الثلاثاء 2022/08/30

آخر تحديث: 13:10 (بيروت)

حزب الحرية وباب فيروز

الثلاثاء 2022/08/30
increase حجم الخط decrease
(*) استُقبلت "ناطورة المفاتيح" بحفاوة بالغة، عند عرضها في صيف 1972، وحظيت بعدد كبير من التحقيقات والمقالات الصحافية تناولت جوانب عديدة من هذا العمل الجماعي الذي ابتدعه الأخوان رحباني مع فيروز، وساهم فيه عدد كبير من العاملين في الحقل الفني.

احتفلت مجلّة "الحوادث" بهذا العمل، وخصّته بتحقيق من توقيع نبيل خوري حمل عنوان "حزب الحرية". استهلّ الكاتب كلامه بالحديث عن الحرية، ورأى أن هذه الحرية الذي يتغنّى بها العالم تعرّضت في العالم العربي لأكبر عملية اغتيال في التاريخ، غير ان لبنان وحده بقي واحة للحرية، "إليه يهرب الباحثون عن وطن يسمح لهم بالكلام، وإليه يلجأ الباحثون عن الحرية، وإليه يأتي المضطهدون من كل أرجاء العالم العربي. عشرات المحاولات جرت، وما زالت تجري، للحد من حريته، لتقليصها، لخنقها، تنجح حينا لفترة، ثم تعود الحرية لتنتصر. تنتصر لأن الناس هنا، كما في أوروبا، يحبون الحرية، يريدون الحرية، ويعتبرونها، أيضا كما أوروبا، الأصل والأساس".

رأى الصحافي نبيل خوري أن "ناطورة المفاتيح" تمثل هذه الحرية، ثمّ تساءل: "لماذا أصبحت الحرية حزب الرحابنة من خمس سنوات؟ هل هناك حرية بين هذا الحزب، حزب الحرية، وبين هزيمة الحرب في حزيران عام 1967؟ وبكلمة أوضح: هل تحوّل الرحابنة إلى أعضاء في حركة سياسية، وتخلّوا بذلك عن مسيرة حياتهم وهي الفن؟". بحسب الكاتب، منذ هذه الهزيمة، دارت كل أعمال الأخوين عاصي ومنصور "حول الحرية، ومقاومة الظلم، والتصدّي للديكتاتورية، والحكم الفردي"، "وكانت قمة هذه الأعمال، وآخرها، مغناة ناطورة المفاتيح". في هذه المسرحية برزت فيروز في دور زاد الخير في المقام الأول، وبعدها مباشرة برز أنطوان كرباج في دور الملك، كما برز كل من شارك واشترك في المغناة.

تحدّث نبيل خوري مطوّلا عن بروز عبد الحليم كركلا في الرقص، وبروز رفيق شرف في الديكور، ثم تحدّث عن صبري الشريف، المخرج "الذي جمع بهدوء عجيب جميع هذه العناصر من ممثلين وراقصين وديكور وإضاءة وموسيقى ليخرج المسرحية، واستطاع بمعرفة الخبير أن يحرّك هذه المجموعات البشرية ببراعة كبيرة، فكان العمل متكاملاً، منسجماً، يعكس تماماً ما أراده المؤلّفان". ختم الكاتب مقالته بالحديث عن هذين المؤلفين، وقال: "راهبا الفن اللذان قدّما حتى الآن عشرات الأعمال الموسيقية يستأهلان أكثر من تحية. منذ مطلع الخمسينات، وهما يقدّمان العمل تلو الآخر، بلا ملل، وحتما بلا كلل، يعيشان لفنهما، أو الأصح فنهما هو كل حياتهما. قالوا عنهما الكثير، موهوبان، خالقان، أصحاب مدرسة. لكنهما، في رأينا، أكثر من ذلك، انهما نقطة تحول كبيرة، في تاريخ الفن في لبنان والعالم العربي".

قال نبيل خوري إن الأخوين رحباني أدخلا السياسة، أو القصة السياسية، في المسرح الغنائي، وألّفا حزب الحرية، وهما زعيما هذا الحزب الذي "أصبح له من الأعضاء حتماً أكثر من أي حزب سياسي في لبنان"، وهما زعيما هذا الحزب، وفيروز هي الناطق الرسمي له، أما صبري الشريف، فهو فيه عضو القيادة القومية المنتدب.

مختبر جماعي
في المقابل، واكبت صحيفة "النهار" ميلاد "ناطورة المفاتيح" في بعلبك، وتطرّقت إلى جوانب عديدة فيه. تحدّث نزيه خاطر عن دور "الفنان الطليعي" رفيق شرف في تصميم الديكور، ونقل عنه قوله بأنه "تشاور مطولا مع الرحبانيين، رغبة منه في تفهّم مناخ احتفالهما، كما أنه تشاور مطوّلا مع مصمّم الأزياء جان بيار دوليفر لمعرفة الألوان الرئيسية مع الأزياء، ليلمس في قصة الرحبانيين عنصراً سوريالياً محرّكاً. رأى الناقد التشكيلي أن الديكور هو بمثابة "عنصر جديد يُضاف إلى سلسلة عناصر تتشكل منها الأعمال الرحبانية"، كما ان "جميع العاملين مع الأخوين رحباني هذه المرة"، من مصمّم الأزياء، إلى مصمّم الديكور، إلى مصمّم الرقصات عبد الحليم كركلا، "يساهمون مساهمة جدية ونابعة من قناعتهم في العمل الرحباني الذي غدا مختبراً جماعيّاً". 

من جهة أخرى، تحدّثت الكاتبة لور غريب عن الدور المهم الذي بات جان بيار دوليفر يلعبه في هذا المختبر، مستعيدة تاريخ فيروز مع الأزياء على مدى خمس عشرة سنة. في هذا السياق، نشرت "النهار" مقالة من توقيع "أ" أشار فيها صاحبها إلى أهمية "دخول الرقص التعبيري وتخفيف الدبكة" بفضل فرقة كركلا التي "ملأت النقص الذي كانت تشكو منه الأعمال الرحبانية". ويبدو أن "أ" هو قطعا أنسي الحاج، كما يتضح من قوله في تمجيد فيروز: "كلّ لحظة نقضيها في بعلبك بعيداً عن صوتها هي لحظة ضائعة"، "نستحقّها أو لا نستحقّها هذه هي المسألة".

تتواصل هذه الاحتفالية من "الحوادث" إلى "النهار" إلى "ملحق الأنوار" حيث تطالعنا مقالة يقول صاحبها في الختام: "بعد فيروز، عبد الحليم كركلا، جان بيار دوليفير، وديكور رفيق شرف النابع من مخيّلة فنية أسطورية. أمّا عبد الحليم كركلا، وفرقة الرقص، فنتجرّأ أن نقول، إنه مع هذا الفنان سينتقل فولكلورنا من بدائية إيقاعه المحبّبة المبسّطة، إلى تقنيّة فنيّة شرقيّة عصريّة حديثة تعبيريّة، يضيف إليها جان بيار دوليفير خط اللباس المتآخي لوناً وتفصيلاً وإيحاءً مع النهج الفني والخط المسيطر على كليّة العمل. ان "ناطورة المفاتيح" قيثارة عزفت عليها وشدّت أوتارها طاقات فنية متكاملة، متجانسة الخلق والابداع يكلّلها حنين صوت فيروز وتوقنا معها للتساؤل: وينن".

يجدر القول هنا إن اسم عبد الحليم كركلا لمع في "ناطورة المفاتيح" حيث امتدح الكل من دون استثناء "رقصة المساجين" التي تحوّل اسمها الرسمي سريعا إلى "رقصة الحرية". في مطلع آب، إثر انتهاء عروض المسرحية في بعلبك، أقام "نادي الشبيبة" حفلا تكريميا لفرقة كركلا حضره نواب بعلبك، كما حضره عاصي ومنصور وصبري الشريف، وفيه ألقى سعيد عقل خطاباً في المناسبة.

سوريون يحبون فيروز "على العمياني"
في نهاية شهر آب، انتقلت "ناطورة المفاتيح" إلى دمشق حيث قُدّمت على مدى ست عشرة ليلة. رافقت الصحافة اللبنانية هذه العروض، وتحدّثت، كالعادة، عن ولَه السوريين العجيب بفيروز. عند تقديم "جبال الصوان" في بعلبك سنة 1969، كتب جان شاهين مقالة ذكر فيها أن الأديب السورية كوليت خوري قالت له: "غدًا عندما تذهب جبال الصوان إلى معرض دمشق الدولي، سنصفّق لها أكثر منكم"، فردّ عليها: "ربما لأنكم تحبون فيروز على العمياني ودون أي جدل". في صيف 1970، قدّمت مسرحية "صح النوم" على خشبة معرض دمشق الدولي، وحضر سمير نصري إحدى هذه الأمسيات، وكتب في "النهار" مقالة تحدّث فيها عن "مدى عبادة الجمهور السوري لسيدة الغناء اللبناني". رأى الكاتب "نساء يفركن ايديهن من شدة التصفيق، ورجالا تدمع أعينهن عند سماع أغنية"، وقال "ان حرارة التصفيق والصراخ والحماسة مع كل جملة تنشدها فيروز من دمشق تساوي مجموع علامات الاعجاب الذي يبوح بها جمهور مسرح البيكاديللي".

تابعت لور غريب "ناطورة المفاتيح" في دمشق، وكتبت في "النهار" مقالة قالت فيها ان "الجمهور السوري لا يهتم بالقصة ولا بالرقص ولا بالحوار ولا بالأزياء اهتمامه بفيروز، وكأنّه لا يريد سواها على المسرح، ويبقى يصفّق لها حتى يمنعها من مغادرة خشبته قبل أن تغني أغنيات إضافية من خارج سياق العمل المقدّم". كذلك، كتب جورج جرداق من دمشق مقالة نشرت في حلقتين في "الشبكة"، وفيها تحدّث عن فيروز التي "شاهدها وسمعها إخواننا في سوريا، وصفقوا لها ألف مرة أكثر مما صفق المؤرخون عندنا لأمجاد وبطولات المير بشير". وأضاف: "وقد رأيت بعيني إخواننا بدمشق وهم يحملون سيارة فيروز على باب المسرح الذي سمّوه باب فيروز. هذه الفيروز هي نعمة الله على لبنان وسوريا والعرب جميعاً".

(*) بعد القسم الأول، هنا القسم الثاني والأخير من مقالة عن الذكرى الخمسين لمسرحية "ناطورة المفاتيح".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها