الإثنين 2022/08/29

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

أنطوان كبابه يدعونا لمتابعة "المشهد الأخير" لصالات السينما اللبنانية

الإثنين 2022/08/29
increase حجم الخط decrease
لم يكن البحث سهلاً، لكن الرحلة الطويلة التي قام بها أنطوان كبابه في مختلف المناطق اللبنانيّة، كانت التعبير الأقسى عن قصّة افتتانه بالفن السابع، هذه السلوى التي نتعزى بها نحن الذين لم يبق لنا الكثير ليُعزّينا. فإذا بالكتاب – الحدث الذي صدر أخيراً عن دار الفرات للنشر والتوزيع بعنوان، "المشهد الأخير"، يتحوّل بصفحاته التي تتعدّى الـ400، ثمرة هذا الولع الجنوني بالسينما وكل الوعود الجميلة الزاهية التي تُقدمها الأفلام هديّة لهشاشتنا.

لم يتردد أنطوان كبابه في التجوال في مختلف المناطق اللبنانيّة، بحثاً عن صالات السينما التي يُشبّهها بكنوز أمتعت العالم "وثقفته وسلّته منذ بداية القرن العشرين". ماذا حصل لها في الطريق؟ ماذا بقي من تاريخ لم تكتبه بعد وآخر مرّت عليه الخيبات وعرّته من وقاره؟ هل من مكان في هذا الزمن "السوريالي" الذي نعيشه كقدرنا لهؤلاء النجوم المجانين الذين يفيضون بالرهافة، وكأنهم الوهم الباقي في صندوق الأمل الذي نخفيه في العليّة؟

وضع أنطوان كبابه نفسه في تصرّف هذه المُغامرة التي استغرقت ما يُقارب الخمس سنوات، وأراد بأي ثمن أن يسترجع تاريخ دور السينما في 65 منطقة لبنانيّة منذ العام 1900. وكان ابن الجمّيزة يستعين بآلة تصوير صغيرة أو يتكّل على هاتفه الذكي ليُخلّد هذه الصالة أو ما تبقّى من تلك، هو الذي لم يملّ يوماً من التأرجح بين جنون أبطال الأفلام وزهو المسؤوليات وثقلها.

يروي كبابه لـ"المدن" في حديث معه في مقهى بيروتي لم تتمكّن منه حالات الزمان وتقلّباتها (بعد؟): "كنت أعرف كل سينمات بيروت. كنت أمشي إليها على قدميّ. وكان في ذهني أن الفن السابع محصور في ساحة البرج وجوارها، وكذلك في الحمرا. لكن حين علمت من باب الصدفة، أن في باب التبّانة، وهو حيّ شعبي من أحياء طرابلس، كانت توجد سينما تتسع لألف مُتفرّج...اشتعلت نار فضولي لأعرف المزيد، عندئذ بدأت مسيرتي... فمضيت أنقّب باحثاً عن كل الصالات في البلاد التي ذرعتها طولاً وعرضاً".  لم يزره الضجر، بل كانت الرحلة التي اقتحم أسوارها، مُتوهجة، محفوفة بالحكايات.

فعندما وصل إلى بلدة شكا الشماليّة، على سبيل المثال، فوجئ بصمود إحدى صالات السينما العتيقة، وراح يلتقط بعض الصور عندما اقتربت منه سيّدة هاتفة، "ماذا تُصوّر على وجه التحديد؟". يُعلّق ضاحكاً، "اعتدتُ تقديم الجواب عينه لكل من يطرح علي هذا السؤال: أنا أعمل على مشروع جامعي أساعد من خلاله الطلاب! وما أن يسمعوا هذه الجملة حتى تفتح أمامي كل الأبواب. وهذه السيّدة قالت لي ذلك النهار في شكا: مفتاح الصالة معي، هل ترغب بزيارتها؟ وشعرتُ في تلك اللحظة وكأنني فزت بالجائزة الكبرى".

يحتوي الكتاب 800 صورة و110 رسماً توضيحياً ملوناً و75 مُلصقاً من 225 دار سينما، وباللغتين العربية والفرنسيّة.

أنطوان كبابه، هذا الطفل الكبير الذي يعيش قصة افتتان لم تنته فصولها بعد مع الفن السابع، شاهد أكثر من 2000 فيلم باللغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة، أضف إليها الأفلام المصريّة، وأنجز، هو الذي لا يُعير أمواج الفراغ أي إهتمام، شريطاً وثائقياً عن بيروت بين العامين 1900-1975. وبينما كان يجول على سينمات العاصمة، خطرت في باله فكرة تأليف هذا الكتاب إنطلاقاً من إصراره على ألا تذبل مواسم أيامه.

وإذا كانت المناطق البعيدة تحتاج إلى سيارة والكثير من الوقود ليزورها بحثاً عن تاريخ أراد بأي ثمن أن يعيشه مرتين، فإنه أصر على توسّل الدرّاجة الهوائيّة داخل العاصمة الخليلة. يروي ضاحكاً: "جلتُ في العاصمة متوسلاً الدراجة الهوائية. من صبرا إلى النهر وبرج حمود. وكانت الفرحة هي عينها كلما اكتشفتُ بعض الآثار من صالات السينما العتيقة".

وعن سينما "ركس" في البرج، يروي، "اكتشفتُ صورة هذه السينما في شريط وثائقي عن إستعراض للجيش الفرنسي في لبنان، في ساحة البرج. فإلتقطت الصورة من الشاشة لأعيد رسمها تماماً. شهدت هذه السينما تاريخاً وحملت العديد من الأسماء".

أما سينما "التل العليا" فيقول عنها: "في أثناء بحثي عن دور السينما في طرابلس قابلتُ سائق سيارة أجرة مُسنّ ما زال يعمل، فقد ساعدني في البحث عن آثار الصالات. وفوجئت كثيراً حين اكتشفت أن في خمسينات القرن الماضي كان ثمة مقهى–مطعم يعرض في أمسيات الصيف أفلاماً في الهواء الطلق، بدءاً من الثامنة مساءً حتى الواحدة بعد منتصف الليل. وقد أقفل المحل مع بداية الحرب الأهلية. واليوم أعيد فتح المطعم لكن من دون سينما، فالزبائن يأتون من أجل المزّة، ولعب الورق، أو الطاولة، أو تدخين النارجيلة، لكن لا أفلام تُعرض".

وسينما "ايدين" في عاليه، "هي سينما تحتوي 500 مقعداً، يملكها جاك صالحة وكانت تُلقّب بسينما جيمس بوند ومشاهد العري. لطالما وضعت ما تيسر من المال جانباً لأشاهد الأفلام".

ويذكر جيداً أنه حينما كان صغيراً "كنت أشاهد أفلام الوسترن أيام الأحد. وكانت التذكرة الواحدة تُكلفني نصف ليرة. وكان يُسمح لنا نحن الأولاد أن نشاهد هذه الأفلام لأنها كانت خالية من مشاهد العري".

وكانت مسألة طبيعية، إذاً، أن يستفزه التاريخ ويدعوه مجدداً إلى فصوله الهادئة المحبوكة كضفائر الياسمين بجنون أبطال الأفلام الذين نتعلق بهم وكأنهم آخر ما تبقى لنا من حياة لم يعد بيننا وبينها الكثير من الأخذ والعطاء. وكأن لا هي راضية بنا ولا نحن راغبون بمشاهدها التي قتلت فينا الحلم. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها