الأربعاء 2022/09/14

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

ممدوح عمّار.. مصر التي في خاطر صياد وامرأة

الأربعاء 2022/09/14
increase حجم الخط decrease
افتُتح في القاهرة، منذ أيام، وتحت عنوان "22 موهبة أبدية"، معرض استعادي للفنان المصري الراحل ممدوح عمّار. نظمه "المحترف العربي للثقافة والفنون" بالتعاون مع عائلة الفنان. وهذه هي المرّة الأولى التي تُعرض فيها أعمال الفنان، في شموليتها الممكنة، منذ وفاته، وقد تضمّن هذا العرض مجموعة مختارة من هذه الأعمال بلغ عددها حوالى 90 لوحة تمثل معظم المراحل الفنية التي مرّ بها، منذ أواخر أربعينات القرن الماضي، وحتى وفاته العام 2012.
 
الفنان ممدوح عمّار من مواليد العام 1928. تتلمذ في أربعينات القرن الماضي على يد الفنان التركي هدايت شيراري، ثم التحق بالكلية الملكية للفنون الجميلة. كان أساتذته من الجيل الأول من الرسامين المصريين، أمثال يوسف كامل وأحمد صبري وحسين بيكار، إضافة إلى المستشرق الفرنسي بيير بيبي مارتن. انضم عمّار، إثر سفره إلى فرنسا، إلى محترف الفنان الفرنسي أندريه لوت (كان الفنان اللبناني الراحل شفيق عبود يتردّد بدوره على محترف لوت)، إضافة إلى حصول عمّار على شهادة تدريب من محترف الفنان الإيطالي جينتيلليني، ونيله شهادة دبلوم من أكاديمية الفنون الجميلة في روما.


كان عمّار عضواً في "جماعة الفن والحرية" المصرية، كما في "نقابة الفنانين المصريين"، وفي جمعيات أخرى كثيرة. إلى ذلك، عمل في وزارة السياحة المصرية، وفي صحف "جريدة المساء" و"روز اليوسف"، كما كان أستاذاً في قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة في القاهرة، وأصبح رئيس القسم لاحقاً، وأستاذاً متفرّغاً في تاريخ الفن الحديث حتى وفاته العام 2012، وأقام نحو عشرة معارض شخصية في القاهرة والإسكندرية والصين وإيطاليا.

من يعرف ممدوح عمار جيداً يؤكّد أن الفنان كان دائماً وفياً لأفكاره ومعتقداته، وأنه لم يكن من محبي الصخب الإعلامي. لذا، فقد ظل لفترة من الزمن غائباً، نسبياً، عن الساحة الفنية، وكأنه كان يعمل بصمت بعيداً من أجواء المواربة التي ترافق أحياناً النشاطات الفنية في عصرنا. هكذا، شكّل المعرض، الذي نحن في صدده، فرصة للمهتمين بالشأن الفني من أجل التعرّف على الحقبات المختلفة للفنان، بعدما كان الجمهور إطّلع على بعضها في مناسبات متفرقة.

وعمّار، الذي يُعتبر من جيل الرواد الثاني، والذي يمثل الفترة الزمنية من العام 1949 وحتى العام 1968، كان شديد التعلّق بالواقع المحلّي. ويبدو أن دراسته في أنحاء القارة الأوروبية ساعدته على شحذ تقنياته، والإطلاع على منجزات الفن الأوروبي التي تكدّست منذ عصر النهضة الأوروبية، وصولاً إلى الخطوات الحثيثة التي سارها الفنانون الأوروبيون على دروب الفن الحديث، لكن ذلك كلّه ترافق مع قربه الدائم من بيئته الأصلية. إذ أن ما تلقّاه في الغرب توازى من حيث الأثر، وبالرغم من الفروق البديهية، مع رحلته الداخلية إلى الأقصر، جنوبي مصر، والتي امتدت عامَين، إثر تلقيه منحة تفرّغ من وزارة التعليم العالي. هذه الرحلة تركت لديه إنطباعات لا تُمحى، إذ أمكنه التعرّف من قرب على تراث "أسطوري" غني، ما جعله يكرر زياراته إلى تلك الأماكن مرّات عديدة.

وكما يُلاحظ، أكان لدى ممدوح عمّار أو لدى سواه، فإن الخلفية الثقافية للفنان هي عملية تراكمية، لا تتعلّق فقط بسنوات الدراسة، بل أيضاً بما يستتبعها من مشاهدات متفرّقة ترسخت في الذهن مع مرور الأيام. لكن، وإذا كان الغموض والإلتباس قد اكتنفا هذه المسألة لدى البعض، فإنها تبدو جليّة وواضحة في ما يخص بالفنان الذي لم يهمل الطبيعة المصرية ومكوناتها، وما يلتصق بها من مشاهد عضوية. زياراته للريف وصحراء الجنوب، إضافة إلى إهتمامه بالبيئة الشعبية والعمارة الإسلامية، لم تكن مجرّد مشاهدات ذات طابع "سياحي"، بل أصبحت في صلب الموضوعات التي عالجها وكانت مفضّلة لديه. لقد كانت علاقة الفنان بتراثه المصري، وبما يتصّل بهذا التراث من مزايا الفرد المصري في بساطته وحبه للحياة، وفي صراعه الدائم من أجل العيش، وثيقة ومبدئية. صيّادون يعالجون شباكهم في بلد يعتمد العديد من سكانه على مهنة الصيد من أجل تحصيل قوتهم، يمكن مشاهدتهم في أكثر من عمل، لعل أشهرها لوحة "الصيادون الذين كانت لقياهم ذهباً"، على سبيل المثال. إلى ذلك، لم تغب المرأة عن أعماله، بل شغلت مكاناً مميّزاً. مثّل الفنان الأنثى في أطوارها العديدة: كائناً تحمل ملامحه الرقة الممزوجة بكمٍ من الأسرار، متخذاً، في هذا المجال، من زوجته موديلاً أوحى له رسوماً واسكتشات ولوحات مكتملة الجهوزية.



يمزج أسلوب ممدوح عمّار بين الواقعية وبعض ملامح التجريد، وقد يذهب أيضاً نحو نمط تكعيبي. يرتبط ذلك كلّه بالحقبة الزمنية التي تم خلالها إنجاز العمل، وبالتطوّر الذي يصيب الأسلوب على مر الأيام، كما بحيثيات الموضوع نفسه. اعتبر الفنّان الرسم أساساً ليس من الممكن التخلّي عنه، لذا فإن التخطيط الغرافيكي رافق أعماله، ولو بدرجات متفاوتة، علماً أن الرسم هنا لم يرتبط بتمثيل شديد الواقعية. وإذا كان من ميزة واضحة، أيضاً، لدى عمار فهي إهتمامه بعملية التأليف، التي لم تسر دائماً على دروب تقليدية، بل اكتسبت حدّة وجرأة، وميلاً إلى التجريب، مع تجنّب الوقوع في مصائد القوالب الجاهزة. هذا الأمر ينسحب أيضاً على اللون، إذ لا ضير من اللجوء إلى التعاكس في موقع ما، وتفضيل الإنسجام في مواقع أخرى. ففي أعماله المنضوية تحت مجموعة "السيرك" مثلاً، كانت للألوان الصاخبة مكانة بارزة. لكن الصخب في هذا الموقع أخفى حزناً، فالمهرّجون يجهدون من أجل إضحاك الجمهور، في حين أن نفوسهم قد تضمر الحزن. 

نهاية، لا بد من العودة إلى ما أكّده ممدوح عمّار مراراً من أن البيئة المحليّة والموروث التاريخي والثقافي يجنّبان الفنان الإنزلاق نحو دروب غريبة من شأنها أن تنفي الهوية الحقيقية للنتاج الفني وتزيّفها. ومن أقواله في هذا المجال، "إن الفنان الحقيقي هو وريث كل الحضارات السابقة، وهو الذي يصهر ويمزج تلك المؤثرات ويطوّعها لتخدم أفكاره وهويته الفريدة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها