لم تعد أفكار "الفيلسوف" الروسي، ألكسندر دوغين، صاحب "النظرية السياسة الرابعة" و"الجغرافيا السياسية"، والمدافع عن صعود "الحضارة الأوراسية" وعن عالم جديد متعدّد الأقطاب، تحتاج إلى تعريف أو تلخيص. فهي، إن لم ترد في بعض كتبه المترجمة إلى العربية، فقد وردت ملخصة في المقالات والعجالات التي نشرت في الصحف أو ومواقع الانترنت، وزاد انتشارها أولاً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وثانياً بعد اغتيال ابنته داريا دوغينا قبل أيام.
والسؤال: ما الذي يمثله دوغين "العقل المدبّر أو الملهم" لفلاديمير بوتين، كما يقال؟ هل يمكن أن تنشأ موجة فكرية تؤيد أفكاره على نحو ما حصل مع أفكار جان بول سارتر في الستينيات؟ ثمة من ينظر إلى دوغين باعتباره جزءاً من بروباغندا الحرب الدائرة في أوكرانيا، وحتى الحرب السورية تشكل جانباً من تنظيره الفاشي المعادي لليبرالية والديموقراطية والعولمة، وهو له تأثيره في النخبة في روسيا، فحتى الزعيم الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف كان مقرباً منه. ومع اغتيال ابنته، نُشرت بيانات وكُتبتْ فسبكات ومقالات، تبيّن جوانب من الدوغينية العربية. إذ دان مسؤول العلاقات العربية والدولية في "حزب الله"، عمار الموسوي، عملية اغتيال ابنة ألكسندر دوغين، داريا دوغينا، وقال: "يهمني أن أعبّر عن إدانتي لهذه الجريمة التي تشكل عملاً إرهابياً قذراً"، وقال "أنني أنتهز هذه المناسبة للتعبير عن تقديري الكبير للمكانة التي يتمتع بها دوغين والمواقف الشجاعة التي تحلىّ بها دفاعاً عن بلاده وشعبه"، وكذلك عن "القضايا المحقة والعادلة" بما فيها "القضية الفلسطينية والنضال المشروع في مواجهة الهيمنة الأميركية والإحتلال الصهيوني والإرهاب التكفيري"...
مَن يقرأ بيان الموسوي، يظن أن دوغين مجاهد في جبهات "حزب الله". فلنفترض أن عداء دوغين للغرب والليبرالية والديموقراطية يصنف في خانة "الرأي الفكري"، لكن هل التنظير للحرب هو "قضايا محقة وعادلة" كما زعم بيان "حزب الله"؟ ولا ينفصل بيان الموسوي عن تلاقي المصالح بين روسيا و"حزب الله"، وصناعة الحروب هنا وهناك تحت مسميات غريبة عجيبة. من دون شك، أعطى دوغين جانباً من اهتمامه للعلاقة الروسية الإيرانية في الحروب والنفوذ وتقاسم الأرباح.
تتطابق "أفكار" دوغين مع مواصفات وعناوين عريضة يحبّها "حزب الله"، ويبوح بها، وهي على صورته. وفي سياق مغاير، يحاول صاحب رواية "بابا سارتر"، الروائي العراقي علي بدر، أن يرسم صورة روائية للمُنظّر الروسي، فيكتب في فايسبوكه: "كنت التقيت بألكسندر دوغين في مكتبه في مكتبة عامة تقع في دير نوفوديفيتشي في موسكو، هو شخصية بسيطة ومرحة، أقرب إلى شخصية فنان منه إلى شخصية سياسي، له رأس كبيرة ولحية طويلة، يذكّر بالفلاسفة الروس في القرن التاسع عشر، يجيد التحدّث بسبع لغات بطلاقة، وله معرفة موسوعية بالتاريخ والأدب والسياسة، منذ سنوات أشرت هنا إلى أهمية قراءته". حتى الآن، تبدو الصورة الفيلسوف الفاشي، فيها شيء من التحبّب، شيء من الترويج لشخصيته بمعزل عن أفكاره وتوجهاته. لكن الصورة سرعان ما تتبدل وتتغيّر، فيكتب علي بدر في فايسبوكة ثانية: "بالنسبة للبوست السابق وترجمتي لكتاب ألكسندر دوغين "الأوراسية والخلاص من الغرب"، لا حاجة لي أن أقول أن أفكاري بعيدة كل البعد من أفكاره وهي معروضة في كل كتبي ورواياتي". ويستنج بدر بأن هناك نظامين يتنازعان المنطقة في غياب أي نظام إقليمي عربي، الأول هو "الشرق الأوسط الكبير" بقيادة الولايات المتحدة وبلغ ذروته في العام 2003 وتراجع كثيراً في الوقت الحالي، وبدأ يحلّ محله نظام إقليمي يدعى "الأوراسية" تقوده روسيا والصين وبدأ يزدهر في المنطقة، واعتبر أن ترجمة دوغين كانت مهمة ومفيدة أيضاً بالنسبة له لقراءة ثانية للعالم من طرف كان غريباً عن مساحته الفكرية، "دوغين ليس فقط هذا الشعبوي في الميديا، بالمناسبة إذا أردت أن تدمر شخصية أي كاتب ببساطة سلط عليه أضواء الميديا". ولم يذكر بدر، الدور الإيراني في النظام الأوراسي، وهو يستخلص صورة أخرى لدوغين، تتعدى شكله ولحيته كما حصل في المرة الأولى، فيقول "حين التقيته في مكتبه وجدته شحيحاً في الحديث عن تاريخه الفكري، ومهتماً جداً بالحديث السياسي وهذا خلافاً لكتبه".
ما يسميه علي بدر، النظام الشرق أوسطي الذي قادته أميركا، لم يترك وراءه غير الركام والخراب والمليشيات والتصدعات الاجتماعية والشتات. وكذا نظام الأوراسية، لم ينتج سوى المدن القتيلة والترانسفير، سواء من سوريا أو أوكرانيا. وعلى هذا، لم يتردد بعض الفسابكة السوريين في الشماتة بدوغين، فكتبوا: "آلاف البشر الذين قتلهم بوتين ليسوا سوى أرقام في عقل هذا الفيلسوف، والآن فقط سيجرّب شعور الآباء والأمهات الذين قُتل أبناؤهم أمام عيونهم". أما أحد الممانعين، فكتب: "هذه الجريمة تعبّر عن الوجه الحقيقي لأميركا ومن يتحالف معها".
ليس سهلاً فهم كيف يوالي الناس شخصاً أو مثقفاً، أو يخاصمونه. أحد متّهمي محمود درويش بالعمالة لاسرائيل والموساد بسبب علاقته بالشابة اليهودية ريتا أو تمار بن عامي، يكتب في فايسبوكه: "يا حيف.. قامت الدنيا ولن تقعد بعد الاعتداء على سلمان رشدي، ولم تهتز شعرة في شارب مثقف عربي، مع استهداف مفكر بحجم ألكسندر دوغين، باعتداء راحت ضحيته ابنته... هل قرأ هذا الممانع دوغين فعلاً؟ من دون شك أن بعض الكتبة يعتمدون في أفكارهم على عصبيات ومحاور اقليمية وتخوينات من هنا وهناك، وحتى وإن كان دوغين ضدهم فهم يؤيدونه... السؤال الآخر، هل دوغين ملهم المنظومة الروسية الجديدة فعلاً؟ أم أنه كاتب ملحق بها ومسوّق لها؟". وكتب عاطف معتمد: "من السذاجة الاعتقاد بأن دوغين هو الذي يرسم خطط بوتين، بوتين ومن معه قادرون على أن يرسموا خططاً لمئات من أمثال دوغين"، ويضيف: "يحظى دوغين بشهرة واسعة في الثقافة الشعبوية العربية لأنه يخاطب أولئك الذين عانوا من الأحادية الأميركية والتخريب والتدمير الذي قامت به أميركا في بلادنا، ويتمنون عودة روسيا قطباً دولياً كي تعيد توازن التفرد الأميركي في المنطقة (بعدما أصابهم القنوط من قيام بلادهم ونهضتها)".
صحيح أن لدوغين تأثيره الإيديولوجي في مسار الأمور والميديا، لكن بعض المشرقيين ينظرون إليه بشيء التقديس المبتذل... نارام سرجون، الذي عرف عن نفسه بأنه "كاتب ومحلل اجتماعي"، يقول إن "روسيا التي أنتجت الفلاسفة والأدب لا تتوقف عن إنتاج العقول الجبارة. ومنذ أن نهضت بعد كبوتها، وفيلسوفها ألكسندر دوغين يحقنها بالفلسفة والأفكار العظيمة". وهو "صار المفصل بين الخير والشر في عالم اليوم". و"الواضح أن هناك محاولة لاغتياله كي تنتصر فلسفة الحيوان في الغرب حيث الشهوة وحيث الانفلات من كل شيء إلا المال والمادة والجشع والدنيا والذهب". و"لم يُقتل دوغين، لكن محاولة اغتياله أشارت الى أن فلسفة الحيوان والليبرالية الرأسمالية الجشعة باتت تحس انها تقترب من لحظة حرجة مميتة". وإذا كانت الرأسمالية في صورتها الحربية، جشعة بامتياز، فهل صورة طائرات بوتين وهي تقصف المدن السورية والأوكرانية، تبدو خلاقة وترشح زيتاً وسلاماً بالنسبة للممانعين؟ كان كنعان مكية، أحد عرّابي الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003، صاحب المقولة الأشهر يوم بدأت الصواريخ الأميركية تدك بغداد، فقال: "لهذه القنابل وقع الموسيقى في أذني. إنها أشبه بأجراسٍ تُقرع للتحرير في بلد تحوّل إلى معسكر اعتقال هائل"... والأمر لا يختلف مع الممانعين أو المؤيدين لبوتين ودوغين.
لا شك في أنّ الأحداث والتحولات والحروب في العالم، غالباً ما تنتج منظّرين ومفاهيم ومصطلحات وسرديات، تتطور أو تتلاشي أو تتشعب، من "صِدام الحضارات" لصموئيل هنتنغتون، أو "الفوضى الخلاقة" لكونداليزا رايس، و"سياسة الخطوة – خطوة" لهنري كيسنجر، إلى "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما، و"نشر الديموقراطية لمواجهة الإرهاب" لبرنارد لويس. والآن، مع الحرب الروسية على أوكرانيا، لا بد من سردية سمّاها دوغين "النظرية الرابعة"، وجعل عمادها، كما يقول: "استقلال الأمم والحضارات عن الهيمنة الغربية، واختيار الطرق التي تناسبها في العيش". مَن يقرأ هذه العبارات، يحسب دوغين حمامة سلام، ومؤيداً لحق الشعوب في تقرير مصيرها. وفي الواقع، ينظّر دوغين في بعض كتبه، للغزوات وتقاسم الأرباح والوصول إلى المياه الدافئة في المحيطات والبحار. بالمختصر، ليس دوغين الروسي إلا الوجه الآخر للمنظّرين الأميركيين الذين أتحفونا بالفوضى الخلاقة وما نتج عن الفوضى الخلاقة، والديموقراطية وما نتج عن الديموقراطية...
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها