الثلاثاء 2022/08/09

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

غزة في العهد القديم: القوية

الثلاثاء 2022/08/09
increase حجم الخط decrease
هي في العهد القديم غزة، أي القوية، وهي في كتب التراث الإسلامي غزة هاشم، "مدينة طيبة بين الشام ومصر على طرف رمال مصر"، كما كتب القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد". عانت من الحروب المتواصلة بين الفرنجة والأيوبيين، وعند حدودها توقّف زحف المغول نحو المشرق العربي. عمرت في عهد المماليك، وأضحت عاصمة فلسطين في زمن العثمانيين. أُلحقت بمصر بعد نكبة فلسطين، وسقطت في يد إسرائيل بعد هزيمة 1967، وظلّت تحت سلطتها لمدة 27 سنة، وهي اليوم تحت الحصار والنار.

يرد اسم غزة في وثائق مصرية تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، كما في العديد من أسفار التوراة، ومعناه بصيغته العبرية "القوية". بحسب ما جاء في سفر التكوين، كان الكنعانيون أول من سكن غزة، ولعلّهم بُناتها: "وكانت حدود الكنعانيين من صيدون وأنت آتٍ نحو جرار إلى غزة" (تكوين 10: 19). قامت غزة عند جنوب غرب بلاد الكنعانيين، ولم يدخلها العبرانيون في زمن يشوع النون، حيث كانت أبعد مدن الفلسطينيين الخمس في اتجاه الجنوب (يشوع 13: 3). ظلّت المدينة خارج سلطة اليهود في زمن قضاة اسرائيل، ولم يفلح الغزاة في اختراقها، حيث توقفوا عند مدخلها (قضاة 6: 4). في غزّة، وقع شمشون الجبار في الأسر، وفيها حطّم معبد الإله داجون على نفسه وعلى أعدائه، فـ"سقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي في البيت، فكان الموتى الذين قتلهم في موته أكثر من الذين قتلهم في حياته" (القضاة 16: 30). استولى اليهود على المدينة في عهد الملوك، وامتدت حدود مملكة سليمان "من تفساح إلى غزة" (1 ملوك 4: 24).

تصدّعت مملكة اسرائيل بعد موت الملك سليمان، وانتهت مع إحكام البابليين سيطرتهم على الشرق. يتردد اسم غزة في الكتب النبوية التي تتحدث عن السبي البابلي حيث تتوالى اللعنات عليها كما على صيدون وصور. يأخذ النبي أرميا "كأس السخط" ليسقي منها "جميع ملوك ارض فلسطين وأشقلون وغزة وعقرون وبقية اشدود" (أرميا 25: 20)، "بسبب اليوم الآتي لدمار جميع الفلسطينيين، لاستئصال كل باق ينصرهم من صور وصيدون، لأن الرب يدمّر الفلسطينيين"، "قد أتى على غزة قرع الرؤوس، وسكتت أشقلون" (أرميا 47، 4-5). كذلك، يتهم النبي عاموس أهل غزة بالمتاجرة بالأسرى العبرانيين وبيعهم كرقيق، ويتوعدهم بالخراب الكبير: "هكذا قال الرب، بسبب معاصي غزة الثلاث، وبسبب الأربع لا ارجع عن حكمي، لأنهم أجلوهم عن آخرهم ليسلّموا إلى أدوم، فأرسل ناراً في سور غزة فتلتهم قصورها، وأستأصل الساكن من أشدود، والقابض على الصولجان من أشقلون، وأرد يدي على عقرون، فتهلك بقية فلسطين" (عاموس 1: 6-8). ويرى النبي صفنيا "غزة مهجورة وأشقلون مقفرة" (صفنيا 2، 4). ويتحدث النبي زكريا عن أشقلون التي تخاف، وغزة التي ترتعد، حيث "يهلك الملك من غزة وأشقلون لا تسكن" (زكريا 9: 5).

خضعت غزة للفرس إلى أن حاصرها الاسكندر المقدوني على مدى خمسة أشهر، ثم هدم أسوارها ونكّل بأهلها لرفضهم الاستسلام. مثل مدن المتوسط الكبيرة، باتت غزة مركزا كبيرا من مراكز الهلينستية الشرقية في القرون التي سبقت ظهور المسيح، وعاشت عصرا ذهبيا في زمن مملكة البطالمة المصريين، ثم انتقلت إلى حكم الدولة السلوقية التي ضمّت آسيا الصغرى والهلال الخصيب وبلاد فارس. في ظل هذه الدولة، حصل اليهود على نوع من الاستقلال الذاتي تحت حكم الأسرة المكابية، وشنّ يوناتان المكابي هجوما على غزة، "فأغلق أهل غزة الأبواب في وجهه، فحاصرها وأحرق ضواحيها بالنار ونهبها، فسأل أهل غزة يوناتان الأمان، فمدّ لهم يمناه، ولكنّه أخذ أبناء رؤسائهم رهائن وأرسلهم إلى أورشليم، ثم جال في البلاد إلى دمشق" (1 مكابيين 11: 61-62). انتهت دولة المكابيين مع خضوع اليهود للرومان، وفي عام 70، دخل القائد الروماني تيطس القدس وهدم الهيكل وحوّله إلى أنقاض.

ازدهرت غزة في العهد الروماني بعد ضمّها إلى ولاية سوريا، وشهدت نشوء الكنيسة وانتشارها في مدن الساحل المتوسطي. يرد اسم المدينة في العهد الجديد، في خبر معمودية خازن ملكة الحبشة على يد القديس فيلبُّس (أعمال الرسل 8، 26). هكذا تلقّت غزة باكرا البشارة الجديدة، غير أنها لم تتقبّلها إلا في القرن الخامس، إثر اعتناق السلطة الامبراطورية لهذا الدين. ارتبط اسم المدينة باسم عدد من كبار أعلام الكنيسة في القرون الأولى، أشهرهم برفوريوس أسقف غزة الذي أرسى دعائم المسيحية في المدينة، والقديس دوروتاوس رئيس الرهبان، وصاحب الرسائل النسكية الروحية.

غزة هاشم
فتح عمرو بن العاص غزة في عام 618، وارتبط اسمها باسم هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للرسول، "وصارت من ذلك الوقت تُعرف بغزة هاشم لأن قبره بها"، على ما نقل ابن خلكان في "وفيات الأعيان". في العهد الإسلامي، أضحت غزة جزءا من بلاد الشام، والشام بحسب ابن عبد ربه الأندلسي في "العقد الفريد" خمس شامات: "أول حد الشام من طريق مصر أمج، ثم يليها غزة، ثم الرملة رملة فلسطين، ومدينتها العظمى فلسطين وعسقلان، وبها بيت المقدس. وفلسطين هي الشام الأولى. ثم الشام الثانية، هي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطئ البحيرة، والغور واليرموك. وبيسان فيما بين فلسطين والأردن. ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس. ثم الشام الرابعة وهي أرض حمص. ثم الشام الخامسة وهي قنسرين، ومدينتها العظمى، حيث السلطان، حلب".

عانت المدينة غزوات البدو المتكررة في العقود الأخيرة من القرن الثامن، ثم خضعت للفاطميين في القرن العاشر، وقاست لاحقاً من الحروب المتواصلة بين الفرنجة والأيوبيين، وعند حدودها توقّف زحف هولاكو نحو المشرق العربي. ازدهرت المدينة من جديد في عهد المماليك، وعمرت في عهد الأمير علم الدين سنجر الجاولي الذي حكمها في زمن الملك الناصر محمد بن قلاوون. ظلت غزة على مر هذه العهود مدينة تربط مصر بالشام. في القرن العاشر، ذكرها شمس الدين المقدسي في "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وكتب في تعريفه بها: "غزة، كبيرة على جادة مصر وطرف البادية وقرب البحر، بها جامع حسن، وفيها أثر عمر بن الخطاب ومولد الشافعي وقبر هاشم بن عبد مناف". في نهاية العهد العباسي، كتب ياقوت الحموي في "معجم البلدان": "مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، بينها وبين عسقلان فرسخان أو أقل، وهي من نواحي فلسطين غربي عسقلان". وفي "آثار البلاد وأخبار العباد"، استشهد القزويني بحديث الرسول: "أبشركم بالعروسين، غزة وعسقلان"، وقال في وصف غزة: "مدينة طيبة بين الشام ومصر على طرف رمال مصر". في القرن الرابع عشر، وفي ظل المماليك، كتب ابن بطوطة بغزة وكتب في وصفها: "هي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متّسقة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها جامع حسن، والمسجد الذي تقام الآن صلاة الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي، وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض".

طرد المماليك آخر الصليبيين، ونجحوا في صد المغول، وكانت غزة ساحة من ساحات هذه الحرب الضروس التي استمرت على مدى عقود من الزمن. سجّل النويري في "نهاية الأرب" فصول المعركة التي دارت بين العسكر المصري وعساكر الفرنج في "مكان يُقال له أربيا، بين غزة وعسقلان"، ونقل عن أحد الشهود قوله: "كنت يوم ذاك بالقدس، فتوجهت في اليوم الثاني من الكسرة إلى غزة، فوجدت الناس يعدون القتلى بالقصب، فقالوا إنهم يزيدون على ثلاثين ألفا". في "صبح الأعشى"، نقل القلقشندي نسخة مكاتبة الإخبار بفتح غزة واقتلاعها من الفرنج الديوية، وهي فرق مشهورة من فرسان الصليبيين. وجاء في نص هذه المكاتبة: "نشعر المجلس بما منّ الله تعالى به من فتح غزة يوم الجمعة الجامع لشمل النصر. وهذه المدينة قد علم الله أنها من أوسع المدائن، وأملأ الكنائن، وأثرى المعادن. وما كانت الأبصار إليها تطمح، ولا الأقدار بها قبلنا تسمح. ولها قلعة أنفها شامخ في الهواء، وعطفها جامح عن عطفة اللواء، قد أوغلت في الجو مرتفعة، وأومضت في الليل ملتمعة، وبرداء السحاب ملتفحة، قد صافحتها أيدي الأنام بالسلامة من قوارعها، وهادنتها حوادث الأيام على الأمن من روائعها، إلى أن أبيح لها من أتاح لها الحين، وقبض لها من اقتضى منها الدين، فصبحها بما ساء به صباحها، وزعزعها بالزئير الذي خرس له نباحها".

من الانتداب إلى الحصار
حكم المماليك فلسطين، ثم حكمها العثمانيون في القرن السادس عشر، وأضحت غزة عاصمة فلسطين في القرن السابع عشر. تجدّد الصراع على حكم فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث بدت مظاهر الضعف على الدولة العثمانية، وامتدّ النفوذ الغربي إلى ديار المشرق العربي. في ذلك الزمن، ظهرت المستعمرات اليهودية الأولى في فلسطين، وأمّنت القنصليات الأوروبية الحماية لهذه المستعمرات، إذ اعتبرت سكانها مواطنين أوروبيين من رعاياها. اشتدّ هذا الصراع في القرن العشرين، وتحوّل تدريجياً مواجهة مفتوحة. انتهت الحرب العالمية الأولى، وخسرت الدولة العثمانية مجمل أراضيها في البلاد العربية لصالح بريطانيا وفرنسا. خضعت فلسطين للانتداب البريطاني في 1920، وأضحت القدس عاصمة الانتداب، واستقرّ فيها الحاكم الانكليزي ومؤسسات حكومته. فتحت السلطة البريطانية باب الهجرة أمام اليهود الراغبين في إقامة "بيت وطني" في فلسطين، وأدّت هذه السياسة إلى تدفق الوافدين الجدد من أنحاء العالم، على رغم معارضة سكان البلد الأصليين.

في 1947، أعلنت بريطانيا شكليا نهاية الانتداب، وطرحت الأمم المتحدة مشروع تقسيم فلسطين. قامت دولة إسرائيل رسمياً في 14 أيار 1948، وسارعت خمسة جيوش عربية لمساعدة الفلسطينيين في حربهم على هذه الدولة الطارئة، وكانت النكبة التي تلتها نكبات. سيطر الكيان الصهيوني على ثمانية وسبعين في المئة من أرض فلسطين، وأُلحق قطاع غزة بمصر، بينما تمّ ربط مناطق الضفة بالدولة الأردنية. بعدة نكبة 48، جاءت هزيمة 67 وتبعتها سلسلة من الهزائم المتواصلة إلى يومنا هذا. سقطت المدينة في يد إسرائيل، وظلّت تحت سلطتها لمدة 27 سنة. تضاءل حجم فلسطين بعد "اتفاقية اوسلو"، وظلّ يتضاءل بفعل سياسة القضم التي تتبعها اسرائيل منذ نشوئها من جهة، وتصدّع السلطة الفلسطينية بين غزة والضفة من جهة أخرى. سيطرت حركة "حماس" على كامل قطاع غزة في 2007، فحاصرت القوات الإسرائيلية القطاع، ودخلت في مواجهة مفتوحة مع سكانه تستمرّ فصولها اليوم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها