الجمعة 2022/09/02

آخر تحديث: 13:37 (بيروت)

ثقافة الاعتراف.. زمان ولّى ومجتمع متربص

الجمعة 2022/09/02
ثقافة الاعتراف.. زمان ولّى ومجتمع متربص
مريم فخر الدين تعرضت للضرب المبرح من زوجيها.. وضحكت على زوجها الثاني لتنال استقلاليتها
increase حجم الخط decrease
في زمن كانت فيه الحياة أكثر رحابة، والناس أوسع أفقاً وتسامحاً، في مجتمع لم يكن المرء فيه معنياً إلا بما يملكه أو يفعله، في أجواء لم تكن تعرف روح التربص والتحفز، في عصر ما قبل السوشيال ميديا و"فلسفة" نشر الفضائح والتشفي في نواقص الآخرين، كان رموز الفن والفكر، بل والسياسة أيضاً، يملكون شجاعة الاعتراف ويؤمنون بأدبه، وكان في إمكان فنان بقيمة نجيب الريحاني أن يكتب في مذكراته أنه جرى مهرولاً في الشارع بلا حذاء هرباً من غريمه المتعهد علي يوسف الذي ضبطه وهو يتسلل إلى بيت صاحبته الممثلة اليهودية صالحة قاصين.

أملى الريحاني مذكراته التي أملاها على صديقه الصحافي والممثل توفيق المردنلي، ونشرت في حلقات بداية من 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1936 في مجلة "الاثنين" التي كانت تصدرها دار "الهلال" قبل أن تعيد مجلة "الكواكب" نشرها العام 1952 بمقدمة طويلة لبديع خيري، ثم صدرت في كتاب للمرة الأولى العام 1959 ضمن سلسلة كتاب الهلال. ويقول فيها الريحاني تحت عنوان "أول غرام": "وإذا كنت قد أشرت إلى أول رواية، فليسمح لي القارئ العزيز أن أعرج على أول غرام علق به قلبي. كنا نجلس في قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبد العزيز، وكان من بين الممثلين زبائن هذه القهوة، الممثل القديم علي أفندي يوسف الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدي الحفلات، وكان لعلي قطقوطة من بين الممثلات لا تزال إلى اليوم في عنفوان الشيخوخة تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت في الماضي تأوي إلى مثل هذا المكان في قهوة إسكندر فرح، وتلك القطقوطة هي السيدة (ص. ق.) وكان على يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة باعتبار ما كان، فلما كنت أذهب لأشاركهما الحديث كانت "نظرة فابتسامة فمش عارف إيه، فشبكان.. وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني وبين فتاة على يوسف هذه، بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها من دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئاً. وأخيراً لعب "الفار في عبه"، وقاتل الله الفئران كلها من أجل خاطر هذا الذي لعب في "عب أبي يوسف"، أقول إن الشك بدأ يساوره لكنه كان على جانب كبير من اللؤم، فلم يبد لنا شيئا مما في نفسه، وأخذ يعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر".

ويمضي الريحاني في مذكراته قائلاَ عن علاقته بصالحة قاصين، من دون أن يذكرها بالاسم: "لم يكن لي مثوى في ذلك الوقت سوى قهوة إسكندر فرح أو بيت حبيبة الفؤاد في غيبة صديق الطرفين الأخ علي يوسف. ما دام الحديث قد جرنا إلى هذين الصديقين فلنعرج عليهما بحادثة أخرى كاد يغمى عليّ بعدها، ذلك أن الفتاة باعتبار ما كان، اتفقت وإياي على إشارة معينة هي أنها إذا وضعت نوراً في النافذة كان معنى ذلك أن علياً بن يوسف غائب عن البيت وأن في وسعي أن أزورها، والعكس بالعكس. وفي إحدى الليالي تراءى لي أن نوراً يشع من النافذة، فعرفت أن الطريق خالٍ، وأن السينافور مفتوح، فخلعت حذائي وتأبطته، ثم صعدت درجات السلم بلا حركة، وطرقت الباب طرقاً خفيفاً جداً وإذا الفاتح! الفاتح غريمي العزيز علي يوسف الذى تناول الحذاء من يدي، وتركني أعدو إلى الشارع ببذلتي حافي القدمين".

انتهت اعترافات الريحاني عن هذه الواقعة، غير أن المدهش أن اعترافاته عن تلك الواقعة أو واقعة فصله من العمل في شركة السكر على أثر اكتشاف علاقته بزوجة مدير الشركة، هي التي جعلت أحد النقاد المعروفين يشكك قبل سنوات في صحة مذكرات "كشكش بيه"، مؤكداً أنه من المستحيل أن يعترف الريحاني على نفسه بمثل تلك الاعترافات، من دون أن ينتبه هذا الناقد إلى أنه يحكم بمقاييس عصرنا هذا على زمن 1936 حينما كتب الريحاني مذكراته في أجواء شديدة الاختلاف تقبل البوح وتحترم خصوصية الآخر.

وإذا كان هذا موقف أحد النقاد من مذكرات الريحاني، فما باله بالراقصة الأشهر بديعة مصابني التي اعترفت في مذكراتها التي نشرتها مجلة "الاثنين" العام 1939، ثم في مذكراتها الأخرى التي أملتها إلى الكاتبة نازك باسيلا ونُشرت في منتصف الستينيات، فتقول مصابني بأنها تعرضت لواقعة اغتصاب قاسية وهي في السابعة من عمرها، فضلاً عن صداقاتها المتعددة بكثير من الرجال وهي في عصمة زوجها نجيب الريحاني؟

على أية حال فإن الريحاني ومصابني لم يكونا الوحيدين اللذين امتلكا في الأيام الخوالي شجاعة الاعتراف، إذ كان بإمكان المسرحي يوسف وهبي الاعتراف هو الآخر في مذكراته "عشت ألف عام" التي نشرتها دار المعارف في ثلاثة أجزاء، مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ثم أعادت نشرها مؤخراً، بأنه ضاجع صديقة والدته (طنط نفيسة كما أسماها) التي كانت تقيم معهم في المنزل نفسه، أكثر من مرة وهو في الثانية عشرة من عمره، وأنها لم تكن تصدق أنه في هذه السن، وأن والدته انتبهت لتلك العلاقة فسعت لإبعاد هذه الصديقة عن البيت، لكن بعدما كانت حواء قد علّمته للمرة الأولى كيف يقضم التفاحة، على حد تعبير يوسف وهبي نفسه. 

وهناك محمد عبد الوهاب الذي تحدث في مذكراته قبل أن يهذبها أبناؤه، بأنه شعر برجولته وهو في السابعة من عمره، حينما كانت جارتهم في حي باب الشعرية تجلسه على حجرها، وأنه أخفي شعوره هذا عن الجميع حتى لا يُتهم بقلة الأدب على حد وصفه. ثم أنه حينما احترف الفن وأصبح مشهوراً، كان يذهب أحياناً إلى "وش البركة"، حي البغاء الشهير في القاهرة حتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، بحثاً عن الإلهام أو الخاطر الموسيقي الهارب. والأمر نفسه ينسحب على الكوميديان إسماعيل ياسين الذي ظلّ ردّد في كثير من حواراته الصحافية، أن مشواره الفني بدأ بسرقة نقود جدته حين امتدت يداه وأخذ ستة جنيهات (تحويشة العمر) كانت تدخرها جدته لجنازتها، وسافر بها من مسقط رأسه في مدينة السويس إلى القاهرة، كي يشق طريقه في عالم الفن. وخذ لذلك مثلاً آخر هو النجم الراحل فاروق الفيشاوي، الذي اعترف وهو في قمة نجوميته، للصحافي صلاح منتصر، في حواره لمجلة أكتوبر، بأنه كان مدمناً على المخدرات واستطاع تجاوز هذه التجربة. الأمر نفسه فعله الراحل نور الشريف الذي كان أكثر مكاشفة وهو يقول للصحافي مصطفى ياسين في كتابه "نجوم لا يعرفها أحد"، أنه أدمن في مطلع السبعينيات، الحبوب المخدرة، أثناء وجوده في العاصمة اللبنانية بيروت، وأن هذا خلق له الكثير من المشاكل في عمله بسبب إهماله تنفيذ ما كان قد اتفق عليه من أفلام، وإنه استطاع بصعوبة التخلص من تلك الحالة.

وتحضرني هنا واقعة أخرى، لا تخلو من دلالة مهمة، كان أبطالها هذه المرة ورثة المخرج الراحل حسن الإمام، حين قرر مهرجان شرم الشيخ السينمائي، قبل سنوات ثلاث، وبمناسبة الاحتفال بمئوية ميلاد المخرج الراحل (مواليد 6 مارس 1919)، إصدار كتاب يجمع فيه مذكرات مخرج الروائع، والتي كان قد نشرها على مدى أربعين أسبوعاً في صفحات مجلة "الشبكة". فإذا بورثة حسن الإمام يرفضون تماماً هذه الفكرة، بعدما كانوا قد رحبوا بها في بادئ الأمر، لا لشيء، إلا لأنهم حينما قرأوا تلك المذكرات اكتشفوا أن حسن الإمام يتحدث بصراحة ملفتة في صلب علاقته بزوجتيه نعمت أم أولاده، والفنانة سناء الباروني إحدى عضوات فرقة "الثلاثي المرح" التي ذاع صيتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكيف حاولت الأولى ذات ليلة ضبطه متلبساً بالزوجة الثانية في أحد الفنادق بعدما علمت بالأمر. بل إن ورثة حسن الإمام طعنوا في صحة المذكرات ذاتها، رغم أنهم وجدوا حلقات منها في الأوراق الخاصة التي كان قد تركها والدهم.

وحينما تغول التلفزيون وزادت سطوته، وحلت الحوارات التلفزيونية المطولة محل المذكرات أو الحوارات المكتوبة، أمكن لممثلة مثل مريم فخر الدين أن تحكي بما عرف عنها من انفلات عن مغامراتها العاطفية، وكيف جاءها رشدي أباظة ذات يوم وهو غائب عن وعيه بفعل الخمر، وحاول التهجم عليها، وأنها هربت من سلالم الخدم وأغلقت عليه باب الشقة من الخارج، وذهبت تستنجد بأمها التي أتت إليه وأخذت تسقيه فناجين القهوة كي يعود رشدي إلى رشده. ولم تكتف مريم فخر الدين بهذا، بل زادت عليه أن زوجيها الممثل محمود ذو الفقار، ثم المطرب فهد بلان، كانا يضربانها ضرباً مبرحاً، وأنها ضحكت على زوجها الأول حتى تستقل بحياتها.

وحتى على مستوى الأدب والفكر، هناك الكثير من حالات الاعتراف والبوح كما في "أيام" طه حسين، و"أوراق عمر" لويس عوض، ومذكرات نجيب محفوظ التي حررها الناقد رجاء النقاش، وكتاب "أيام معه" لكوليت خوري، و"مذكرات طبيبة" لنوال السعداوي... وهؤلاء جميعاً وغيرهم، كانوا متأثرين بدرجة أو بأخرى بكتابات جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، وقد خاضت كل هذه الاعترافات الأدبية وطعنت في صلب العلاقات الأسرية لهؤلاء المفكرين العِظام من دون مواربة أو تزيين. صحيح أن هذا لم ينل إعجاب البعض، خصوصاً ممن طاولتهم شظايا تلك الاعترافات، لكنها في المجمل كانت مثار استحسان الغالبية العظمى، رغم ما أثارته في حينه من جدل أدبي وفكري بل وسياسي أيضاً. وربما كان الاستثناء الأشهر هو ذلك الصِّدام العظيم الذي أحدثه كتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري، إذ لم يتحمله المجتمع المغربي على وجه الخصوص، والمجتمع العربي بوجه عام، فكان مصيره المطاردة والمصادرة. أما عدا ذلك، فقد مرت كتب السِّير الذاتية بما تضمنته من مساحات للبوح والاعتراف، بلا صِدام حقيقي مع المجتمع، اللهم إلا من جانب هؤلاء المتضررين من تلك الاعترافات، على النحو الذى حدث مع الكاتب رمسيس عوض، شقيق لويس عوض، أو مع ابن شقيقة نجيب محفوظ.

أين ذلك كله مما حدث في العقود الأخيرة، حينما تغلغل الفكر السلفي المتحجر، أو استفحل نفوذ ورثة النجوم، وزادت روح التربص في المجتمع، وأصبحت السطوة لوسائل التواصل الاجتماعي، وبتنا نعيش كثيراً من العلل والأمراض المجتمعية، كالحسد والتنمر والتجاوز اللفظي وعدم احترام خصوصية الغير والنيل من الآخر؟ حتى أن الراحلة صباح، في أحد اللقاءات الإعلامية، قالت بأنها "خانت" جميع من تزوجتهم. والملفت أن صباح نفسها، حينما نشرت مذكراتها العام 1959 في مجلة "الكواكب"، اعترفت بأن أخاها أنطوان قتل أمها العام 1947 ظناً منه بأنها كانت على علاقة برجل آخر، وأنها سعت مع زوجها لتهريبه إلى أميركا اللاتينية، وبالتحديد البرازيل حيث عاش وتزوج. يومها، لم يستوقف أحداً هذا الاعتراف، ولا تربص بها المتربصون. وشتان بين ردود أفعال المجتمع العربي تجاه اعترافين أدلت بهما صباح، كان الفارق بينهما نصف قرن من الزمن، تبدلت خلاله النفوس وتقلبت القلوب وتحجرت العقول، وبات كل منا يعتبر نفسه وصياً على غيره.

وكما هو ملاحظ، فإن كل المعترفين المذكورين أعلاه، ينتمون إلى أجيال سابقة، أجيال كانت تقدر أدب الاعتراف وتؤمن بقيمة التطهر وتثق في مجتمع لن يعلق لهم المشانق أو يواجههم بالجنازير. إن ذاكرتي لا تسعفني الآن في تذكر أحد فناني الجيل الحالي، وقد تطهر باعتراف صريح واضح وشفاف. فنان امتلك الشجاعة والجرأة ليتحدث عن نقيصة فيه أو سلوك مخجل قام به في يوم من الأيام. فإن كان في ذاكرة أحدكم أي اسم من أبناء الجيل الحالي، فليخبرني وله جزيل الشكر، لأنه في هذه الحالة لن يكون قد امتلك فقط شجاعة الاعتراف فحسب، وإنما امتلك كذلك شجاعة مواجهة مجتمع لا يرحب بثقافة المكاشفة والشفافية. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها