الثلاثاء 2022/08/09

آخر تحديث: 19:01 (بيروت)

مَن يكتب سيرة محمود درويش؟

الثلاثاء 2022/08/09
مَن يكتب سيرة محمود درويش؟
increase حجم الخط decrease
على الرغم من أهمية الشاعر الفلسطيني محمود درويش(تمرّ اليوم ذكرى رحيله الـ14) وتجربته الشعرية والحياتية وحضوره العربي والعالمي، لكن، حتى الآن، لم يبادر أي ناقد أو باحث مرموق ومخضرم أو مجتهد إلى كتابة سيرة شاملة له، بالمعنى الدقيق للسيرة، تشبه تلك التي يكتبها نقاد في باريس ولندن ونيويورك عن أسماء أدبية وشعرية وفنية لها تجاربها وأثرها الثقافي. 
 
لم يكتب أحد سيرة درويش، وبقيت الكتابات عنه متفرقة ومتشعبة ومشتتة، سواء من مقربين منه أو ممن لا يتوددون لتجربته. فهناك فئة تصنف نفسها في خانة كارهي محمود درويش، وتحاول بشكل من الأشكال أن تمارس الضغينة ضد نصه في السراء والضراء، ولغاية في نفس يعقوب أو شاعر من الشعراء. وهناك من فئة من عاشقيه، حبّها لها يجعل كتاباتها قائمة على تسويق مستمر للغته وقصائده. وهناك فئة ثالثة وسطية، تحاول أن تكون عقلانية. لكن أحداً من الفئات الثلاث لم يكتب سيرته التي بقيت قائمة على نتفٍ من هنا وهناك، وملامح خافتة في هذا النص أو ذلك الكتاب...

زوجته السابقة مثلاً، الكاتبة السورية رنا قباني(ابنة شقيق الشاعر نزار قباني)، كتبت تجربتها الزوجيه معه بشكل مبسط وتخلو من التفاصيل السردية، لكنها تبين جانباً من شخصية درويش وعلاقته بالمرأة والحياة الزوجية وشرقيته وحتى علاقته بالجسد، تقدّم جوانب مبهمة في تجربة شاعر القضية. فقد أقامت رنا مع محمود في شقته الصغيرة بباريس، وفوجئت هناك بعالم صاخب لم تكن تتوقعه، حيث يشاركها في زوجها كل ليلة، عشرات من أصدقائه الذين يأتون ليأكلوا ويشربوا ويسهروا من دون إشعار مسبق، ولذلك لم تتحمل عناء هذا الزواج طويلاً، فانفصلت عن محمود لتعود وتكمل دراستها في واشنطن...

الناقد المصري سيد محمود، كتب عن تجربة درويش المصرية، تتبع في كتاب بعنوان "محمود درويش في مصر.. المتن المجهول"(منشورات المتوسط)، سيرة درويش في مصر، دارساً وموثقاً لعلاقاته مع شعرائها ونقادها وصحافييها، واللقاءات التي أجراها والمقالات النقدية التي تناولت شعره، وكذا القصائد والمقالات التي نشرها هنا وهناك في الصحافة، كما ركز على دور مصر في "صناعة" محمود درويش...الكتاب يسعى إلى تقديم رواية مُتكاملة، عن ظروف حضور محمود درويش، من موسكو إلى القاهرة، العام 1971، وأسباب خروجه منها، مع الوعي بأهمِّية أن تَضع هذه الرواية في الاعتبار طبيعة التوقيت السِّياسي، الذي كان بالغ الدقة...

كثر كتبوا عن يوميات درويش في بيروت، خصوصاً في مرحلة الحصار العام 1982، وما قبل. وخلال تواجده في بيروت، أنتج درويش أكثر من كتاب ونص، مع ملامح سيرة ذاتية، أو أجزاء بسيطة منها. على أن الناشر والكاتب فاروق مردم بك كتب بأن محمود درويش قال في العديد من مقابلاته إنّه وُلد شعريّاً على دفعات، وإنّ باريس كانت مكان مولده الشعريّ الحقيقيّ. فهي التي أتاحت له، كما قال، أن يُكرّس جلّ وقته للقراءة والكتابة، وأن يتأمّل أحوال الوطن والعالم وأشياء الحياة، بعيداً إلى حدٍّ ما من هموم السياسة اليوميّة. كتب محمود في باريس "وردٌ أقلّ" و"ذاكرة للنسيان" و"هي أُغنية هي أغنية" و"أحد عشر كوكباً" و"أرى ما أريد" و"لماذا تركت الحصان وحيداً" وأغلب قصائد "سرير الغريبة". وفي باريس أيضاً، نثر بذور "الجداريّة" و"لا تعتذر عمّا فعلت" و"كزهر اللوز أو أبعد" و"أثر الفراشة" التي نمت وأينعت في عمّان ورام الله. عاش في باريس بين 1983 و1995، أكثر من عشر سنوات تخلّلتها إقامات قد تطول أو تقصر في تونس، ولم تنقطعْ علاقته بالعاصمة الفرنسيّة بعد ذلك، منذ عودته إلى الوطن حتّى وفاته في 2008. وإذا كان من حقّنا ألّا نُوافق درويش في قسوته المُفرطة على شعره في مرحلتيه الجليليّة والبيروتيّة، وقصائدهنا الأيقونيّة، إذا صحّ التعبير، والتي تتردّد دائماً في ذاكرتنا الجمعيّة، فلا بدّ لنا أيضاً من أن نأخذ مأخذ الجدّ تقييمه الذاتيّ لإنتاجه الباريسيّ. مرحلة باريس تشكل فصلاً طويلاً من سيرته، وكذا مرحلة تونس وعمان. لكن اللافت أن الكتابة عن درويش تركز على الرموز الشعرية، وليس الأمكنة الحياتية.

هناك جوانب شخصية في حياة درويش يتم التعاطي معها كالمفرقعات... الشاعر سليم بركات رمى مفرقعة عن احتمال أن تكون لدرويش ابنة من علاقة غير شرعية، لكن الكلام في هذا الموضوع بقي في إطار الهمس والكلام المنبري والصحافي، وليس البحث عن الوقائع. قصة درويش مع ريتا(الشابة الإسرائيلية تمار بن عامي)، أيضاً أخذت حيزاً من الكتابات، لكنها بقيت أقرب إلى عنوان لمشروع بحثي...

في المدة الأخيرة عاد أحد الشعراء ليكتب عن إعجاب درويش بهيفاء وهبي وجمالها، وحديثه عنها في إحدى الجلسات، وتطرق الى لقاء حصل بينهما، مع أن المعلومات تفيد بأن درويش قصد بيروت من أجل لقاء هيفاء، لكن اللقاء لم يحصل. وهناك الكثير من التكهنات التي تولد في مقالات متفرقة، لكن ماذا لو اجتمع كل شيء حول محمود درويش في سيرة ذاتية؟

بالطبع ليس جديداً السؤال عن سيرة محمود درويش ومن يكتبها، وكيف نكتبها. في كتابه عن محمود درويش، الصادر عن مؤسسة العويس في العام 2019، يقول شربل داغر "إنه ليس سيرة محمود درويش لا التامة ولا الجزئية"، فهذا النوع من الكتابات (السيرة) قليل لدينا، ورغم أن الكاتب كما ورد في الكتاب قد بدأ بمحاولة كتابة سيرة محمود درويش في منتصف الثمانينيات، لكنه كان مشروعاً لم يكتمل، وما بقي منه لا يتعدى مجموعة ذكريات وحوارات تضمنها الكتاب، وهذا ما يعنيه الكاتب بالعنوان عن محمود درويش. فالكتاب معه وعنه، ولأنه ليس كتاب سيرة، يغفل الكاتب التواريخ التي توثق الحياة الشخصية..

أما على الصعيد الشخصي، فيتساءل داغر: هل يحق لنا في غمرة الشهادات التي صدرت بعد وفاة درويش، أن ننشر ما يبدو شخصياً، هو الذي لم يسع لترك مساحة لكتابة سيرته من دون أن نأخذ إذنه ومن دون أن نستغل علاقة شخصية لنشر الخاص للجمهور، طالما لم يمنحنا ذلك الذي أزهر في ربيع الغياب بغتة، وهو الحي بيننا تحفظه عين الشعر في أعيننا؟ ولعلنا في تساؤله نرنو إلى الضجيج الذي يحدث عبر تناول الشخصيات المهمة عموماً، وخاصة في صفحات التواصل الاجتماعي. ومما يزيد في صعوبة كتابة سيرة محمود درويش ميله إلى التكتم عن أخباره تبعاً لعلاقته بمنظمة التحرير الفلسطينية ولموقعه فيها الذي حكم أسلوب حياته.
أما الكاتب محمود شقير فيسأل: لماذا لم يكتب محمود درويش سيرته الذاتية على غرار بعض الكتاب الفلسطينيين والعرب؟ وسيجد الجواب في كتابات محمود درويش الشعرية والنثرية، سيرى بعض تفاصيل هذه السيرة، مبثوثاً هنا وهناك على نحو خافت حيناً، وعلى نحو واضح حيناً آخر. بل إن كثيراً من شعر محمود درويش ونثره مبني على وقائع من حياته الشخصية، 
ولعل التصريح الأكثر دلالة حول السيرة الذاتية للشاعر، ما ورد في كتابه "في حضرة الغياب"5 حينما كان يستمع إلى الخطابات التي ألقيت في حديقة البيت الأبيض الأميركي أثناء الاحتفال بتوقيع اتفاق أوسلو بتاريخ 13 / 9 / 1993. وكان جوابه أنه يكتب أصداء أصداء سيرة شخصية-جماعية...

لم تُكتب سيرة محمود درويش الحميمة أو السياسية، فهل تشكل رمزيته الفلسطينية والسياسية قيداً على هكذا أنماط من الكتابة؟ وهل يمكن كتابة تفاصيل عن علاقة محمود درويش بتجارب الشعراء الآخرين في بيروت، مثل موقفه من مجلة "رصيف" أو قصائد عادل فاخوري؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها