الأربعاء 2022/08/31

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

عواقب الصراحة

الأربعاء 2022/08/31
عواقب الصراحة
increase حجم الخط decrease
يستعرض ميشال فوكو في كتابه "حكم الذات وحكم الآخرين"، تاريخ الصراحة في أنظمة الحكم بمجملها، في الحقبات السابقة الموغلة في القِدَم أو الحديثة، مقدارها وعمقها ومتى تكون حياة الذي يصارح رأس السلطة برأيه مضمونة جراء هذه الصراحة، ومتى تكون مجازفة خطرة عند تجاوز الحدود التي يحددها رأس السلطة.

الكاتب يحيط بذلك كله على إمتداد صفحات طويلة، إلا أننا نلاحظ أنه لم يُحدثنا عن عواقب الصراحة لدى عامة الشعب، الذين يتكتلون في القرى والمدن والأحياء السكنية التي وصف رولان بارت تشكُلاتها بأنها نوع من نادٍ إجتماعي يحمي نفسه بنفسه عند دخول أي عنصر غريب يحاول تهديد هذه اللُحمة أو التفاهمات المطبقة، عبر محاولته العيش وفقاً لأطباع خاصة غريبة عما كرَّسته التفاهمات التي ذكرناها، أو أن يُبدي رأياً ينقُد فيه العادات والتقاليد التي أقاموها في أحيائهم ومُدنِهم أو قراهم، أو أن تبدُر منه محاولة لهدم هذه التفاهمات والتقاليد... إذ سرعان ما يتهافت السكان لطرد هذا الدخيل غير المرغوب فيه، والذي يشكل خطراً داهماً على أي نادٍ إجتماعي تصادفه مثل هكذا حالات...

وهنا، تتعدّد طُرق وأساليب الطَرد، تبعاً لكل حالة مُميزة عن الأخرى. من التهديد المباشر لحياته ووجوده، إلى محاولات حثيثة لتنغيص حياته، ليكون قرار هجرة الحي أو النادي الإجتماعي تحصيل الحاصل. فيلعب الجميع، وهم على وفاق تام حيال الخطط الواجب اتباعها، يقفون وقفة واحدة لا عودة فيها حتى ينالوا ما يبتغون، وهو ليس أقل من الطرد النهائي. 

يعتبر مارسيل موس، الانتروبولوجي الفرنسي، أن بعض القبائل التي ما زال تشكُلها الإجتماعي على ما هو منذ البدء ولم يتغير فيها شيء، تتصرف بالطريقة ذاتها مع كل من يُصوَّر له إن في إمكانه خرق الناموس أو الشعائر لهذه القبيلة من دون إهتمام بالعقاب. إلا أن القبيلة بسُلطة مسؤوليها، تحمل هذا المُذنِب وتتركه وحده وسط الغابة ليتدبر شؤونه بنفسه، فيكون عُرضة للمخاطر القاتلة وسط الحيوانات المتوحشة، فهم لم يقتلوه إنما تركوا هذا الأمر للغابة لتفعل فعلها.

الملفت للنظر في هذا الأمر أنه، وقبل طرد الدخيل المشاكس، تتشكّل حالة إجتماعية حوله، مفادها أن الأفراد كلهم في القبيلة أو القرية أو المدينة أو الحي السكني، ولنرمز لها بصيغة النادي الإجتماعي، يعلمون مصير هذا الدخيل مسبقاً، إلا أن أحداً لا يخبره أو يحضنه، مخافة أن يُلحَق بالدخيل، لذلك تنطبق رواية "قصة موت معلن" لماركيز، في جانب منها، على هذا العقاب، حينما يصبح الجميع فيه مسؤولاً -حتى ولو بالصمت- عما يُعدّ للضحية من شرور.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب