الأحد 2022/09/25

آخر تحديث: 08:16 (بيروت)

فسيفساء غزة

الأحد 2022/09/25
increase حجم الخط decrease
منذ بضعة أشهر، عثر مزارع فلسطيني يُدعى سليمان النباهين على أرضية فسيفسائية تعود إلى العهد البيزنطي أثناء تأدية أعماله الزراعية في أرضه الواقعة بمخيم البريج للاجئين وسط قطاع غزة. وفي حديث نقلته وكالة "رويترز"، قال هذا المزارع إنه عثر على هذه الأرضية أثناء عمله، وذلك حين حاول أن يتبيّن السبب في أن بعض الأشجار التي غرسها لم تثبت جذورها في التربة كما ينبغي، فشرع مع أحد أبنائه في الحفر للكشف عن السبب، وخلال الحفر ارتطم فأس الابن بجسم صلب شكله غير مألوف. تبيّن سريعًا أن هذا الجسم هو أرضية من الفسيفساء، وبعد توسيع أعمال الحفر على مدى ثلاثة أشهر، ظهر لوح واسع يضم أشكالا مختلفة من الحيوانات كالإوز والبط والثعالب والأرانب.


واصل سليمان النباهين حديثه وأضاف: "هكذا اكتشفنا وجود هذه الأرضيات خلال بحثي في عمق الأرض الزراعية حول سبب موت الأشجار منذ نحو ستة أشهر"، "ثم بحثنا على شبكة الانترنت، فعرفنا أن هذه الأرضية هي فسيفساء تابعة للعهد البيزنطي". أدرك المزارع البسيط أنه اكتشف "كنزا وأغلى من كنز"، وأن هذا الكنز لا يعود إليه شخصياً، "بل هو ملك لكل فلسطيني"، فنقل الخبر إلى السلطات المختصة. من جهتها، أشادت "وزارة السياحة والآثار" في قطاع غزة بدور هذا المزارع الفلسطيني وامتدحت "حسّه الوطني العالي الذي دفعه إلى إبلاغ الجهات المختصّة"، وأصدرت بيانا أعلنت فيه رسميّا هذا الاكتشاف، وقالت في هذا البيان إن الكشف الأوّلي لهذا الموقع الأثري أثبت وجود "أرضيات فسيفسائية تضم أيقونات لحيوانات تؤرّخ للعصر البيزنطي، ورسوما تُجسّد الحياة الاجتماعية آنذاك". كما أوضحت أنها تعمل "بالشراكة مع خبراء وعلماء آثار دوليين من المدرسة الفرنسية للآثار لمعرفة مزيد من الأسرار والقيم الحضارية، في مختلف الحقب التي مرت بها أرض غزة". في هذا السياق، قال وكيل وزارة السياحة محمد خلّة في مؤتمر صحافي ان "هذا الكشف سيُضفي هيبة ووقاراً ويؤرّخ للحضارة الفلسطينية".

في المقابل، أثار هذا الاكتشاف اهتمام صفوف علماء الآثار المختصين بميراث الشرق الأوسط البيزنطي، وعلى رأسهم رينه ألتر، عالم الآثار من "المدرسة الفرنسية الكتابية والأثرية في القدس"، وهو من كبار المتخصصين بآثار فلسطين والأردن المسيحية، ونقلت عنه وكالات الأنباء العالمية قوله بعد رؤيته لمجموعة من الصور الفوتوغرافية والأفلام التسجيلية الخاصة بهذا الاكتشاف: "هذه أجمل الأرضيات الفسيفسائية التي تم اكتشافها في غزة، من حيث جودة التصوير ومتانة التأليف الهندسي"، "لا نجد أرضيات فسيفساء بهذه البراعة وبهذه الدقة في الرسومات وثراء الألوان في الألواح المماثلة التي تم اكتشافها في مواقع أخرى في قطاع غزة". وأردف عالم الآثار أن هذا الاكتشاف يعدّ استثنائيا، ودعا إلى الحفاظ عليه لكونه يتعرّض لـ"خطر مباشر" بسبب موقعه المتاخم من جدار الفصل الإسرائيلي.

يقع مخيم البريج على مسافة كيلومتر واحد من هذا الجدار، مما يجعله عرضة لخطر دائم، وما ظهر منه إلى اليوم لا يتعدّى مساحة صغيرة منه. تبلغ مساحة الأرض التي تحوي هذه الأرضية الفسيفسائية حوالى خمسمئة متر مربع، وقد تم استكشاف ثلاث مساحات من هذه المسافة من طريق شق ثلاث حفر كبيرة. تبلغ أكبر هذ الحفر ثلاثة أمتار طولاً بمترين عرضاً، وتحوي لوحا تصويريا يمثل سبعة عشر عنصراً حيوانياً، موزعة بشكل تعادلي في خانات تشكل سجادة تجمع بين التأليف التجريدي الهندي والعناصر التصويرية المختزلة. في المقابل، تحوي الحفرتان الأخريان تقاسيم هندسية تجريدية تتميّز بدقة التأليف المركّب. رأت "وزارة السياحة والآثار" في بيانها أن هذه الأرضيات "تضم أيقونات لحيوانات تؤرّخ للعصر البيزنطي، ورسوما تُجسّد الحياة الاجتماعية آنذاك". في الواقع، لا تحمل هذه الأرضية أي صور لقديسين يمكن وصفها بالأيقونات، كما أنها لا "تُجسّد الحياة الاجتماعية"، بل تعتمد على تقليد تشكيلي صرف ساد في الشرق الأوسط كما في سائر العالم المتوسطي في الحقبة البيزنطية، وظلّ حياً في العهد الأموي، كما في العصر العباسي الأوّل، وشواهده عديدة في الأردن، كما في سوريا ولبنان.

في قطاع غزة الذي يعيش حالة من الحرب المتواصلة منذ زمن بعيد، لم يظهر إلى اليوم إلّا عدد محدود من الأرضيات الفسيفسائية اكتُشفت في العقود الأخيرة بالتعاون مع فرق فرنسية علميّة. في 1995، اكتُشفت أرضية من هذه الأرضيات في بلدة عبسان، نواحي مدينة خان يونس، وهذه الأرضية تعود إلى عام 606 كما تؤكد احدى الكتابات التي ترافقها. وفي 1996، اثناء العمل على تحديث الطريق التي تربط بين مدينة غزة وما يُعرف بمعبر بيت حانون، اكتُشفت أرضيات استثنائية في موقع متاخم لمدينة جباليا يُعرف باسم المخيتم. تزين هذه الأرضيات مجمعا دينيا كبيرا يحتل مسافة سبعمئة متر مربع، يحوي كنيسة تتبع النظام البازيليكي ذي الثلاثة أروقة، وركن معمودية، إضافة إلى أبنية أخرى. وتظهر مجموعة الكتابات التي ترافق هذه الأرضيات أنها تعود إلى مراحل عدة، أقدمها يعود إلى 496 وأحدثها إلى 732. في هذه الحقبة كذلك، تم الكشف عن بقايا كنيسة بيزنطية تقع على شاطئ بلدة دير البلح، تزينها أرضيات من الفسيفساء الملونة، تعود الى عام 586 بحسب الكتابة التي ترافقها. ونُقلت الفسيفساء التي تزين الرواق الأوسط لهذه الكنيسة إلى مدينة آرل الفرنسية حيث جرى ترميمها وتثبيتها قبل عرضها في "معهد العالم العربي" في باريس في سنة 2000.


في أرض مخيم النصيرات، جنوب مدينة غزة، وعلى بعد بضعة كيلومترات من بلدة دير البلح، ظهرت معالم مجمع ديني في موقع يُعرف باسم "تل أم عامر" في 1991، وبين 1995 و 1997 جرت حملة تنقيب محلية واسعة في هذا الموقع، تبعتها حملة أخرى بالتعاون مع بعثات فرنسية. هكذا خرج الدير البيزنطي من الظلمة إلى النور وبات يُعرف باسم دير القديس هيلاريون الغزاوي، الناسك الكبير الذي وضع أسس الحياة الرهبانية في فلسطين في القرن الرابع. يتألف هذا الدير من مجموعة ابنية تحيط بكنيسة شيّدت على اسم القديس هيلاريون بعد وفاته في 371، وتحوي هذه المنشآت مجموعة من الأرضيات الفسيفسائية تعود إلى حقب عدة، من نهاية القرن الرابع إلى منتصف القرن السابع. بالرغم من الأوضاع الصعبة التي يعيشها القطاع، استمر مسلسل هذه الاكتشافات، ومنها أرضية فسيفساء كُشف عنها منذ عشر سنوات في حي أصلان، وسط مدينة بيت لاهيا، في شمال محافظة، واللافت أن هذه الأرضية تشبه إلى حد كبير في تأليفها وصورها أرضية من أرضيات دير القديس هيلاريون.

في الخلاصة، تنتمي هذه الأرضيات إلى مدرسة واحدة، كما تشهد تراكيبها الهندسية وعناصرها التزيينية التصويرية والزخرفية. في الدرجة الأولى، وتعتمد هذه العناصر التصويرية على عناصر "حيادية"، وهذه العناصر هي صور لحيوانات ونباتات متعدّدة تظهر بشكل مختزل، وتعكس حالة فردوسية جامعة. في الدرجة الثانية، تزين هذه الصور مباني كنسية، والكنيسة مسيحياً هي بيت الرب، والمؤمن الذي يدخلها يردّد قول المزمور 26: "يا رب، أحببت محل بيتك وموضع مسكن مجدك". في هذا البيت، يستعيد المؤمن مكانته في الجنة الأولى حيث "جبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، وأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها" (تكوين 2: 19). وهكذا، يعود المؤمن ملكاً، ويردّد قول المزمور 8: "من هو الإنسان حتى تذكره؟ وابن آدم حتى تفتقده؟ وتنقصه قليلا عن الملائكة، وبمجد وبهاء تكلّله. تسلّطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه. الغنم والبقر جميعا، وبهائم البرّ أيضا، وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبل المياه. أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كلّ الأرض".

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها