الأربعاء 2022/08/03

آخر تحديث: 14:34 (بيروت)

ماذا يقصد الممثل حين يتحدث عن التوبة؟

الأربعاء 2022/08/03
ماذا يقصد الممثل حين يتحدث عن التوبة؟
يقوم الممثلون بالدور نفسه للكهنة السحرة في المجتمعات القديمة
increase حجم الخط decrease
كتب ممثل شاب مؤخراً في صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي أنه "تاب إلى الله"، وأنه قرر أن يسير على "الصراط المستقيم"، وتلقى التبريكات من متابعي صفحاته. سبقه ممثل آخر، ربما أكثر منه حضوراً ونجومية بالتأكيد على القول إن "التوبة" حاضرة وأنه يفكر فيها كثيراً لكنه ينتظر "الوقت المناسب". سبقهما مطرب شاب أيضاً، ربما لم يسمع عنه أحد قبل "توبته"، وسبقتهم جميعاً ممثلة حائرة بين السفور والحجاب، بين ترك الفن والعودة إليه، بالتزامن مع زواجها من منتج وداعية سابق. اللافت في تصريحات أحدث التائبين، كانت تعليقاته السلبية المتكررة على تصرفات مجموعة أخرى من زملائه، مع تلميحات لا تفصل بينهم كأشخاص عاديين وبين أدوار درامية أدّوها! وكان قبلها قام بالأمر نفسه بشكل عكسي فتقمّص شخصياته الفنية في حياته العادية، ما تسبب في إطلاق موجة من السخرية، وصلت إلى حد وصفه بـ"الشهيد الحي" نسبة إلى أحد أدوراه الأخيرة.

هؤلاء مجرد أمثله حديثة فقط، فموجات الاعتزال والعودة والحجاب والاحتجاب، متكررة ودائمة، وتعودنا أن تكون بين النجوم الكبار بعد أن تنحسر عنهم الأضواء لسبب أو لآخر، أو حتى تأثراً بتيارات دينية في ما يشبه الموجات التي تعلو حيناً وتنحسر حيناً آخر. لكنها انتقلت مؤخراً للأجيال الأحدث، ومن لا يصرح منهم بالتوبة أو الاعتزال، يفرض أحياناً ما يكشف حيرته، فهذا يرفض التلامس وتلك ترفض التقبيل والمايوهات..إلخ، عين هنا وعين هناك، والأمثلة كثيرة، أكثر من قدرتنا على المتابعة والحصر، والحصر ليس الهدف بطبيعة الحال، إنما البحث في الفكرة نفسها، وهي وإن كانت لا تبتعد كثيراً من التأثر بموجات التديّن والضغط المجتمعي المصاحب لانتشار مواقع التواصل، إلا أنها تكشف أزمة هوية واضحة جداً، وتطرح أسئلة تستوجب البحث العميق في دوافع الفنان وما يقصده تحديداً بـ"التوبة": هل يتراجع عما اقترفه شخصياً ولا نعرفه، أم عما اقترفته شخصيات جسدها، أم ما اقترفه أصحاب المهنة نفسها والوسط بكامله، سواء شخصياً أو فنياً من خلال الشخصيات التي قدموها على الشاشات وفي المسارح؟ وإلى أي حد ترتبط تلك الدعوات بانسحاب الأضواء وابتعاد أو حتى إبعاد الفنان عن جماهيره؟

تطهّر
إجابات هذه الأسئلة تستوجب فهماً من الممثل نفسه، قبل أي شخص آخر، لحقيقة دوره وحقيقة ذاته بالأساس، ولا بأس من إعادة التأكيد على بعض البديهيات. فمن ضمن الأهداف الرئيسة لإعداد الممثل والتي يتم تجاهلها غالباً، أن تتاح له فرصة اكتشاف ذاته، ونفي اغترابه عنها، ومن التدريبات الشهيرة في دروس التمثيل تدريب التطهر، وفيه يمزق الممثل غشاءً وهمياً يحيط جسده بالكامل، ليزيل كل ما علق بذاته الحقيقية التي تتكشف تدريجياً. يتطهر الممثل من دنس وهمي ليساهم في تطهير الآخرين من دنس مؤكد.

وفقاً لعالم النفس والممثل، جلين ويلسون في كتابه "سيكولوجية فنون الأداء"، فإن الممثلين يقومون بالدور نفسه الذي كان يقوم به الكهنة السحرة في المجتمعات القديمة، "إنهم سحرة روحانيون يحولون العالم الأرضي الدنيوي إلى عالم آخر". لكنه يؤكد في الوقت نفسه على أنهم حتى يتمكنوا من القيام بهذا الدور، فعليهم أولاً فهم ذواتهم للوصول إلى المستويات العميقة الروحية والسيكولوجية داخل أنفسهم، وهو أمر شديد الصعوبة والتعقيد ويحتاج خبرات كبيرة ومواصفات معينة، حتى إنه ينتهي ببعضهم إلى العكس "الضياع بين ذواتهم الخاصة والعامة، ويطاردون حتى الموت بواسطة وسائل الإعلام، بحيث يصلون إلى حالة من التشوه الذاتي المبالغ فيه، والفادح أيضاً".

يفرد ويلسون فصلاً كاملاً في كتابه للحديث عن تشويه الهوية والتشوهات المحتملة التي يمكن أن تصيب الفنانين جراء الضغط المجتمعي، الذي يحصرهم في شكل محدّد، أو يتوقع منهم ردود أفعال معينة، إضافة إلى المتابعة المكثفة من وسائل الإعلام، والعكس أيضاً؛ انحسار هذا كله، وكلاهما قد يقودهم في النهاية إلى ردود أفعال متطرفة، فينهون حياتهم في حالة من الاضطراب الواضح، بسبب الضغوط الفريدة التي تفرض عليهم بحكم مهنتهم وأسلوب حياتهم. ورغم ذلك، يقول إن مشاكل الفنانين في المجمل لا تختلف كثيراً عن مشاكل أي شخص آخر، كل ما في الأمر أنه يُسلّط الضوء على تلك المشكلات بشكل أكبر.

وفقاً للكاتب والباحث صالح سعد في دراسته الفريدة "الأنا-الآخر.. ازدواجية الفن التمثيلي"، وهي واحدة من دراسات قليلة جداً بالعربية تتعمق في فكرة التمثيل والمفاهيم المتعدّدة للممثل وتحولاته، فإن غياب تعريف واضح جامع مانع للممثل، يؤكد صعوبة المهمة الملقاة على عاتقه، إلى حد أنه يسأل: "هل يعرفه أحد حقاً؟"، والأهم "هل يعرف هو نفسه حقيقة ذاته الغائمة بين هاتيك الذوات/الشخوص التي اعتاد ارتداء أزيائها، والنطق بألسنتها، وبكاء أحزانها، وضحك ضحكاتها؟". الممثل كما تقدمه الدراسة في حيرة دائمة، يقف على العتبة الفاصلة بين عالمين، يفتش لنفسه عن هوية، أو إجابة، تمنحه بعض الامتلاء في مواجهة القدر الغامض الذي يكابده الفن. لكن وبعد كثير من البحث تنحاز الدراسة لتعريف سارتر بأنه "لا أحد"، وهي مرتبة لا يصل إليها إلا أفضل الممثلين موهبة! "ذلك الكائن الذي لا يتوقف عن التحليل، والذي يمثل حياته نفسها، لا يتعرّف على ذاته، ولا يعرف من هو...". وهنا يتفق سعد مع ويلسون في أن تلك الحيرة الوجودية أيضاً كانت السبب الرئيس الذي دفع بالكثير من الفنانين إلى اعتزال الفن "بل والحياة نفسها، والدخول في حالات انفصال طوعي عن الوجود، وعن الماضي.. ماضيهم الفني بالذات!".

ضحية
دراسة صالح سعد التي ترى في الممثل ساحراً يلعب دور المغوي في حياتنا، تتساءل أيضاً في الوقت نفسه، لماذا لا يصبح هو نفسه ضحية الغواية، وهو المفتون بهذه اللعبة أو المضروب بها؟! إذ يرى البعض أن الفنانين أقرب الناس للهوس والجنون، ويرون في الرغبة التمثيلية لوثة، أو ضربة ما، تصيب بعض الناس وتدفعهم إلى التعري، أو عرض ذواتهم أمام الآخرين "ومن هنا كانت نظرة القدماء إلى الممثل بوصفه شخصاً ممسوساً لا ينبغي الاقتراب منه، أوليس الممثل هو ذلك الشخص المتحوّل بصورة فجائية صوتياً وحركياً والمفارق لطبيعته الذاتية مجسداً صورة، بل صوراً متعددة لأناس قد يكونون من الأموات الراحلين، أو قد لا يكونون موجودين إطلاقاً!". لكن حتى، وإن أقر الجمهور باختلاف الممثل، وإن أقروا له بالموهبة باعتباره مخلّصهم/مطهرهم، فإنهم لا يتورعون عن وصمه بالانحلال الخلقي "فإذا كان الجنون الفني ليس تهمة بصورة ما، بل يعتبر مديحاً أحياناً لدى شريحة كبيرة من أهل الفن، الذين يرونه صنو العبقرية! فإن الانحلال الأخلاقي هو التهمة التي يظل الفنان يدفعها عن نفسه طيلة حياته بلا جدوى، خصوصاً إذا كان يعيش في مجتمع تقليدي مرتبط بتراث ديني متشدّد أو حتى منضبط، ومما يزيد الطين بلّة هنا أن عامة الناس لا تسطيع بسهولة التفريق بين ما يقدمه الممثل على الشاشة، أو فوق المنصة، وبين ما هو عليه في الواقع".

وهي المشكلة التي لا تعفي الدراسة الفنان نفسه منها على اعتبار أن هذه "الظنون السلبية تنعكس في العقل العاجز عن إدراك الفاصل بين الصدق الفني والصدق الحياتي"، وأحياناً يكون هذا العقل راجعاً للفنان/المؤدي نفسه، إذ يصبح الممثل هنا كمن يضحي بنفسه في سبيل علاج المجتمع، لكن يتبقى شرط مهم لا يتحقق غالباً، وهو ضرورة الفصل بين الممثل والشخصيات التي يقدمها. يؤكد سعد أنه شاهد بنفسه التأثير الغامض للممثل في نوعية معينة من الجمهور، كانوا من سكان القرى البسطاء، الذين صودف أنهم يشاهدون العرض المسرحي الحي لأول مرة في حياتهم، ومن ثم تكررت مداخلاتهم في سياق العروض، بل وصل الأمر أحياناً إلى اعتدائهم على الممثلين الذين يؤدون شخوصاً سلبية لا تعجبهم. يقع الممثل هنا موقع الضحية، باعتباره الفاعل الذي يقترف –رمزياً- تلك الجرائم! وإن تراجع الأمر كثيراً الآن مع تطور وسائل العرض وانتشارها، إلا أن الأمر ما زال يخاتل البعض، المرسل والمتلقي على السواء.

أضلاع الاستبداد
من أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه الدراسة، والتي توضح إلى حد كبير السبب وراء دعوات الاعتزال أو التوبة المتكررة، أن الممثل نال دوماً الكثير من اللعنات المجتمعية عبر مراحل تاريخية مختلفة، وفي أماكن متفرقة من العالم، وربما عليه أن يقرّ رغماً عنه بأن اللعنة ستظل قرينة لهذه المهنة، وأنها ربما تكون الأزمة الحقيقية في منطقتنا، لأن الجزء الأكبر من انشغال الفنان العربي لا يتجه لتطوير نفسه أو بحث قضايا إبداعه الحقيقية، بل يرتبط بالدرجة الأولى بالتبرير ودفع الاتهامات المتتالية من جهات متعددة، "فقد يجد نفسه مضطراً للدفاع عن وجوده إزاء الاتهام بالتمرد والعصيان من جانب الرقابة السياسية، أو بالعهر والفساد الأخلاقي في ظل معايير أخلاقية معينة، أو بالمعصية والكفر أمام الرقابة الدينية".

وبالطبع ينهار كثر في الطريق، ولا يستطيعون الوقوف أمام هذا الضغط الهائل المتمثل في "الدولة-التقاليد-الدين" أضلاع الاستبداد الشرقي، حسب وصف الدراسة، الذي ظل عبر العصور حجر عثرة أمام التطلعات الفردية والديموقراطية التي لا غنى عنها لأي فن. وإذا أضفنا الثالوث إهمال تربية الممثل وفق مناهج تستوعب تكوينه الشخصي والثقافي، فمن الطبيعي أن يأتي يوم ويلتبس عليه الأمر فلا يكاد يدرك الفارق بين الحقيقة والوهم التمثيلي "فينسحب إلى عالم النسيان، طالباً التوبة عما اقترفه (هو وليس الشخوص المسرحية!) أو يستمر نموذجاً مكرراً للقوالب المدرسية الجامدة".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها