الخميس 2022/08/25

آخر تحديث: 13:00 (بيروت)

"شارع اللصوص": انتبهوا.. فالكوكب تحول إلى علبة مغلقة

الخميس 2022/08/25
"شارع اللصوص": انتبهوا.. فالكوكب تحول إلى علبة مغلقة
ماتياس إينار
increase حجم الخط decrease
تبدأ أحداث رواية "شارع اللصوص" لماتياس اينار(ترجمة ماري طوق، منشورات الجمل) في مدينة "طنجة" المغربية. 
بطلها شاب مغربي مراهق اسمه "لخضر". يهرب من عائلته ليعيش متشرداً بضع سنوات، ثم تحتضنه جماعة متشدّدة تتخذ من مقرها ستاراً لتأسيس تنظيمات جهادية. عمل لديها أمين مكتبة عدة شهور، ليجد فرصة عمل أخرى لدى مؤسسة فرنسية تهتم بالكتاب الرقمي، كونه يجيد الفرنسية بعض الشيء، لافتتانه بقراءة الروايات البوليسية الفرنسية. ويجيد الاسبانية بنسبة أقل. يتعرّف على شابة إسبانية من برشلونة أضحت حبيبته لاحقا. يقوده تشرده، وحلمه بالوصول إلى أوروبا، عن طريق اسبانيا، لعبور البحر المتوسط مستقرا في مدينة "ألجزيراس" الإسبانية ومينائها على مضيق جبل طارق، بعد أن هجر صديق مراهقته الحميم بسّام الذي تحول لاحقا إلى إرهابي مرتبط بالقاعدة. 

يعيش لخضر في الميناء تجربة مذهلة عن حياة اللاجئين وجثثهم الطافية قرب السواحل، وذلك حين يلتقي بتاجر الجثث "مارسيليو كروز"، جامع جثث الغارقين في البحر، والذي يحتفظ بها في برادات لكي يتم شحنها إلى أهالي الضحايا في المغرب، والحصول على مبالغ خيالية من الدولة عن كل جثة يتم الخلاص منها. يجد المراهق الحائر نفسه في قلب عالم يغلي، لا يرحم التعساء والسذّج، وكانت شهوره المثيرة أكبر من وعيه الضيق. فثمة هامبورغ، ولندن، وسومطرة، وجزر الكناري، ومضائق تايوان، وموانئ روتردام، فسفن الشحن اختصرت المسافات بين القارات، وزاوجت بين حكايات الشعوب. لتنتهي حياة لخضر بعد مغامرة الهروب نحو الشمال سجينا في مدينة برشلونة، بعد أن سكن في حي من أحيائها يسمى "شارع اللصوص". وقد أخذت الرواية اسمها من هذا الشارع. 

وبرشلونة في رواية شارع اللصوص غيرها التي توسّع فيها كارلوس زافون، عبر عدد من رواياته سماها "مقبرة الكتب المنسية"، وحفر في طياتها منذ الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين. البيئة الاجتماعية تغيرت، والأسئلة الضاغطة مستجدة كل يوم. حتى أوروبا تعيش في حيرة التحولات والمخاطر. الاستقرار صار حلما بعيد المنال. ويقال الأمر نفسه أيضا مع مدينة طنجة المغربية، فهي تغاير تماما، بهمومها وتفاعلاتها اليومية وشخوصها، طنجة القادمة قبل عقود مع روايات وقصص محمد شكري الطنجاوي. أما زمن الأحداث في شارع اللصوص فهو بدايات الربيع العربي في تونس، ومصر، وسوريا، وليبيا، ومن ثم امتدادها إلى مقاطعة كاتلونيا الاسبانية، وصعود الإسلام السياسي، واغتيال ابن لادن، وموجة اللاجئين الرهيبة نحو أوربا. 

ماتياس إينار، كاتب الرواية، فرنسي ولد في العام 1972 في باريس، درس اللغة العربية واستقر عام 2000 في مدينة برشلونة. فاز بجائزة الغونكور العام 2015 عن روايته "بوصلة". روايته هذه "شارع اللصوص" رواية تخترق المكان والزمان بسهولة فائقة عرف بها ماتياس إينار في معظم أعماله. كان يمتلك حرية سردية هائلة للتوغل في دواخل شخصياته، سواء كانت شخصيات عادية أو مثقفة، وهو يخلق الجميع، ولديه القدرة على تقمص شخوصه حتى لو جلبهم من لغات، وأديان، وحضارات مختلفة. الأمر الذي يحتاج إلى معرفة بالبشر والمكان والتاريخ. ويمكن القول إن ماتياس إينار واحد من ممثلي تيار الرواية المعاصرة ما بعد الألفية الثانية، التي أسست لنمط جديد من الكتابة. نمط قد ينسجم مع التداخل الهائل للشعوب، وسرعة التنقل، والاحتكاك العميق لكل ما أنتجته البشرية منذ ظهور الانسان العاقل. 

معظم الموجة الجديدة من الروايات كتب في العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة، الانتقالات المكانية للأشخاص بسبب سهولة التنقل من خلال السياحة والهجرات والحروب، وقد استغرق ابن بطوطة المولود في طنجة المغربية ثلاثين سنة في رحلته حول العالم، بينما لا تستغرق الرحلة من أميركا إلى اليابان أكثر من يومين، ويقرأ البشر بثانية واحدة على وسائل التواصل الاجتماعي كل ما يستجد من أحداث، وكوارث، وفضائح على كوكب الأرض، في البحار والجزر والمدن والصحاري والغابات، بل حتى في الكواكب البعيدة. صار المرء يتريّق في بغداد ويتغدى في أمستردام، يتعشى في بيروت ويفطر في أوزبكستان، يتغدى في لندن ويتعشى في دلهي. وواحد مثل إينار ضليع باللغة العربية والفارسية والانكليزية والفرنسية لغته الأم، يعكس بعمق هذه الظاهرة العجيبة التي وصلتها البشرية. لا يستكشف فقط وجهها المشرق، بل يسبر غور مخازيها، ومآسيها، وآلامها، ومصادفاتها. 
يجد لخضر الذي تقمصه الكاتب، لأن الرواية مكتوبة بضمير الأنا، ورغم أنه قادم من خلفية دينية اسلامية، يجد نفسه في عالم العاهرات، والبحارة، والسفن، والمحيطات، والمخدرات، والقتلة، والارهابيين، وفي ضجيج الثورات العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. تلك القدرة على تقمص الآخر، وسبر خلفيته الدينية والفكرية لا يتم بسهولة، بل يتطلب الإلمام بحقول معرفية متعددة، اللغات، السياسة، التاريخ، المتابعة العالمية لما يجري في قارات الأرض، ومعرفة الأديان ومذاهبها وتحولاتها وتطبيقاتها في المجتمعات، وانعكاس كل ذلك على البسطاء من البشر. المدينة الثابتة، الآيديولوجيات الصلدة، الرعب، الحدث في المكان المعروف، حوارات بلغة واحدة، كل ما دأبت عليه روايات معروفة لدى ديستويفسكي، وكافكا، ونجيب محفوظ، وفؤاد التكرلي، وحنا مينة، وابراهيم الكوني، وماركيز، وكونديرا، وشتاينبك، همنغواي وغائب طعمة فرمان، وعبد الرحمن منيف، وسواهم غربا وشرقا، تجاوزته الرؤية السردية الجديدة، كما يتجه نحوها ماتياس إينار وأمثاله. 

لم تعد هناك مدن معزولة، ولا شخصيات ساكنة، ولا لغة واحدة، ولا حدود جغرافية واضحة. أتت على كل ذلك الحروب، والهجرات، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعالم الافتراضي، والعالم الرقمي المهول الذي يستطيع نقل رسالة أو مبلغ من المال من طرف الأرض الشرقي إلى طرفها الغربي بثواني معدودات. 

هذا ما يريد إيصاله لنا هذا الروائي الفرنسي المتغرب عن بلده. 
نعم، بالتأكيد، يواجه العالم أسئلة وجودية لم يعد تجاهلها أو الهروب منها ممكنا: التلوث الشامل لكوكب الأرض، التصحر، الهجرات المليونية بسبب الحروب والفقر. العدوانية المنفلتة الناجمة من قلق بشري يلف الشعوب كلها. التطرف. العنصرية. الجشع لدى شركات السلاح. مغامرة العلم غير المحسوبة. ارتفاع درجات الحرارة في سابقة لم يشهدها الكوكب، ثم الاهتزاز الشامل للقيم الانسانية. وكل ذلك بحاجة إلى التعبير عنه، واستحضاره كتابيا، وبصريا، أمام الوعي. 

الرواية اليوم تعتبر واحدة من أهم وأعمق الوسائل من بين حقول التعبير الفنية في صياغة وعي جديد. وعي يجيب على تلك الأسئلة الوجودية في لحظة مفصلية تواجه الحضارة الانسانية على هذا الكوكب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها