الخميس 2022/09/15

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

بسمة عبد العزيز: همي الأكبر علاقة السُّلطة بالبشر

الخميس 2022/09/15
بسمة عبد العزيز: همي الأكبر علاقة السُّلطة بالبشر
"دافعي الأصيل للكتابة هو الكتابة نفسها"
increase حجم الخط decrease
بسمة عبد العزيز طبيبة مصرية، تخصصت في مجال الطب النفسي، وقدمت عددا من الدراسات في مجال علم النفس الاجتماعي والسياسي. وهي أيضاً كاتبة لها مجموعتان قصصيتان وثلاث روايات، وتكتب لدوريات عربية وأجنبية، كما أنها فنانة تشكيلية أقامت العديد من معارض النحت والتصوير والفوتوغرافيا، وشاركت في معارض جماعية متنوعة. في العام 2016 اختارتها مجلة Forgein Policy ضمن لائحتها السنوية "مئة من قادة الفكر في العالم"، وفي 2017 اختارتها Words Without Borders في لائحة ضمت 33 كاتبة على مستوى العالم ممن يجرؤن على التغيير في مجتمعاتهن، واختارها معهد gottlieb duttweiler السويسري المتخصص في دراسات تشكيل الرأي العام في لائحة الأكثر تأثيراً في الرأي العام العربي. حظيت أعمالها بشهرة واسعة خارج النطاق المحلي وفازت روايتها "الطابور" بجائزة English pen كما رشحت في اللائحة الطويلة لجائزة best translated book وهي واحدة من أهم ثلاث جوائز للأعمال الأدبية المترجمة في الولايات المتحدة، ووصلت بعد ذلك بأشهر قليلة إلى اللائحة القصيرة لجائزة ta first translation prize. وفي مقابل هذا كله نالت محلياً جائزة ساويرس، وجائزة الهيئة العامة لقصور الثقافة، وجائزة أحمد بهاء الدين عن كتابها "إغراء السلطة المطلقة".

سيرة تلفت فورا إلى أن التقدير الخارجي أكبر بكثير من الداخلي، وبأن صاحبته ربما لا تحظى بالانتباه الذي تستحقه، لكنها رغم ذلك لا تنشغل كثيرًا بتقييم ما تلقاه أعمالها من احتفاء أو تقدير، وتقول بوضوح: "فهمي الأول هو تقديم ما يرضيني وقطع شوط أطول وأعمق مع كل عمل جديد. لا شك أن النقد العلمي مهم، ولا شك أيضًا أنه مصدر من مصادر المراجعة واتخاذ خطوات إيجابية نحو التطور للأفضل، إلا أن النقد والاحتفاء والتقدير كلها عوامل؛ لا ينبغي أبدًا أن تعطل المسير أو تعرقل التقدم. بالنسبة للجوائز فقد حصل اثنان من أعمالي الأدبية على جائزتين مهمتين في مصر، وحصلت رواية "الطابور" على جائزة خارج مصر، وحصد أحد كتبي في مجال علم الاجتماع السياسي أخرى، والحقيقة أنني مقلة في التقدم للجوائز ولا أفضل المنافسة على الجائزة نفسها أكثر من مرة، ربما كان انشغالي بالكتابة أعظم، وشغفي بكل عمل جديد أكبر من اهتمامي بالفوز بجائزة، لا أعد هذا أمرًا جيدًا لكنه أيضًا ليس بسيء، فالتركيز في العمل والإنتاج يحتل المرتبة الأولى على قائمة أولوياتي، ويأتي بعد ذلك أي شيء آخر".

مؤخرا أصدرت بسمة أحدث روايتها "أعوام التوتة"، وفيها تحكي عن "ناجحة"، الخادمة البسيطة الساذجة التي تفر من بيت مخدومتها المتسلطة، لتحقق حلمها بالزواج واكتشاف الحياة من حولها. ومن جلسة مطولة في العمارة التي عملت فيها تُرسم ملامح جديدة لشخصية ناجحة وحتى للسكان أنفسهم. حولها وحول الكتابة والطب النفسي دار هذا الحوار...

- يستدل القارئ على الزمن استناداً لإشارات إلى أحداث عامة كمقتل الأميرة ديانا، وحادثة الأقصر، وقضية مونيكا لوينسكي، وفيلم تيتانك، وكلها أحداث جرت في التسعينيات 1997-1998 تقريباً. فهل كانت "أعوام التوتة" مكتوبة بالفعل ومؤجلة؟ أم أن هناك أسباباً أخرى لاختيار زمن الكتابة والنشر بعد ذلك؟

* في الحقيقة بدأت الكتابة منذ سنوات قليلة، وتركت الرواية قبل الانتهاء من الفصل الأول لأنجز نصوصًا وأعمالًا متنوعة؛ وإن اقتصرت على كتابات علمية لدوريات محكمة في بعض الدول العربية وقصص قصيرة ترجمتها دوريات أجنبية بلغات مختلفة. عدت إلى الرواية مؤخرًا وأكملتها خلال بضعة أشهر، أما عن الزمن فقد اخترته في التسعينيات ليبتعد بالأحداث عن المتغيرات الكبرى التي شهدها المجتمع في السنوات الأخيرة، والتي ألقت بثقلها على مناحي الحياة كافة، فأفرزت واقعًا فجًا وبالغ الاختلاف، كما دهست كل ما هو إنساني بأحذية ثقيلة. كانت التسعينيات أقل قسوة وأفسح صدرًا، كذلك فإن علاماتها بارزة وبصماتها لم تزل حية في الذاكرة. الفكرة مستقاة من دقائق الواقع التي نتوه عنها في غمرة انشغالنا بأنفسنا وبمن يشبهوننا، في حين ثمة آخرون نراهم ولا نراهم، نخاطبهم ولا ندري بهم، ليس لأنهم تافهون أو لأن قصصهم لا تستحق انتباهنا واهتمامنا، بل لأننا نفضل الأسهل والأقرب لذواتنا، ولا نميل لبذل الجهد في رؤية المختلف.

- تدور غالبية كتاباتك حول نقد السلطة، سياسية كانت أم دينية، وقررتِ الاشتباك مع الأحداث منذ الثورة في 2011 وما تلاها، سواء بالأبحاث أو بالكتابة الإبداعية رغم دعوات الانتظار التي كانت الأقوى وقتها وربما لاتزال. العمل الأخير يشتبك مع سلطة مغايرة، سلطتنا على بعضنا البعض إن صح القول.. لماذا الإصرار على هذا الاتجاه؟

* هذا الاتجاه كما تفضلت ليس بعيدًا من المسار الذي سلكت في معظم كتاباتي، ربما اتخذ صورة مختلفة، وأبرز وجهًا جديدًا من أوجه السيطرة والتحكم؛ لكنه يظل في إطار الاشتباك مع السلطة التي تقود الناس وتتلاعب بحيواتهم وتوهمهم بأنها تعرف الأصلح، وتحمل الأفضل، وأن في طاعتها والامتثال لحكمتها مفتاح النجاة. ليس بالضرورة أن تتحقق السلطة في منصب سياسي؛ إنما قد تتمثل في شخص قريب يفرض وصايته على من هم أدنى منه، ويفترض أن عليهم إقرار رغباته واتباع منهجه؛ وإلا صاروا في مرمى النقد والعقاب. السلطة في "أعوام التوتة" هي الست أليفة، وفي "الطابور" هي البوابة، أما في "هنا بدن" فيجسدها الجبارون كرمز للنظام السياسي المهيمن. تتعدد الصور والأوجه ويبقى الفعل القاهر قاسمًا مشتركًا بينها.

- وفق هذه الرؤية كيف تنظرين للرواية كحامل للتاريخ؟

* الرواية لا تخلو في العادة من ملمح تاريخي، لا أعني الرواية التي توصف بكونها تاريخية والتي تعنى بسرد أحداث حقيقية من زاوية أو أكثر، بل أقصد أن النص الأدبي يحمل بطبيعته إشارة أو حكاية أو علامة ترتبط بزمن ما، وتشير إليه ولو عن غير عمد. لو حمل النص على سبيل المثال عبارة عن "التوك توك"، فسيعني هذا فورًا أن وقائعه جرت ما بعد حلول القرن الحادي والعشرين، ولو ذكرت أن البطل مثلاً يشاهد في المسرح عملاً بعينه لكان سلوكه شاهدًا على زمن العرض في الحقيقة، على هذا تحمل الرواية داخلها إيماءات صغيرة تقود القارئ، إلا حين يتعمد الكاتب التجهيل التام وهو أمر صعب، فحتى رواية "الطابور" التي ابتعدت بها عن أي إشارة زمانية أو مكانية، استقبلها القراء سواء في مصر أو خارجها بتحديد البُعدين بدقة، وتعاملوا معها على المستويين؛ المحلي الضيق، والعابر للحدود؛ وهو الأوسع والأكثر تأثيرًا.

- كيف تختارين موضوعاتك بشكل عام؟

* الموضوعات تأتي من صُلب المُعاش، والهمُّ الأكبر الذي يفرض نفسه على كتاباتي سواء كانت أدبًا أو أطروحات علمية، هو السُّلطة وعلاقتها بالبشر، أو فلنقل هي ثنائية الحاكم والمحكوم، المسيطر والخاضع، بمعناها الشامل؛ في البيت أو المدرسة أو الشركة أو الشارع أو السجن، ما بين أفراد العائلة الواحدة بعضهم البعض، وما بين الشعب من ناحية وأصحاب المناصب القيادية من ناحية أخرى، بين رجل الدين في جانب المقدس والمؤمنين بموقعه وصلاحياته في الجانب المقابل. هي مناح متنوعة تلقي بظلالها على المشهد العام وتوجه المسار وتعرقله في أوقات كثيرة، لذا أجدني دومًا ومن دون توفر القصدية الصريحة، أتجه في كتاباتي نحو المعضلة التي أراها، فأطرقها بشتى الوسائل وأسعى لتفكيكها وتعريتها وكشفها.

- ينضم كل من ناجحة ووفاء وكامل، أبطال العمل الجديد، إلى يحيى وأماني وناجي، أبطال "الطابور"، ومراد وعايدة بطلي "هنا بدن". ورغم اختلافاتهم، يتشابهون جميعاً في أنهم أبطال مثاليون يناضلون ضد سلطة غاشمة تقهرهم. لكن نبلهم قد يُشتت أحياناً، لأننا نصبح أحياناً أمام فكرة، لا بشر حقيقيين يمكن التماهي مع حكاياتهم. هل تقصدين هذا؟

* في الحقيقة لكل واحد وواحدة من هؤلاء -رغم مثاليته المفترضة- نقاط ضعف تتجلى مع التعمق في شخصيته وتفصيلات معيشته وهناته اليومية ومعاناته، بل ومحاولاته للتواؤم. أماني، على سبيل المثال، فقدَت تماسكها ومالت ناحية السلطة في لحظة عصيبة وأرادت حل صراعها الناتج عن العجز بتصديق الأكاذيب، وعايدة ظلّت تتقلّب بين الشك في ما تراه بعينيها، وما تسمعه وتطّلع عليه في وسائل الإعلام تحت ضغط البروباغندا المصنوعة بأيدي السلطة وأدواتها. وفاء هزمت نفسها وتقاعست عن خوض معركتها الذاتية وقبعت في حال من الاستسلام، وعم كامل تلقى صفعة أودت بقدرته على التكيف مع الحياة وتهاوى معتل النفس مع تقدمه في العمر. هؤلاء ليسوا أبطالًا شديدي المثالية، ولا هم يحققون انتصارات يصعب التجاوب معها؛ بل إن ضعفهم الظاهر في بعض المواقف قد يدفع للغضب وقد يصبح مستفزًا، خاصة إذا نتج عنه إيذاء لآخر لم يزل يناطح ويقاوم.

يحيى في رواية الطابور مثلاً، كان بحاجة ماسة لمساندة أماني، لكنها خذلته؛ لا عن عمد بل لأنها أصيبت بهزة نفسية عميقة جراء التعذيب الذي تعرضت له، وفاء كانت لتسلك طريقًا أخرى لو شجعها عم كامل ودافع عن حقها، مراد ذاته ظل يقاوم أصواتًا غاضبة وهو يدرك أنها على خطأ وأنها تنتهج مسارًا خطرًا وتخلط الأوراق، مع هذا لم يحسم موقفه بترك البراح، بل استمر رغم خلافه الذي تعمق تدريجيًا مع القادة وأصبح هوة واسعة. هؤلاء كلهم تداخلت الظروف لتبرز صراعاتهم الشخصية مع أنفسهم ومع المحيطين بهم، جمعتهم إنسانيتهم كعامل مشترك، وجعلت بعض القراء يتعاطفون مع الخصم كما تعاطفوا مع الحليف، وأعتقد أن هذا التعاطف هو المطلوب وهو عسير المنال أيضًا، فرؤية المعضلة من جوانب متعددة تجعل المرء في حيرة؛ لكنها تكسبه كذلك نظرة جديدة في التعامل مع الواقع، وتجعله أكثر ترويًا عند الحكم على الآخرين.

- من بين جميع الأبطال استطاعت بطلة "أعوام التوتة" وحدها، رغم سذاجتها أو قلة عقلها، أن تفرض كلمتها على مخدومتها، بما يعنى أنها ربما البطلة الوحيدة التي نجحت فعلاً في الانتصار على قاهرها..

* ناجحة حققت الانتصار الواضح الكامل، لكن وفاء التي قررت في رواية "أعوام التوتة" أن تلقي بنفسها إلى معترك الحياة وأن تخطو نحو تحقيق ذاتها وخوض تجربة عاطفية جديدة، انتصرت هي الأخرى على تقاعسها وخضوعها لضوابط المجتمع. طارق؛ الطبيب الذي حسم أمره وقرر في النهاية أن يجري الجراحة ليحيى في رواية "الطابور"، حقق انتصاره الخاص هو الآخر، رغم العواقب التي يحتمل أن تحطم مستقبله، ورغم تحذيرات السلطة الصارمة وتعليماتها التي تمنعه من إنقاذ المريض. نجت عايدة ومعها ولدها من المذبحة في رواية "هنا بدن" وانخرطت في تأدية دور إيجابي بعدما لملمت شتات نفسها متجاوزة المصاعب الجمة التي واجهتها، كذلك نجا الصبي حليم ونجح في استمالة صابر الذي بدل من قناعاته، فاحتضنه ووفر له العائلة والمأوى، وقرر أن يتولى أمره بدلًا من ولده الذي توفي أثناء فض البراح.

تلك كلها انتصارات قد تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها تحمل عمقًا أكيدًا، وتبرز أبعادًا إنسانية متباينة، فالحدث الذي يرتج له الفرد ويبدل حاله، لا بد وأن توجد فيه جوانب ثرية ومتعددة، بل أنه قد يحمل في طياته النقيضين؛ الهزيمة والانتصار. ربما تتوارى الانتصارات تحت ركام المعركة وقد تحتاج جهدًا متأنيًا للعثور عليها إذ تبدو غير صريحة وغير مباشرة؛ لكنها بالتأكيد موجودة.

- في تقديمه لكتابك "ذاكرة القهر" يقول د.أحمد عكاشة "لقد ولت الأيام التي كان جل اهتمام الأطباء النفسيين هو ما يدور داخل العيادة النفسية، كما ولت الأيام التي اقتصر فيها تخصصهم على معالجة المرضى. فقد اتسعت تخصصات المهنة عبر السنوات لتتجاوز علاج المرض إلى الوقاية منه". هل يمكن الربط بين هذا الكلام وتجربتك الإبداعية نفسها، فنقول إنك تكتبين ليس كنوع من أنواع العلاج، لكن على الأقل التوثيق والتعريف والوقاية من المرض النفسي والاجتماعي على السواء؟

* دافعي الأصيل للكتابة هو الكتابة نفسها، حتى إنني اقتصدت من الوقت الذي خصصته سابقًا للفن التشكيلي وأضفته إلى وقت الكتابة، مع هذا لا أغفل دور الطب والتخصص الذي اخترت أي؛ الطب النفسي، في تعميق رؤيتي للأمور وتطوير قدرتي على تفسير أنماط مختلفة من السلوك، بل وقبول ما لم يكن بالأمس مقبولًا ولا مبررًا، أما عن الكتابة بهدف التعريف والوقاية، فلا يسعني تأطيرها بهذه الصورة ولا جعلها مجرد أداة يمكن الاستعاضة عنها بغيرها ما تحقق الغرض. الكتابة تعكس الواقع المعاش، وتخلق في كثير الأحيان واقعًا جديدًا، وتؤسس عوالم موازية لا حدود لها. إنها تُعرِّف وتُنبِّه وتعيد تشكيل الوعي، وتمس المشاعر وتستثير الانفعالات، بل وتحرض على الفعل، ودعني أؤكد على تجاوزنا جميعًا في استخدام تعبير "المرض النفسي"، فغالبًا ما نقصد به بعض الأعراض والعلامات التي نجد أنفسنا أمامها، أما تشخيص مرض أو اضطراب بعينه؛ فأمر يخضع لضوابط صارمة لا يستهان بها ولا يمكن التساهل معها. على كل حال تحفز الكتابة حوارًا ذاتيًا ربما يكتشف المرء معه ما جهل عن نفسه، هذا الكشف قد يلهم المتلقي ويدفعه إلى إضاءة بقعة معتمة طال تجاهلها وإهمالها. 

- المرض أو التأثير النفسي يفسر الكثير من تصرفات أبطالك، تسربين هذا خلال الكتابة لكن من دون التركيز على طبيعة المرض نفسه وما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات. بالتأكيد الرواية ليست كتاباً علمياً، لكن كيف تقاومين الكتابة عن التفسير العلمي لتصرفات أبطالك، وهو ما نراه في بعض الأعمال الأجنبية مثلاً، ولا يفسد النص بل ربما يزيده تشويقاً؟

* في الحقيقة لا أقاوم الكتابة التي تقدم تفسيرًا علميًا لتصرفات الأبطال، فهي لم تكن أبدًا هاجسًا ملحًا يؤرقني، وأظن أنني لا أهوى هذا النوع من النصوص، وأجده يعتمد على حقائق ثابتة ودامغة أكثر مما يعتمد على الخيال، وإذا قرر الكاتب أن يضع علة أو اضطربًا محددًا في محور النص فلا بد أن يلتزم بالضوابط العلمية ومن ثم يحيط إبداعه بقيود كثيرة خانقة. من هذا المنطلق أفضل أن أترك المصطلحات والتصنيفات العلمية لمجالها مثلما فعلت في "ذاكرة القهر"، وأن أقدم الخيال وأرتاد المساحات الواسعة الرحبة في الكتابات الأدبية.

- في "أعوام التوتة" تفوقت الكتابة الإبداعية على الدراسات عددياً.. ما الأقرب بالنسبة إليك، وفي أيهما ستستمرين خلال الفترة المقبلة؟

* لا أخفيك سرًا إن نفيت هذا التفوق، فعدد الدراسات المكتوبة باللغة العربية ربما يكون أقل من عدد الأعمال الأدبية باللغة نفسها، لكني نشرت نصوصًا علمية خارج مصر بلغات أجنبية وشاركت في كتب بفصول وأوراق، لذا أعتقد أن الكفتين تتساويان تقريبًا، أما عن الأقرب بالنسبة إلي، فكلاهما يشبع رغبة داخلي، والحقيقة أن الموضوع يفرض القالب، فثمة ما أفكر في الكتابة عنه وأجد القصة القصيرة أقرب، وثمة ما يستدعي البحث العلمي مشفوعًا بمصادر ووثائق شافية، وثمة ما تصبح الرواية قالبه الأنسب. أترك الفكرة تختار هيئتها وأتبع الخيط إلى أن أنتهي من نسج النص، ولا أفضل وضع خطط متكاملة وفرضيات صارمة منذ البداية، فكثيرًا ما يقوضها العمل الفعلي، وتحل محلها خطط وفرضيات جديدة مبنية على ما تراكم لدي من مادة وخبرة ورؤية أوسع.

- في الأعمال الروائية وفي كتبك البحثية ومقالاتك هناك عناية بالغة باللغة وسلامتها، نجد مثلاً تعريفات وافية في "ذاكرة القهر" للتعذيب والكرب وغيرها، وفصلاً كاملاً في "سطوة النص" عن تحليل الخطاب، والكتاب في مجمله مرتبط باللغة بشكل مباشر. ما سر هذا التمكن اللغوي المدهش؟ وما حكاية تكريمك في مجمع اللغة العربية؟

* أظن أن اهتمامي باللغة قديم، ليست العربية فقط بل اللغات بوجه عام، أحببت دومًا كتابة موضوعات التعبير أثناء سنوات المدرسة، وحصلت على منهج مواز لمنهج العربية المقرر في الثانوية العامة يتضمن وزن أبيات الشعر وبحوره بناء على رغبتي الشخصية. نما ولعي باللغة ولم يفتر بمرور الوقت؛ فاستزدت من كتب التراث التي يحار القارئ في فهم عديد مفرداتها، ورحت أهتم بما أكتب، وإذا غمت علي كلمة أو قاعدة بحثت عنها وسألت. أعتقد أن التفكير والتعبير عن المعاني لا بد أن يأخذا طريقهما عبر لغة سليمة وأسلوب قوي سلس، لا مجال فيه للتزيد والمغالاة، ولا مساحة لتبسيط مخل وتسطيح، إنما أسلوب يستخدم إمكانات اللغة المتاحة  وهي جمة، ولا يهمل ثراءها وجمالياتها ودقتها.

بالنسبة لمجمع اللغة العربية وتكريمي من قبل رئيسه في ذاك الحين الدكتور حسن الشافعي؛ فقد تعرفت على المجمع عندما بدأت العمل على كتاب "سطوة النص"، إذ أردت الحصول على بعض المعلومات والوثائق من الدكتور الشافعي ولم أكن أعرفه شخصيًا ولم تسبق لي مقابلته. ذهبت إلى المجمع ورأيته وطلبت لقاءه ولما سألني اسمي وسمعه، كرر السؤال وكررت الإجابة ثلاث مرات حتى ظننته مستاءً مني لسبب ما، وأخيرًا أخبرني مبتهجًا أنه يقرأ مقالاتي في جريدة "الشروق" ويتابعها أسبوعيًا، وأنه معجب بسلامة اللغة وجمال الأسلوب، أما إعادته السؤال فكونه لم يصدق أنني بسمة عبد العزيز التي تصورها سيدة متقدمة في العمر فإذا بها مثل تلامذة المدارس!

تواصلت علاقتي بالمجمع وأعضائه ووجهت لي الدعوة لحضور مؤتمرات المجمع السنوية واحتفالات يوم اللغة العربية، إلى أن فوجئت بدعوتي للتكريم والحصول على درع المجمع ضمن عدد من الكتّاب والإذاعيين ممن يحافظون على قواعد اللغة العربية ويتوخون انضباطها وصحتها. هذه اللفتة أدهشتني بقدر ما أسعدتني؛ فلم أتخيل أبدًا أن الحرصَ على الكتابة بلغة خالية من العيوب والأخطاء، عملٌ يستحق المكافأة، وقد أسعدني التقدير بشدة، خصوصاً أن المجمع ضمن مجامع البلدان العربية؛ يعد من أهم الكيانات التي تعنى باللغة وتعمل على تطويرها بما يناسب متطلبات العصر، ولا تنقصه إلا الحلقة التي تجعل إنجازه ومنتجه اللغوي في متناول المتلقي كي تتحقق الاستفادة.

بالنسبة لكتاب "ذاكرة القهر" فقد بذلت جهدًا مضنيًا لجعل المصطلحات العلمية والتعبيرات الشاقة العصية -حتى بلغتها الأصلية- على الاستيعاب، في متناول القارئ، وحاولت قدر المستطاع أن أجعل النص منسابًا سهلًا بغير أن يفقد عمقه وقوته وتماسكه، لاسيما أن المحتوى ثقيل على النفس والموضوع من الجد بما قد يصد المتلقي عن إكمال القراءة، وقد وصلتني رسائل عديدة تستحسن اللغة والأسلوب، وتشيد بالكتاب مما أبهجني ووطد إحساسي تجاه نفسي والقارئ بالتزام الدقة، وتحري الانسيابية واختيار اللفظ الأكثر ملاءمة ما أمكن. أما عن "سطوة النص" فالكتاب محوره تحليل خطاب مؤسسة الأزهر في فترة زمنية شديدة الحساسية، وقد مثل في البداية أطروحة تقدمت بها لنيل درجة الماجيستير في علم الاجتماع، لكن الظروف السياسية المعقدة حالت دون مناقشتها واعتمادها وتأزمت الأمور، ومن ثم قررت عدم التوقف أمام هذه العقبة وأعدت الصياغة كاملة، بما يتيح للقارئ الملم إلى حد ما باللغة وتحليل الخطاب؛ التفاعل مع النص، وبالتالي فاللغة في هذا الكتاب محور رئيس لا اهتمام فرعي أو هامشي، وقد لقي المحتوى تجاوبًا واسعًا وتم تدريسه في بعض الجامعات العربية بدول مثل العراق.

- هناك وجهتا نظر بشأن التعامل مع القارئ حالياً، خصوصا بعدما قربت وسائل التواصل بين الكتّاب والقراء، البعض يحرص على أن تظل المسافة موجودة، وفي المقابل البعض الآخر يحب إشراك القارئ في كل مراحل الكتابة والمتابعة مع القراء حتى بعد طرح العمل. انطباعي يقول إنك تميلين إلى وجهة النظر الأولى. هل هذا صحيح؟

* انطباعك صحيح تمامًا، أنا من الكتاب الذين لا يفصحون أبدًا عن جملة واحدة من نصوصهم خلال اختمارها ونضجها إلى حين ولادتها؛ وأقصد طباعتها وطرحها للجمهور. الكتابة عندي عمل شديد الذاتية يتطلب حوارًا داخليًا مطولًا وربما بعض العزلة، مع هذا فأنا أحبذ استشارة قلة من الأصدقاء أثق في خبرتهم وآرائهم كل في مجاله ومضماره؛ خصوصاً حين أعمل على مادة علمية ليست من تخصصي الأصيل، أما القارئ فحقه أن يجد النصَّ أمامه مكتملًا مميزًا مصقولًا، لا أن يطالبه الكاتب بالإسهام في وضعه.

- ما الجديد لديك؟

* أعمل دائمًا على نصوص متنوعة بالتوازي، ولا ألبث أن أترك بعضها مفتوحًا وأولي انتباهي لواحد فقط هو الذي أقرر أن أنتهي منه ليخرج إلى النور. عندي حاليًا مشروع أدبي، وآخر في حقل الكتابات العلمية، لكني لم أقرر بعد أيهما سيتقدم على الآخر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها