الأحد 2022/09/18

آخر تحديث: 08:25 (بيروت)

في البحث عن ميلاد منير مراد

الأحد 2022/09/18
increase حجم الخط decrease
     فجأة تذكّر الناس أن هناك موسيقارا وممثلا قد مر على الحياة الفنية في مصر أسمه منير مراد، وكأن الرجل كان بحاجة إلى حدث قوي كي يتذكره الكثيرون على الرغم من إسهاماته الكبيرة كملحن وراقص وممثل ومساعد مخرج، ارتبط اسمه بعشرات الأسماء اللامعة في تاريخ الفن العربي من شقيقته ليلى مراد مرورا بشادية وعبد الحليم حافظ وصباح، وصولاً إلى أخر معاصريه هاني شاكر وعفاف راضي ومحمد ثروت، فجأة تصدر منير مراد محركات البحث على أثر قرار إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر الأبيض المتوسط، تأجيل الاحتفال بمئوية ميلاد الفنان الراحل في الدورة 38 للمهرجان التي تبدأ في 5 تشرين أول/ أكتوبر القادم، هذا التكريم الذي سبق وأعلنت عنه إدارة المهرجان قبل أشهر، كاشفة عن إصدار كتاب يخص المحتفى به، يعرض لمسيرته وإسهاماته في كافة المجالات الفنية التي أبدع فيها، ومنذ الإعلان عن قرار الإرجاء مساء الثلاثاء الماضي وأصحاب نظرية المؤامرة يتصدرون المشهد على المنصات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي، منهم من يتهم إدارة مهرجان الإسكندرية بالتراجع عن التكريم لأسباب سياسية على خلفية جذور منير مراد اليهودية، أو عن ضغوط مورست على أصحاب القرار حتى يتم ما اعتبروه إلغاءً وليس إرجاءً، ومنهم من أحيا شائعات قديمة التصقت زورا بالفنان الراحل بأنه ارتد عن الإسلام وعاد إلى يهوديته ومات وحيداً في باريس، هذه الخيالات لا أساس لها من الصحة، فالاحتفال بمئوية ميلاد منير مراد قد تم تأجيله بعد أن تأكد عدم وجود تاريخ ميلاد متفق عليه للموسيقار الراحل، وحتى يكون هناك متسع من الوقت للاطمئنان إلى تاريخ محدد لميلاده.


                                    مع شقيقته ليلى مراد
  والحال أنه منذ أشهر أعلن الناقد الأمير أباظة، رئيس مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط الاحتفال بمئوية ميلاد منير مراد استنادا إلى التاريخ الشائع لميلاده ( 13 كانون الثاني/ يناير 1922 ) خاصة بعد أن احتفلت دار الأوبرا المصرية بمئويته وفق هذا التاريخ، وتم تكليف كاتب هذا المقال بوضع الكتاب الخاص بتكريمه وإدارة الندوة الاحتفالية الخاصة بذلك، سعيت للحصول على شهادة ميلاده أو هويته الشخصية، اتصلت أولا بأشرف أباظة نجل ليلى مراد، لكن الرجل كان ولا يزال يمر بظروف إنسانية وصحية غير مواتية منذ رحيل أخيه الممثل زكي فطين عبد الوهاب، الابن الآخر لليلى مراد، ولم يتحمس – على غير العادة – لأي تعاون في هذا الصدد، وحينما عدتُ إلى الأحاديث الإذاعية الخاصة بمنير مراد، وجدته يراوغ دائما فى ذكر سنة ميلاده، لدرجة أنّ إذاعياً رائداً هو طاهر أبو زيد سأله سؤالا واضحا عن عمره، فأجابه منير مازحاً أنه من مواليد عام 42 والذكى يفهم على حد قوله، فلما أبدى الإذاعي دهشته استمر منير في مزاحه قائلاً: يبقى نقلبها؟ وهنا قال له أبو زيد إذن أنت من مواليد 1924 فضحك منير ولم يجب، وفي حوارات إذاعية أخرى، ذكر منير أنه أسمع عبد الوهاب عزفه على العود وهو في السادسة من عمره حينما جاء عبد الوهاب إلى بيتهم للاتفاق مع شقيقته ليلى مراد على بطولة فيلم "وردة الحب" فهل كان يقصد فيلم "الوردة البيضاء" المعروض سنة 1933 حين كانت ليلى مرشحة لبطولته، ومن ثم تكون سنة ميلاده هي 1927 أم كان يقصد فيلم "يحيا الحب"، الذي قامت ليلى ببطولته بالفعل سنة 1938 ما يعني أنه من مواليد عام 1932؟ وحينما عدت إلى المصادر الورقية وجدتها تذكر سنوات مختلفة لميلاده مثل 1920 و1922 و1928، ولجأت إلى نقابة المهن الموسيقية التي كان منير مراد عضوا بها، فلم أجد له ملفاً لا ورقياً ولا الكترونياً، وفي جمعية المؤلفين والملحنين التي كان أيضا عضواً بها، وجدت عنه بيانات مبتورة حيث لا يذكر الرجل تاريخاً للميلاد مكتفياً بذكر عمره 35 سنة وقت الانضمام للجمعية سنة 1959 وفي اجتهاد آخر سنة 1963، فهل هذا معناه أنه مولود العام 1924 أو العام 1928؟ 

     ثم لجأت إلى مصلحة الأدلة الجنائية في مصر لاستخراج نسخة من شهادة ميلاده، فطلبوا رقم هويته الشخصية! ولما لجأت للغرض نفسه إلى دار المحفوظات القومية قالوا لا بد أن يكون المتقدّم بطلب استخراج وثيقة الميلاد قريباً لمنير مراد من الدرجة الأولى، وهنا كان لا بد من البحث عن "موريس"، حفيد منير مراد المقيم في اميركا والتواصل معه لعل عنده الخبر اليقين، وهو ما وفرته لي الكاتبة لمياء مختار، لكن موريس بعد أن أبدى سعادته بتكريم جدّه أعرب عن أسفه لأنه لا يملك تاريخاً موثقاً لذلك واعداً ببذل مساعيه لتوثيق تاريخ ميلاد منير مراد، الأمر نفسه أكدته زينب جمال شطا ابنة الفنانة سميحة مراد الشقيقة الأخرى لمنير.

     وإزاء ذلك كله لم يكن من المنطقي الاحتفال بمئوية ميلاد منير مراد وليس هناك تاريخ متفق عليه لميلاده، ومن هنا كان القرار الصعب بإرجاء الاحتفال بمئويته...

     فمن هو منير مراد الذي أصبح فجأة حديث الناس؟ 
 
    في الفضاء الذى احتضن موهبة ليلى مراد، نشأ موريس زكي مراد شقيقها الأصغر ابن المطرب زكي مراد والسيدة جميلة إبراهيم روشو، وشقيق كل من ملك وسميحة ومراد وإبراهيم إلى جانب ليلى بطبيعة الحال، كان ترتيبه الخامس بين أشقائه الستة، لكن الفارق بين ليلى وموريس أنها كانت تعرف منذ الصغر ماذا تريد أو ماذا تحب أن تكون. كانت تمارس الغناء وتستمتع به وتسعى منذ أن قررت احترافه كي تكون صاحبة حضور لافت ونجاح غير تقليدي، أما موريس والذي أصبح بعد ذلك منير مراد، فلم يكن الأمر هكذا بالنسبة له.
     وحينما ولد موريس في مطلع العشرينيات – على ما يبدو - كان والده قد حقق نجاحاً محسوساً في عالم الطرب ليس فقط بفضل تمتعه بجمال الصوت وإنما لأنه كذلك كان ملازماً لفنان الشعب سيد درويش وأحد أنبه تلامذته، ولم تعقه "يهوديته" في مجتمع منفتح يعلي من قيمة المواطنة ويؤمن بالتعددية عن الانتشار بين الأوساط الفنية والشعبية على السواء، ويكفي للتدليل على نجاحه أنه سجل في بواكير حياته أسطوانة لأغنية "أراك عصي الدمع" من أشعار أبي فراس الحمداني، وألحان عبده الحامولي قبل أن يلحنها لاحقا كل من الشيخ أبو العلا محمد ورياض السنباطي، وبعد أن أصيب الشيخ سلامة حجازي بالشلل وتوقف عن العمل عهد إلى زكي مراد بالقيام بأدواره على المسرح تمثيلاً وغناء، وبلغ من اقتناع سيد درويش به أن أعطاه دور "سيف الدين في رواية العشرة الطيبة من إنتاج نجيب الريحاني الذي تعرف عليه في تلك الأثناء، وظل الرجلان صديقين حتى وفاة زكي مراد سنة 1948 قبل وفاة الريحاني بعام واحد، وبعد رحيل سيد درويش عهدت منيرة المهدية إلى محمد عبد الوهاب صديق زكي مراد باستكمال تلحين أوبريت "كليوباترا ومارك أنطونيو"، أنجز عبد الوهاب المهمة، ولكن دبّ خلاف بينه وبين سلطانة الطرب بعد أسابيع من عرض الأوبريت على المسرح قرر على أثره ترك العرض، ولم يأتمن على الدور والألحان إلا صديقه المطرب زكي مراد الذي غنى في هذا الأوبريت من ألحان سيد درويش ومحمد عبد الوهاب مجتمعين في عمل واحد.

     في هذه الأجواء نشأ موريس زكي مراد في إحدى الشقق وسط القاهرة، كان يقصدها كبار الموسيقيين والشعراء، وتفتحت أذناه على غناء والده، وكثيرا ما كان يمسك بآلة العود الخاصة بوالده ويحاول اكتشاف أسرارها من دون أن يدري أنه يخط أول سطور مستقبله الفني.   

      فقد تقلب الشاب المفعم بالحيوية على العديد من المهن المختلفة قبل أن يختار الفن طريقاً له، وحتى بعد أن اختار الفن لم يكن قد حدد في أى مجال يحط الرحال، إذ عمل مساعد مخرج مع توغو مزراحي وكمال سليم وأنور وجدي وآخرين، ثم في مجال الإنتاج في الشركة التي أسسها أنور وجدي أيام كان متزوجا بشقيقته ليلى، ثم تحول إلى العمل راقصاً ومصمماً للاستعراضات، قبل أن يتجه للتلحين مع مطلع الخمسينيات بداية من فيلم "ياسمين" من إخراج أنور وجدي، ثم اتجه إلى التمثيل منذ عام 1953 حينما قام ببطولة فيلم "أنا وحبيبي" أمام شادية وإخراج كامل التلمساني، وقدم بعده فيلم "نهارك سعيد" العام التالي مباشرة من إخراج فطين عبد الوهاب، وأتبعه بفيلمه الأخير "موعد مع إبليس" العام 1955 من إخراج كامل التلمساني.

     ورغم حضوره الطيب وخفة ظله على الشاشة فقد قرر منير مراد الاكتفاء بتجاربه الثلاث فى مجال التمثيل والاتجاه كليا إلى عالم الموسيقى والتلحين الذى حقق فيه اسمه الكبير باعتباره واحدا من أنجح ملحني زمانه وصاحب الأسلوب الخاص الذي كان ربما سابقا لعصره، لكن تبقى لتجربته في التمثيل خصوصيتها وتميزها، فضلا عن نجاحه في وضع الكثير من ألحان الأغنيات السينمائية السريعة التي خلصت الفيلم المصري من رتابة الغناء الكلاسيكي المعتاد كما عند أم كلثوم وعبد الوهاب.
                                 مع عبد الحليم حافظ
وعن إسلام منير مراد هناك معلومتان شائعتان أي منهما أسوأ من الأخرى، تقول الأولى أنه أسلم من أجل الزواج بالفنانة سهير البابلي، والثانية أنه ارتد عن الإسلام ومات على يهوديته في العاصمة الفرنسية باريس فى 17 تشرين أول أكتوبر 1981، وكلتا المعلومتين خاطئتان بل ومجحفتان للرجل الذي شهدت حياته الكثير من المغالطات، فقد أعلن منير مراد إسلامه في حدود سنة 1949 بعد أعوام قليلة من إسلام شقيقتيه سميحة وليلى، وهناك أفلام في هذه الفترة يظهر عليها تارة اسم موريس وأخرى اسم منير ما يعني أنه تحول إلى الإسلام فى هذا التوقيت وقبل نحو عشر سنوات من ظهور سهير البابلي على الساحة الفنية واقترانه بها حيث تزوجها للمرة الأولى عام 1958 عند بداية اشتغالها بالفن، واستمر زواجهما تسع سنوات قبل أن يقع الطلاق الأول بينهما ثم تكرر الأمر مرتين بعد ذلك حتى وقع الطلاق الثالث سنة 1972، وكان قبلها قد تزوج من امرأة إيطالية وأنجب منها ابنه الوحيد (زكي) بينما كانت زوجته الأخيرة هي السيدة ميرفت التي عاشت معه حتى وفاته، أما المعلومة الأخرى التي ترددها بعض المواقع الإلكترونية من أنه ارتد عن الإسلام ومات على يهوديته ودفن في باريس فهي غير صحيحة بالمرة إذ توفى الرجل مسلما وفي بيته بالقاهرة، في أجواء سياسية وأمنية محتقنة بعد اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 تشرين أول/ أكتوبر من العام نفسه، بل إن الشيء الذي كان لا يعرفه أحد أن منير مراد قد دفن في المقبرة الخاصة بعبد الحليم حافظ الذي كان قد سبقه في الرحيل بأربع سنوات، فقد داهمه الموت فجأة قبل أن تنتهي شقيقته ليلى مراد من بناء مقبرة الأسرة في البساتين أيضا، فقامت باستئذان ورثة العندليب كي يجاور جثمان منير مراد جثمان صديقه في رقدته الأخيرة.
  
 
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها