الإثنين 2022/08/22

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

ماذا تُريد دار الليبرالية الجديدة من السوريين؟

الإثنين 2022/08/22
ماذا تُريد دار الليبرالية الجديدة من السوريين؟
نبيل فياض
increase حجم الخط decrease
قبل أعوام قليلة، أنشأ الباحث السوري جورج برشيني ومن خلفه نبيل فياض(رحل بالأمس) دار نشر للمطبوعات (الليبرالية الجديدة)، تبنّت مصطلحات "عقلاني، معرفي، تنويري" التي يُضيفها جورج دوماً إلى كتب الدار، وبينها كتب لمؤلفين عرب وترجمات لمؤلفين أجانب. تميل الكتب في مجملها لحالة نقدية جهوية، تأخذ منحى واحداً لنقد الموروث الديني الإسلامي، أو كُتب علمية ذات اتجاه الحادي، تنتقد فكرة الإيمان والأديان وتُبرز تناقضاتها.

ليس هذا بجديد، لكن المعنى الذي يحاول برشيني وفياض توكيده يبدو مفرطاً في مغالطاته، لا بل وبسذاجته أيضاً. علماني جهادي. في الصفحات الاجتماعية، تُقدم كتب الدار وتُحرر بما يُشبه الإعلان بجملٍ مكررة، تدور كُلها في فلك حماية العقل وتنويره، والحرص على مهاجمة ونكز أي فكر ديني واصماً إياه بالداعشية والانغلاق والعنف والقتل. وبرشيني، ما أن يُقدم مُعلمه نبيل فياض (حسب وصفه للأستاذ نبيل)، يتخلى عن كل منتجه السلوكي العلماني الليبرالي، ليقدس فياض ويعطيه صفات ألوهية ونبوية ورهبانية وثقافية في آن واحد. هذا المزيج من الصفات المُكتشفة في فياض، تنتهي بالقول بأنه أهم شخصية ثقافية في تاريخ سوريا.[1] هل هذا حقيقي؟ مغالطة الالتباس في المصطلح والتوصيف لا يقع فيها برشيني فقط في وصف فياض، بل حتى في مصطلحات أخرى يرميها جزافاً على عيوننا وأسماعنا. العقلانية، التنوير، العلمانية، الإلحاد. توكيد إيديولوجي –مغالطة التأكيد- لا يملك أي معنى أو استدلال حقيقي لقيمة مشروعه في التأثير في السوريين أو أوضاعهم، أو حتى حاجتهم. وبالأصل كُل الكتب التي يتم نشرها لا تبتعد عن مئات الكتب التي نُشرت في كل موضوع تراثي إسلامي، أسماء عربية وسورية، خليل عبد الكريم، السيد القمني، جورج طرابيشي، صادق جلال العظم، ما لم نتحدث عن كبار الكُتاب التونسيين الذين امتلكوا جرأة هائلة في ترصد الموضوع التراثي نقدياً ومعرفياً.

افتراضات المشروع بذاته مثيرة للسخرية، البرشيني يحاول اقتناص دور فياض الذي لا يتمكن إلا من إثارة الفوبيا الجماعية، في أكثر من فيديو أو نص مكتوب عن كتاب قيد النشر، يُشير البرشيني للكتاب بوصفه ضرورة لإنارة العقل، أو كتأسيس للحرية في التفكير. ولا يخلو أسلوبه من تصعيد درامي يُشابه فياض، في أن عملهما وكتاباتهما نضال محموم ضد سلفية وانغلاقية دينية. ولا يُفيدنا الفياض أو البرشيني بالحديث عن أعداء أفكارهم إلا من منطلق داعش، النصرة،.. كأن مشاريع التنوير لم تملك صراعاً مع الكيانات السياسية الحاكمة. استبداد النظام لا يقتل، لكن النصرة والإسلاميين يقتلون. محاولة مغالطة التوكيد اتجاه الإسلاميين وحدهم رخيصة، لجعل كل عنف في الأرض تراثياً إسلامياً. الوصفة الأفضل، كتب جورج برشيني ونبيل فياض، وكأن مشكلتنا السورية في نوع الكُتب التي تُطبع وتُنشر، وليست مشكلة المستقبلين للكتب وطبيعة النظام الاجتماعية والسياسية التي سوقت لسوريا راكدة خلال خمسين عام. ما يثير السخرية مغالطة التوكيد، إعادة الكلمات التي عممها الفياض "الإسلام، العنف، تاريخ القتل والتبرير الكهنوتي له".

يعيش مشروع الدار، ونبيل فياض تحديداً، حالة من المغالطات المنطقية شديدة السذاجة والوضوح. كمغالطة رجل القش، أو مغالطة الحشود وهي أكثر الصيغ التي استخدمها فياض ويتبناها برشيني بما يتخيله بأنه ينهل من مدرسة فياض.

يُقيم الفياض كل فرضياته لنقد الدين على أمثلة سورية ويقيسها على أعوام الإسلام الأولى، ولا يهدف من هذا نقداً معرفياً كباحث ظواهري، بل يحولها لمغالطة إيديولوجية لاستهداف المعارضة السورية، بوصفها عنفاً ولا شيء سوى العنف الآتي من الخلفية الدينية، ولا يتفهم أهم مثقف سوري أي حالة معارضة للنظام لأن المُجتمع مُجرم متدين وقاس وعنيف، المجتمع السُني تحديداً، ومعيار أمثلته  "قتل العلويين، العجوز العلوي الذي قُتل، الريف العلوي، الجندي السوري".. كل أمثلته تبدأ بقتل طائفي سُني لجماعة النظام، أو الجماعة المدنية أينما وُجدت. مغالطة رجل القش، هي أن تستحوذ على أكثر النقط ضعفاً لاستهداف جماعة أو شخص، ومغالطة الحشود بدفع جمهور النظام نحو تلاعب عاطفي بأكثر الأمثلة قسوة.

وامتلك "أهم مثقف سوري" جرأة مُتاحة من أجهزة النظام السوري، التي اعتلى منابرها عبر الراديو، للحديث عن الموروث بطريقة لا تخلو من العلمية البحثية، لكنها لم تأتِ بأي جديد يُضاف لمئات الكُتب التي قرأناها. كل هذا أثناء إحدى أكبر العمليات العسكرية التي يُمكن وصفها بالوحشية على المناطق السورية.

أما البرشيني فيعود علينا بحكايات الصالونات الثقافية التي افتتحوها في دمشق، وكأنها الصالونات اللندنية أو الباريسية التي تحدث عنها هابرماس بوصفها دائرة من التنوير. الفارق بين صالون الفياض وحزبهم الليبرالي، وأي صالون تنويري للمثقفين في الأرض، بأن السؤال الأول يكون للحريات، وعن دور المجتمع بفك أي سلطة ارغامية يفرضها النظام السياسي، أو المجتمع نحو تقدمه في الوجود والاستقلال عن سيطرة السلطة السياسية. أما تفكيك الخطاب الديني فهو لن يؤثر أبداً في أي مجرى اجتماعي سوري، ولم يعد بعد اليوم يخدم النظام حتى.

ما يظننا برشيني لا نعرفه أن نبيل فياض عاش على محاولات لنشر كتبه تحت كف المنظمة الأمنية، كُتبه التي حاول النظام السيطرة على نشرها وتوزيعها في التسعينيات اندمجت مع سلوكه غير الثقافي بالمطلق. وفياض، قبل استقالته من الصراعات مع المتدينين والطبقة الكهنوتية، حسب مقابلة له مع يوتيوبر تونسي، كان عصابياً شتاماً، أصحاب مكتبات الساحل ودمشق تشهد بذلك، وحتى مَعارض الكُتب التي كان يشتم فيها الملتحين ويتنمر عليهم. وكانت أحداث العام 2011 أفضل حالة له لينقل عصابه مع عنف النظام، والذي استعان بكل أفراده لتقييد الثورة وتنميطها. ونبيل فياض هو الرجل الأول في تاريخ النظام الذي طالَب بالكيماوي لضرب المعارضين، لا بل استكثره عليهم.[2]

ينطلق برشيني وفياض في رحلة هائلة من الترجمة والتأليف لكشف ما يبدو عنيفاً وغير عادل في التراث الإسلامي والتراث الديني عموماً، كإزاحة إيديولوجية رخيصة لجعلنا بُلهاء. فما الهدف التالي لجعل الإنسان السوري مُلحداً؟ أو جعله بلا إلهة وتراث؟ المعيار القيمي الأشد مطلباً للسوريين هو التمايز بين وجودهم كبشر يملكون قيماً، بعضها ديني بمعرفة ضمنية سلمية، يعيشون معها من دون أي مطلب أو إلحاح لتوكيدها، وبين وعيهم السياسي والاجتماعي لبناء سورية مختلفة. الإتاحة لهم من أجل ذلك. ورغم ادعاءات فياض بالمعرفة الهائلة بالتاريخ الديني المقارن، فإنه يحجب عن آرائه ما تعانيه المجتمعات العربية والسورية تحديداً، بانحلال الإله الديني القديم وطقوسه، بالحاكمية السياسية الحديثة. يُزعج الفياض قولاً للثورة السورية: "قائدنا للأبد سيدنا مُحمد" ولا تزعجه آلاف الشعارات التي يطلقها عبدة النظام لبشار الأسد. الراعي الأسدي تجاوز أي صيغة يُمكن الحديث عنها تخص آلهة أو دين أو شعار أو إيديولوجيا ذات منشأ ديني.

من دون دروس في المعرفة أو السوسيولوجيا،  كان كُل من نبيل وجورج يريدان تبني مشروعاً، وبصيغ توكيدية كاذبة أيضاً. يفوت نبيل وجورج الكثير من المعرفة في انتقال الديني إلى الوضعي بالطقوس والتبريرات ودرجات السماح نفسها. خلو عنف النظام من الديني ومن التراثي، لا يعني أنه لا يملك إيديولوجيا أقسى وأكثر إجراماً من أي تراث يُمكن الاعتماد عليه لتبرير العنف. ورغم دور الدين في توكيد العنف وتبريره، إلا أنه ومنذ القرن العشرين كان للدولة ونظمها السياسية تنميط العنف، لا القارئ العادي المُحاصر بفقره، وحرمانه تحت طائلة الاعتقال والسجن، من أي فاعلية اجتماعية أو سياسية. 


[2] https://www.youtube.com/watch?v=zhbvV-iqH0c

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها