السبت 2022/09/24

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

"تأتون من بعيد"... الحدود قبل أن تصبح حدوداً

السبت 2022/09/24
increase حجم الخط decrease
"أنا متطوع عربي جئت لأدافع عن دمشق في وادي الحجارة، وعن القدس في قرطبة، وعن بغداد في طليطلة، وعن القاهرة في قادش، وعن تطوان في بورغوس".

مشهد ليلي على شاشة تلفزيونية مغبشة، للقصف الأميركي على بغداد العام 2003، ولوغو قناة "سي إن إن" في ركن الشاشة. بتلك الصورة الأيقونية، المركزية في وعينا المعاصر، تختار المخرجة المصرية، أمل رمسيس، أن تفتتح فيلهما الوثائقي "تأتون من بعيد". بصوت هادئ وإيقاع أقرب إلى الشّعرية، تقرأ رمسيس بالإسبانية رسالة موجهة إلى شخص يدعى كارلوس، نفهم أنه كان من ضمن المتطوعين الأجانب الذين ذهبوا إلى بغداد، على أمل أن يوقف وجودهم الغزو الأميركي، ونفهم أنه يفعل ذلك كردّ للجميل، كما تطوع مئات العرب في الماضي منخرطين في صفوف القوات الجمهورية أثناء الحرب الأهلية الأسبانية.

في تلك الافتتاحية، تبدو الصورة منفصلة عن الصوت، التعارض بين فعل الاعتداء المرئي في ومضات الانفجارات وأعمدة الدخان الهائلة، وبين النص الزاخر بمشاعر التضامن والواجب والتضحية، يعيد تشكيل ذلك المشهد في الذاكرة بمنحه معاني أخرى، لنرى ما هو أبعد من سطح الصورة وزمنها.

يروي "يأتون من بعيد"، قصة واحد من هؤلاء المتطوعين العرب، الفلسطيني نجاتي صدقي، أو، للدقة، قصته هي واحدة من قصص الفيلم الكثيرة التي ستنسلّ منها قصص أخرى، كعادة القصص، زوجته الأوكرانية لوتكا، تلك التي سيكتشف أبناؤها يهوديتها عرضاً وهم على مشارفات الثلاثينيات من العمر، والابنة الضائعة دولت التي ستكبر في ملجأ في موسكو فلا تتحدث شيئاً من العربية لغتها الأم، وأختها الأصغر هند في انتقالها مع والديها من القدس إلى بيروت فأثينا، والقليل عن سعيد، أصغر الأخوة، المتنقل بين البرازيل والولايات المتحدة، قصص شتاتهم ولقاءاتهم والمسافات بينهم.



عبر مزيج من المقاطع الأرشيفية بالأبيض والأسود، وألبومات الصور الشخصية، والرسائل، وبأصوات متعددة، ولغات كثيرة، روسية دولت، وعربية هند، وإسبانية رمسيس، وخليط من إنكليزية بسيطة وأكثر من لهجة عربية، ومن مواقع عديدة من أثينا وموسكو إلى بيروت والقدس وغيرها،.. يرسم الفيلم صورة لعالم ماضٍ كان بلا حدود، بحلمه الاشتراكي حين كان كل شيء ممكناً، وبهزائمه الفادحة، خسارة الجمهوريين في الحرب الإسبانية، والقمع الستاليني في الاتحاد السوفياتي، والنكبة الفلسطينية والحرب الأهلية اللبنانية. في تلك السردية، لا يكون الشخصي وسيلة لسرد التاريخ الكبير، ولا التاريخي مجرد خلفية للفردي، بل سيكون هناك بُعدان متساويان في وزنهما ومن حيث الدلالة والمعنى. يشكل الأفراد التاريخ، كما تشكلهم أحداثه الكبرى.

هكذا فإن نجاتي صدقي، ليس الفلسطيني المعهود، لا هو البطل ولا هو الضحية. ومع هذا فهو البطل الكامل بما تحمله الكلمة من معانٍ، يُلقى القبض عليه هو وزوجته في القدس بجناية نشاطه في الانتساب إلى الشيوعية. رحلة الهروب الطويلة بجوازات سفر مزورة من القدس، مروراً بحيفا وعكا والبصة وصور وبيروت وإسطنبول وبلغراد وفينيسيا وبرلين النازية، تجعل منه بطلاً أسطورياً. ثلاثة أعوام في مهمة سرية لصالح الكومنترن في باريس، سيعيش خلالها متخفياً تحت اسمه الحركي "سعدي" ومطارداً من السلطات، ومن هناك سينتقل إلى برشلونة وفيها سيتبنى اسماً له وقع مغاربي، مصطفى بن جلا، وبه سيشارك في الحرب الأهلية الإسبانية ضد الفاشية.

لكن بطولية صدقي تجعل منه الضحية الكاملة بالضرورة، فهو سيقف على الخطوط الأولى للقتال بمكبر الصوت متحدثاً بالعربية إلى المغاربة في صفوف قوات فرانكو، داعياً إياهم إلى الانضمام إلى قوات الجمهوريين، وسينتهي هذا بطرده من إسبانيا، فالمغاربة كان يمكن تصورهم كأعداء فقط. في باريس وبعد سلسلة مقالات بعنوان "النازية والإسلام" ينتقد فيها الاتفاق بين ستالين وهتلر، سيُعاقب صدقي بطرده من الحزب الشيوعي وحرمانه من ابنته العالقة في موسكو، تجريده من حزبيته في باريس سيتبعه استلابات كثيرة، من وطنه بعد فراره من القدس بفعل النكبة، ولاحقاً رحيله عن مدينته بالتبني، بيروت، في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وأخيراً وفاته في أثينا، منفاه الأخير.
 

في أحد المَشاهد تجلس دولت لتشاهد مقطعاً مسجلاً لأختها هند، وتخبرنا أنها تحب الفرجة عليها وهي تتكلم بالعربية التي لا تفهمها. يوظف الفيلم تقنيات عديدة للفصل، فصل بين الصوت والمعنى، كما في هذا المشهد حيث تتجاوز الدلالة الفهم، إلى الشعوري أو ما تحت الشعوري، وكذلك ينفصل الصوت والصورة في كثير من المشاهد، بحيث لا يتوافق المسموع مع المرئي، نسمع صوت دولت تتكلم بينما نراها صامتة على الشاشة. وفي مشهد يسرد النكبة الفلسطينية، تقوم رمسيس بالتبديل والإحلال والتكرار، في لقطة واحدة، حيث تعيد علينا مشهداً لهروب المدنيين الإسبان أثناء الحرب الأهلية، وسط مشاهد فرار الفلسطينيين، وهي تخبرنا بصوتها أن المدن جميعها تتشابه تحت القصف، ومن ثم نتنقل إلى مشهد لأشجار الزيتون، لتخبرنا أن أشجار الزيتون تتشابه أيضاً، ويصعب علينا التمييز إن كانت تلك الأشجار في فلسطين أم إسبانيا أو مكان آخر.

في المشهد الأخير، حين يلتقي الأخوة الثلاثة في موسكو، تكتمل المصالحة وتجسر المسافة بين البُعد والإتيان. وبين كل تلك الانفصالات وشتاتها، مصالحة لا يكتنفها مع هذا شائبة من ضغينة أو غضب ولا حتى حزن، بل تتلمس في تاريخ الهزيمة والنصر، الكثير من المحبة وحس الواجب والإيمان وميراث طويل من التضامن.

الفيلم مجانا على منصة "أفلامنا":
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها