الإثنين 2022/08/08

آخر تحديث: 11:48 (بيروت)

عمر... في مجلس عزاء حسيني

الإثنين 2022/08/08
عمر... في مجلس عزاء حسيني
من اعمال فرشچيان
increase حجم الخط decrease
تخرج من بيئتك مثقلاً بأفكارك الوراثية. للحظة تظنّ أن لا رجوع عن تلك الأفكار، مهما قدموا لك من مغريات قد تطيح صلابتك، لكنك تعود إليها لاحقاً (إلى بيئتك) مثقلاً بأفكار دخيلة، أفكار قد تشير إليك بإصبع الإتهام على أنك خائن من الدرجة الأولى. تخاف طرح تلك الأفكار أمام الآخرين الذين قاسمتهم ماضيك، بكل ما فيه من موروثات إجتماعية وثقافية ودينية. ولأنك لم تعد كما كنت، ولأنك واحد آخر، وظيفته أن يحتجّ طوال الوقت، تضطر إلى تزوير بعض الأكاذيب، مراهناً بينك وبين نفسك على أنها حقائق ممنوعة من الظهور، في أماكن تصر على أن تظهر جزءاً من الحقيقة.

تطلب مني إحداهن، ان أكتب لها عن الإمام علي بن أبي طالب، فتراني أزجّ بالخليفة عمر بن الخطاب معه، استدعيهما معاً من التاريخ نفسه، من الحقبة الزمنية التي لم نعرف عنها إلا ما اختاروه لنا. هي قارئة مجالس عزاء، تطلب مني أن أكتب لها محاضرات تتضمن قصصاً وحكايات عن أمير المؤمنين علي...

قالت لي إنها دائماً تحكي للناس الذين يحضرون لسماع مجلسها، القصص والروايات نفسها عن بعض الأئمة الذين شاركوا الحسين في واقعة كربلاء. لقد ملّ الناس سماع القصص نفسها في موسم عاشوراء، لذا فكرت أن تطوّر المجالس الخاصة بها، وأن تروي عن أئمة آخرين لم يشاركوه تلك الواقعة..."لديكِ حس أدبي، أكتبي لي بعض القصص والمحاضرات عن أمير المؤمنين"... تقول لي ذلك، وتورطني من دون أن تلاحظ أنه لا جديد لدي عن عليّ لأكتبه. الناس، كل الناس هناك، يحفظون سيرته الذاتيه أكثر مما يحفظون سيرتهم وسيرة آبائهم وأجدادهم.

تنتشلني حكايا لأمير مؤمنين آخر، من تلك الورطه، حكايات أقرأ عنها منذ مدة لأكتشف أن الأمراء يتشابهون، وليسوا مثلنا مختلفين وشبه أعداء..

نعم أنا شيعية مثلها... لكن ابتعادي عن البيئة والقفز خارج الصندوق، جعلني أتعرّف على شخصيات لا مكان لها في تلك المجالس، ومن بينها شخصية عمر. كتبت لها قصصاً عنه وعن علي، من دون ان أذكر إسمَي الرجلَين. كل حكاية كنت أكتبها، كنا أطلق على بطلها أمير المؤمنين...العدل، الشجاعة، الثبات، الخلافة، وصفات أخرى مشتركة.

أعجب الحضور بتلك القصص التي يسمعونها للمرة الأولى عن أمير المؤمنين، والذي هو في الحقيقة أميرَين وليس أميراً واحداً. كل حدث جميل أو عمل بطولي هو بالنسبة إليهم من حصة علي وحده، لهذا كانوا يطلقون الصلوات على محمد وآل محمد، كلما كانت الحكاية عنه مؤثرة. هي ليست عنه وحده، عمر أيضاً له حصته، لكنهم لا يعلمون هذا. كنت أشاهدهم يبتسمون عند سماعهم لتلك القصص، يبتسمون بتفاخر وإعجاب، أشاركهم أنا أيضاً الابتسام رغم شعوري بأني مخادعة. هم لا مشكلة لديهم مع الحكاية، مشكلتهم مع صاحبها الأصلي. ماذا لو أخبرتهم عن اسمه؟ لماذا يحق لي أن أذكر اسم علي هناك، ويحرم عليَّ أن أذكر اسم عمر هنا؟
إنها الخطوط الحمراء العريضة، الخطوط التي يكلفك الاقتراب منها، أن يُحكم عليك بأنك من أتباع قَتَلة الحسين وعلي وكل الشيعة، حتى أولئك الذين ماتوا ميتة طبيعية، تصبح أنت في دائرة الشك في التسبب في موتهم بطريقة أو بأخرى.

ما ذنبك إن غيّرتك الجغرافيا، وفتح لك التاريخ أبوابه المغلقة ودعاك لتتعرف على الجميع بلا استثناء، ومن بينهم علي وعمر. عشرة أيام، وحكايا عمر تجوب مجالس العزاء في الجنوب، الكل راضٍ وسعيد بسماعها.

هي تجربة أشبه بمغامرة، أن تجمع أميرَين من ذاك الزمان في مجلس عزاء من هذا الزمان. نحن أمّة بسيطة، إذا حالف الحظ أحدنا ونجح في التحليق بعيداً، أصبح حذراً من فقدان جناحيه، حذراً لدرجة أنه يخاف ذكر إسم أحدهم في مجلس عام، فيكتفي بسرد الحكايات عنه ويبقى الاسم مجهولاً كي يصدقوها... هو افتراء الجغرافيا على التاريخ.. هو سوء الفهم لحكايات لم تُحكَ. وسوء التقدير لحكايات أسرفنا في فهمها من دون أن نعرف أبطالها الأصليين. هو تجاهل نبش الحقائق ولو بعد حين، والإصرار على إبقاء الحال كما هو عليه. هو تقديس الموروث، وتشويه سمعة الرمز الذي نتبعه قبل "الخصم"، والإنطباع الخاطئ للمُتداوَل بيننا عبر مئات السنين.

هو الانشغال بتعداد الفوارق بين أميرَين، والإنحياز لفكرة الأمير الواحد، والتشبث بهوية حصر الحقيقة في حكايات اللون الواحد والجهة الوحيدة، ونكران حقائق أخرى تفرض وجودها، وإن استساغ البعض تجاهلها. حقائق أبطالها علي وعمر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها