انتهت اعترافات الريحاني عن هذه الواقعة، غير أن المدهش أن اعترافاته عن تلك الواقعة أو واقعة فصله من العمل في شركة السكر على أثر اكتشاف علاقته بزوجة مدير الشركة، هي التي جعلت أحد النقاد المعروفين يشكك قبل سنوات في صحة مذكرات "كشكش بيه"، مؤكداً أنه من المستحيل أن يعترف الريحاني على نفسه بمثل تلك الاعترافات، من دون أن ينتبه هذا الناقد إلى أنه يحكم بمقاييس عصرنا هذا على زمن 1936 حينما كتب الريحاني مذكراته في أجواء شديدة الاختلاف تقبل البوح وتحترم خصوصية الآخر.
وإذا كان هذا موقف أحد النقاد من مذكرات الريحاني، فما باله بالراقصة الأشهر بديعة مصابني التي اعترفت في مذكراتها التي نشرتها مجلة "الاثنين" العام 1939، ثم في مذكراتها الأخرى التي أملتها إلى الكاتبة نازك باسيلا ونُشرت في منتصف الستينيات، فتقول مصابني بأنها تعرضت لواقعة اغتصاب قاسية وهي في السابعة من عمرها، فضلاً عن صداقاتها المتعددة بكثير من الرجال وهي في عصمة زوجها نجيب الريحاني؟
على أية حال فإن الريحاني ومصابني لم يكونا الوحيدين اللذين امتلكا في الأيام الخوالي شجاعة الاعتراف، إذ كان بإمكان المسرحي يوسف وهبي الاعتراف هو الآخر في مذكراته "عشت ألف عام" التي نشرتها دار المعارف في ثلاثة أجزاء، مطلع السبعينيات من القرن الماضي، ثم أعادت نشرها مؤخراً، بأنه ضاجع صديقة والدته (طنط نفيسة كما أسماها) التي كانت تقيم معهم في المنزل نفسه، أكثر من مرة وهو في الثانية عشرة من عمره، وأنها لم تكن تصدق أنه في هذه السن، وأن والدته انتبهت لتلك العلاقة فسعت لإبعاد هذه الصديقة عن البيت، لكن بعدما كانت حواء قد علّمته للمرة الأولى كيف يقضم التفاحة، على حد تعبير يوسف وهبي نفسه.
وهناك محمد عبد الوهاب الذي تحدث في مذكراته قبل أن يهذبها أبناؤه، بأنه شعر برجولته وهو في السابعة من عمره، حينما كانت جارتهم في حي باب الشعرية تجلسه على حجرها، وأنه أخفي شعوره هذا عن الجميع حتى لا يُتهم بقلة الأدب على حد وصفه. ثم أنه حينما احترف الفن وأصبح مشهوراً، كان يذهب أحياناً إلى "وش البركة"، حي البغاء الشهير في القاهرة حتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، بحثاً عن الإلهام أو الخاطر الموسيقي الهارب. والأمر نفسه ينسحب على الكوميديان إسماعيل ياسين الذي ظلّ ردّد في كثير من حواراته الصحافية، أن مشواره الفني بدأ بسرقة نقود جدته حين امتدت يداه وأخذ ستة جنيهات (تحويشة العمر) كانت تدخرها جدته لجنازتها، وسافر بها من مسقط رأسه في مدينة السويس إلى القاهرة، كي يشق طريقه في عالم الفن. وخذ لذلك مثلاً آخر هو النجم الراحل فاروق الفيشاوي، الذي اعترف وهو في قمة نجوميته، للصحافي صلاح منتصر، في حواره لمجلة أكتوبر، بأنه كان مدمناً على المخدرات واستطاع تجاوز هذه التجربة. الأمر نفسه فعله الراحل نور الشريف الذي كان أكثر مكاشفة وهو يقول للصحافي مصطفى ياسين في كتابه "نجوم لا يعرفها أحد"، أنه أدمن في مطلع السبعينيات، الحبوب المخدرة، أثناء وجوده في العاصمة اللبنانية بيروت، وأن هذا خلق له الكثير من المشاكل في عمله بسبب إهماله تنفيذ ما كان قد اتفق عليه من أفلام، وإنه استطاع بصعوبة التخلص من تلك الحالة.
وتحضرني هنا واقعة أخرى، لا تخلو من دلالة مهمة، كان أبطالها هذه المرة ورثة المخرج الراحل حسن الإمام، حين قرر مهرجان شرم الشيخ السينمائي، قبل سنوات ثلاث، وبمناسبة الاحتفال بمئوية ميلاد المخرج الراحل (مواليد 6 مارس 1919)، إصدار كتاب يجمع فيه مذكرات مخرج الروائع، والتي كان قد نشرها على مدى أربعين أسبوعاً في صفحات مجلة "الشبكة". فإذا بورثة حسن الإمام يرفضون تماماً هذه الفكرة، بعدما كانوا قد رحبوا بها في بادئ الأمر، لا لشيء، إلا لأنهم حينما قرأوا تلك المذكرات اكتشفوا أن حسن الإمام يتحدث بصراحة ملفتة في صلب علاقته بزوجتيه نعمت أم أولاده، والفنانة سناء الباروني إحدى عضوات فرقة "الثلاثي المرح" التي ذاع صيتها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وكيف حاولت الأولى ذات ليلة ضبطه متلبساً بالزوجة الثانية في أحد الفنادق بعدما علمت بالأمر. بل إن ورثة حسن الإمام طعنوا في صحة المذكرات ذاتها، رغم أنهم وجدوا حلقات منها في الأوراق الخاصة التي كان قد تركها والدهم.
وحينما تغول التلفزيون وزادت سطوته، وحلت الحوارات التلفزيونية المطولة محل المذكرات أو الحوارات المكتوبة، أمكن لممثلة مثل مريم فخر الدين أن تحكي بما عرف عنها من انفلات عن مغامراتها العاطفية، وكيف جاءها رشدي أباظة ذات يوم وهو غائب عن وعيه بفعل الخمر، وحاول التهجم عليها، وأنها هربت من سلالم الخدم وأغلقت عليه باب الشقة من الخارج، وذهبت تستنجد بأمها التي أتت إليه وأخذت تسقيه فناجين القهوة كي يعود رشدي إلى رشده. ولم تكتف مريم فخر الدين بهذا، بل زادت عليه أن زوجيها الممثل محمود ذو الفقار، ثم المطرب فهد بلان، كانا يضربانها ضرباً مبرحاً، وأنها ضحكت على زوجها الأول حتى تستقل بحياتها.
وحتى على مستوى الأدب والفكر، هناك الكثير من حالات الاعتراف والبوح كما في "أيام" طه حسين، و"أوراق عمر" لويس عوض، ومذكرات نجيب محفوظ التي حررها الناقد رجاء النقاش، وكتاب "أيام معه" لكوليت خوري، و"مذكرات طبيبة" لنوال السعداوي... وهؤلاء جميعاً وغيرهم، كانوا متأثرين بدرجة أو بأخرى بكتابات جان جاك روسو في القرن الثامن عشر، وقد خاضت كل هذه الاعترافات الأدبية وطعنت في صلب العلاقات الأسرية لهؤلاء المفكرين العِظام من دون مواربة أو تزيين. صحيح أن هذا لم ينل إعجاب البعض، خصوصاً ممن طاولتهم شظايا تلك الاعترافات، لكنها في المجمل كانت مثار استحسان الغالبية العظمى، رغم ما أثارته في حينه من جدل أدبي وفكري بل وسياسي أيضاً. وربما كان الاستثناء الأشهر هو ذلك الصِّدام العظيم الذي أحدثه كتاب "الخبز الحافي" لمحمد شكري، إذ لم يتحمله المجتمع المغربي على وجه الخصوص، والمجتمع العربي بوجه عام، فكان مصيره المطاردة والمصادرة. أما عدا ذلك، فقد مرت كتب السِّير الذاتية بما تضمنته من مساحات للبوح والاعتراف، بلا صِدام حقيقي مع المجتمع، اللهم إلا من جانب هؤلاء المتضررين من تلك الاعترافات، على النحو الذى حدث مع الكاتب رمسيس عوض، شقيق لويس عوض، أو مع ابن شقيقة نجيب محفوظ.
أين ذلك كله مما حدث في العقود الأخيرة، حينما تغلغل الفكر السلفي المتحجر، أو استفحل نفوذ ورثة النجوم، وزادت روح التربص في المجتمع، وأصبحت السطوة لوسائل التواصل الاجتماعي، وبتنا نعيش كثيراً من العلل والأمراض المجتمعية، كالحسد والتنمر والتجاوز اللفظي وعدم احترام خصوصية الغير والنيل من الآخر؟ حتى أن الراحلة صباح، في أحد اللقاءات الإعلامية، قالت بأنها "خانت" جميع من تزوجتهم. والملفت أن صباح نفسها، حينما نشرت مذكراتها العام 1959 في مجلة "الكواكب"، اعترفت بأن أخاها أنطوان قتل أمها العام 1947 ظناً منه بأنها كانت على علاقة برجل آخر، وأنها سعت مع زوجها لتهريبه إلى أميركا اللاتينية، وبالتحديد البرازيل حيث عاش وتزوج. يومها، لم يستوقف أحداً هذا الاعتراف، ولا تربص بها المتربصون. وشتان بين ردود أفعال المجتمع العربي تجاه اعترافين أدلت بهما صباح، كان الفارق بينهما نصف قرن من الزمن، تبدلت خلاله النفوس وتقلبت القلوب وتحجرت العقول، وبات كل منا يعتبر نفسه وصياً على غيره.
وكما هو ملاحظ، فإن كل المعترفين المذكورين أعلاه، ينتمون إلى أجيال سابقة، أجيال كانت تقدر أدب الاعتراف وتؤمن بقيمة التطهر وتثق في مجتمع لن يعلق لهم المشانق أو يواجههم بالجنازير. إن ذاكرتي لا تسعفني الآن في تذكر أحد فناني الجيل الحالي، وقد تطهر باعتراف صريح واضح وشفاف. فنان امتلك الشجاعة والجرأة ليتحدث عن نقيصة فيه أو سلوك مخجل قام به في يوم من الأيام. فإن كان في ذاكرة أحدكم أي اسم من أبناء الجيل الحالي، فليخبرني وله جزيل الشكر، لأنه في هذه الحالة لن يكون قد امتلك فقط شجاعة الاعتراف فحسب، وإنما امتلك كذلك شجاعة مواجهة مجتمع لا يرحب بثقافة المكاشفة والشفافية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها