الأربعاء 2022/09/21

آخر تحديث: 15:16 (بيروت)

الفن الفلسطيني المعاصر وقد حفَر شارعاً متعدد الاتجاهات

الأربعاء 2022/09/21
الفن الفلسطيني المعاصر وقد حفَر شارعاً متعدد الاتجاهات
بشار الحروب
increase حجم الخط decrease
يتألف كتاب "الفن الفلسطيني المعاصر"(*)، لبشير مخول وغوردن هون، من مقدمة وستة فصول، وربما يحمل العنوان الفرعي للكتاب، "الأصول، القومية، الهوية"، دلالة تنحو بالفن إلى ما يتجاوز محض الشكل.

مع أهمية ما يتطرّق إليه مؤلفا الكتاب من أمور تتعلق بالتقنيات التشكيلية ومكانة القُدس وموقع الفنان الفلسطيني في الجغرافيا الفلسطينية أو في الشتات أو غيرها من القضايا التي تتناولها الفصول الأربعة الأخيرة من الكتاب، تبقى للفصلين الأول والثاني أهمية خاصة بشكل من الأشكال، وهي أهمية تستمد وهجها من التدليل على المنهجية التي سيصار عبرها إلى تقصّي الأعمال موضوع الكتاب ثم محاولة مخول وهون موضعة بعض العناوين الكبرى والتي تخص القضية الفلسطينية بالإجمال في أفق من التداول الفكري يستدعي خلخلة الكثير من الكليشيهات وعلى رأسها تلك التي تدور حول فكرة "البداية" وفكرة "المنشأ" بشكل خاص. وكأني بنا في سياق الفصلين الأولين من الكتاب، إزاء استئناف البدء مع ما يدخل عملية الإستئناف هذه من جرأة في المناقشة والمآل.


عبد الرحمن قطناني
لا غرو أن المقدمة والفصلين الأولين، وهما بعنوان "مأزق المنشأ" و"المنشأ والكارثة"، مهدت للمؤلفين إمكاناً تأويلياً للأعمال الفنية، ربما يتجاوز في بعده الأخير مقاصد أصحاب هذه الأعمال وهذا بمثابة الدرس التأويلي الأول على كل حال.

يتكىء مخول وهون في عدتهما التأويلية على جملة من الأسماء التي تتراوح توظيفاتها حسب الرؤية والسياق، ومن هؤلاء الأسماء ميشال فوكو (بما يحايث قوله في "الأصول" من بُعد نيتشوي)، إدوارد سعيد، بينديكت أندرسون وقوله في المتخيّل السياسي بشكل خاص. لكن تبقى لفالتر بنيامين المساحة الأكبر في القراءة والتأويل، تارة عبر ذكره مباشرة، وتارة بالهمس، وتارة عبر استحضاره متوارياً ولا بأس بهذا الأمر. وإذا ما كان لنا أن نتجاوز ما جاء في الكتاب بشكل واضح وصريح حيال المرجعية النظرية، لا بدّ عندئذ من الإشارة إلى مسكوت عنه مهم، وأقصد قول حنة آرندت في السياسة كما بلورته بشكل خاص في كتابها The Human Condition حيث ارتقتْ بالعمل السياسي في هذا الكتاب ليكون بمثابة Action أي بالعرف الآرندتي للأمور، لتكون السياسة بمثابة عمل فني هو أقرب إلى الـperformance. فالسياسة في هذا السياق تتجاوز كونها أداة إجرائية في حياة الشعوب بل إنها في هذا المحل تحاكي أقصى تطلعات الناس ككائنات حرة، وهو ما لم يغفل مؤلفا الكتاب موضوع القراءة عن التطرق إليه إزاء مقاربتهما للفن الفلسطيني المعاصر.

ومن دون الدخول في تفاصيل ما قد بثّه مخول وهون حول فكرتي "الأصل" و"المنشأ"، فإنهما يشيران لحدث النكبة كواقعة تأسيسية لفلسطين اليوم، إنه البدء الذي لا يني يتكرر مستوعباً تحولات تلقّيه من جيل لجيل... فالنكبة هي الحدث الذي يحدق في الحاضر، إنها الماضي المقيم دوماً هنا والآن. بيد أن نكبة 1948 في قراءة مخول وهون، ليست مجرد واقعة تاريخية تترتب عليها وقائع أخرى إنما هي – بنيامينياً – واقعة "كارثية" (catastrophe) تحمل لحظة بدئها في كل آن: "إن هذا الحدث، النكبة، صار نقطة المنشأ في تكوين الهوية الفلسطينية الحديثة، وهو بهذا يتغلغل عملياً في كل جانب من جوانب الإنتاج الثقافي". بيد أن ما يميز استئناف البدء هذا بالنسبة للفنانين الفلسطينيين المعاصرين عمن سبقهم من فنانين هو أن حدث البدء هذا، وكما تجسد في معظم أعمالهم، هو ذو صبغة محض تاريخية، ولا يحايثه الأسطوري والتخييلي الذي غالباً ما يحايث كل التصورات التي تقارب فكرة البدايات أو الأصول.

فلسطين اليوم هي حدث تاريخي فاقع، بل أنها مؤشر قلق للعالم أجمع على الدوام، ولم تتجسد مرة خارج إطار الحدث/الأزمة، أخذاً في الاعتبار كل التصورات الحديثة عن فكرة الوطن والقومية والتي تتبناها المجتمعات المعاصرة. من ثم، فإن العمل السياسي الوحيد الذي قد يلبي شرط فلسطين في دنيا اليوم هو -إذا أردنا أن نوظف إحدى عبارات ادوارد سعيد- "التماسك متعدّد المستويات للتشتت"، وهو ما يتجسّد بقوة عبر شتات فناني فلسطين... ففلسطين هي مرادف فوري للتماسك عبر فنانيها بشكل خاص، ومن النافل أنّ ثمة بُعداً آرندتياً (نسبة الى حنة ارندت) في هذه المقاربة للسياسة كما مر أعلاه.


بشار الحروب
ثمة سؤال ذو طبيعة ابستيمولجية ما انفكّ يحايث الفن وعلاقته بالمجتمع: هل الفن يؤسس لثقافة جديدة؟ أم أنه وليد الثقافة السائدة؟ إن قراءة مخول وهون ربما تجيز لمتلقي عملهما القول إن الفن الفلسطيني المعاصر يستمد أهميته بشكل خاص من قدرته على تأسيس ثقافة أخرى تلقى صداها في العالم أجمع، والتجسيد الفعلي لهذا الأمر هو الحضور الفلسطيني الكثيف في عديد بينالات العالم. فعلى الرغم من الثيمات المحلية والتي تداخل النص البصري الفلسطيني المعاصر، فإن الجيل الفني الفلسطيني الجديد يشعر أفراده "أنهم في البيت" إبان تواجدهم داخل الفضاءات الفنية المعولمة والعابرة للأقاليم.

بالعودة إلى فالتر بنيامين، إذا كان التاريخ هو واقعة كارثية لدى هذه المجموعة البشرية أو تلك، فإن هذا الكارثي غالباً ما تتمخض عنه حقيقة أبوكاليبتية، أخذاً في الاعتبار المعنى الأولي لكلمة apocalypse أي الكشف والتبيان ورفع الحجب.

إن التشكيل الفلسطيني المعاصر والذي يتخذ طابع البدوي المرتحل nomad في فضاءات العالم التشكيلية في الشرق والغرب، هو بمثابة الأبوكاليبس في رحلة النكبة الكارثية... لقد رفع الفنان الفلسطيني الحجب عن حقيقة المشهد للعالم أجمع، فكفّ بهذا جدار العزل الإسرائيلي عن أن يكون وسيلة لحماية إسرائيل، بل صار بمثابة الإصبع الذي يشير إلى أولئك الذين يُراد إخفاؤهم خلفه، وكفّت الشجرة عن أن تكون رمزاً للتجذر وما شاكل من كليشيهات، بل صارت معلماً عن فكرة الإقتلاع عبر الجرافة الإسرائيلية.. وإلى آخر هذه الثيمات التي كفت عن أن تكون موضوعات محض تشكيلية، بل صارت بمثابة عيون تحدق باستهزاء في كل إدعادات العالم حول حقوق الإنسان وغيرها من العناوين... التشكيل في هذا السياق لم يعد موضوع النظر بل تراه هو ما يلفت الأنظار إلى ما لم يكن مرئياً.

نحن هنا إزاء سرد مضاد في ما يتعلق بمن هو الفلسطيني اليوم... (counter narratives) إذا أردنا أن نستعين بمعجم العولمة الضخم.

ثمة قصة أخرى تُكتب ويُعمل بجهد من خلالها على مراكمة وعي عالمي آخر حيال من هو الفلسطيني اليوم. قصة جديدة تستقطب العالم بروية وهدوء وقد فشلتْ كل القصص الأخرى في هذا الإستقطاب، بل لعل هذه القصص الأخرى وفي بعض متونها كانت بمثابة خدمة يومية لإسرائيل.

إنه الفن الذي يستحثّ الصوت لأن يخترق آذان العالم ويستحث تلك الآذان على ضرورة الإنصات... لعله الصوت الذي يتكلم بالنيابة عن كل الجسد كما جاء في الكتاب موضوع القراءة، وليس ذلك الذي يتحدث مع العالم عطفاً على أجندات لا تمتّ لفلسطينيي اليوم بصِلة وفي البال صواريخ "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وفي ما يعنينا في لبنان صواريخ "حزب الله" وادعاءات أمينه العام حمل لواء تحرير القدس!

فالفن الفلسطيني المعاصر، وقد نجح في حفر شارع في عدة اتجاهات، وفي هذا تحوير لعنوان مهم من عناوين فالتر بنيامين، شرّع للقدس كي "تنزلق من بين أصابع إسرائيل"، وحوّلها كما جاء في كتاب مخول وهون إلى تلك المدينة التي "تمتلك وجوداً طيفياً منتشراً في أنحاء العالم".

إن النص الفلسطيني البصري المعاصر، وقد نجح في الإفلات من براثن الإنكماش العقائدي ومن تلك السرديات التخييلية حيال فلسطين كما صورها الفنانون الأوائل، تراه عبر انتشاره في العالم أقرب إلى نظرة سخرية من السرديات الصهيونية حيال فلسطين، وعلى رأس تلك السرديات قول الصهاينة الأوائل مثلاً إن فلسطين هي أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. هو نص بصري حيوي أقرب إلى كادر دلالي لأنثروبولوجيا العيش، أنثروبولوجيا اللحظة إذا صح التعبير، حيث التاريخ هنا، كما هو، بلا شبهات البطولات الخارقة، ولا أوهام تاريخ ما قبل النكبة.

ثمة من كتب مرة، وعطفاً على البعد الأسطوري والتخييلي للقدس، أن القدس هي أشبه بمقلاع صخر، كل طرف يقوم باقتلاع الحجارة (الأسطورية) منه ورمي الآخر بها. لا شك في صحة هذا التوصيف بيد أن الحجر الذي يرميه الفنان الفلسطيني المعاصر في طول العالم وعرضه، يستمد أسطوريته من مواد يومية يلهو بها فوق بياض اللوحة أو عبر فيلم قصير أو installation... تارة ألواح الزنك (عبد الرحمن قطناني)، وتارة أخرى الجسد الممدد فوق التراب (بشار الحروب) أو عبر الفنانين الغزيّين الشقيقين أحمد ومحمد ناصر، ملصقات الأفلام الهوليودية، بالإضافة طبعاً إلى ما يجعل لائحة التعداد تطول.

يخبرنا التاريخ أنه في يوم من الأيام طلب أحد أباطرة الصين من كبير الرسامين في قصره محو الشلال الذي رسمه في لوحة جدارية، لأن صوت خرير الماء في اللوحة كان يمنعه من النوم. وكتاب "الفن الفلسطيني المعاصر" يشي في بعض متونه بأن هذا الفن ليس ببعيد عن أن يكون بالنسبة لإسرائيل مثل خرير الماء الذي يمنع ذلك الإمبراطور عن النوم...  

(*) نقل الكتاب الى العربية عبدالله أبو شرارة وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها