تشهدها مصر، إذ هي معنيّة بتجديد ذاتها وبأن تصبح، في آن معاً، كنيسة الرهابين المباركين في رحابة الصحراء المصريّة، وكنيسةً منفتحةً على ديناميّات الحداثة لا تخشى العقل، إذ هو عطيّة الله، ولا تكتفي بالنقل، لأنّ الببغائيّة لا تصنع الربيع.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها