الثلاثاء 2022/08/02

آخر تحديث: 19:22 (بيروت)

أهراءات بيروت ليست قبّة هيروشيما

الثلاثاء 2022/08/02
أهراءات بيروت ليست قبّة هيروشيما
استمر حريق الأهراءات أكثر من أسبوعين من دون تحرك جدّي لإنقاذها من الانهيار.. ما يثير الشبهات (غيتي)
increase حجم الخط decrease
... وتتهاوى أهراءات مرفأ بيروت بفعل حريق دام أكثر من أسبوعين، من دون تحرك جدّي لإخماده، وتزامناً مع الذكرى السنوية الثانية لتفجيره. وأيضاً، بعد أيام على الجلسة التشريعية الأخيرة حيث نال اقتراح قانون حماية الأهراءات أصوات الأكثرية، لكن الجلسة رفعت وأسقط الاقتراح من دون أي مسوّغ قانوني، بعد شهور من ترويج الحكومة لهدم الأهراءات رغم دراسات ذات مصداقية أكدت إمكانية تدعيمها وترميمها.


المجتمع المدني وأهالي الضحايا يتحركون بحملات وتصاريح، يتألمون لفقدان شاهد على الجريمة. جريمة الطبقة السياسية والفساد والإهمال بحق مدينة طار ثلثها في الانفجار، فقتل المئات وجرح الآلاف وشرّد مئات الآلاف، إضافة إلى خسائر مالية واقتصادية جسيمة وتصدّعات في مبانٍ باتت آيلة للسقوط، أي أصبحت مشاريع كوارث جديدة وهي التي ما زالت مأهولة بالسكان. أهالي الضحايا، وقسم كبير من اللبنانيين، يطالبون منذ عامين بالإبقاء على الأهراءات معلَماً لذاكرة جماعية، وشاهداً على مأساة ما زالت تتفاعل حتى اللحظة، بضحايا معلّقين بين الحياة والموت وآخرين أصيبوا بإعاقات دائمة وغيرهم ممن تستمر معاناته الاقتصادية المضافة إلى أزمة البلد ككل.

لكن، لماذا، حقيقةً؟ أي مركّب نفسي وجذري يقف خلف الإصرار على تدعيم وترميم الأهراءات؟ هل هو فقط التمسك بالرمزية؟ التعويض المعنوي بإبقاء الذاكرة هذه قائمة؟ الأرجح أن ثمة ما هو أكثر وأعمق من ذلك...

المطلب اللبناني بالحفاظ على الأهراءات كنصب ذاكرة، يتجاوز التشبّه الصُّوَري بأوروبا التي أبقت على العديد من شواهد جرائم النازية وبطشها ومآسي الحربين العالميتين، أو باليابان التي حافظت على قبّة غنباكو في هيروشيما كشاهد على كارثة ضَربِها بقنبلة نووية بل سمَّتها بالمضاد، "قبّة السلام"، لتصبح مَحجّاً سياحياً-تاريخياً وأيقونة ضمير عالمي.

هذا الذي يراه البعض، في السياق اللبناني، ترفاً، بحجّة الحاجة إلى نهوض تشغيلي بمرفق المرفأ واستثماره ليدرّ العائدات على بلد مُفلس ومنهار، ليس كذلك البتة. فالشواهد الأوروبية واليابانية، على سبيل المثال لا الحصر، كانت جزءاً من رزمة إجراءات وأفعال تعاملت مع الجروح بعيداً من الإنكار والتسويف والطمر. فأجريت مراجعات، ومحاكمات فعلية ومعنوية وأخلاقية وحتى فنية وفلسفية وأدبية. لسنوات عديدة، توالت الاعترافات والاعتذارات، وتساقطت إيديولوجيات، وتغيرت وجوه دول وأنظمة، وتبدّلت أدوار تاريخية حوال العالم. جرت محاسبة، بكل الأشكال الممكنة، وتم التنويه بالضحايا والتعويض عليهم بطرق عديدة، معنوية ومادية. تلك الأحداث المزلزلة، في مواقع كثيرة حول العالم، بدت سرديات تأسيسية جديدة، مفصلية، ما بعدها ليس كما قبلها، في القانون والوعي والثقافة. والأهم أنها بلغت خواتيمها القانونية والأخلاقية، لتستقر أخيراً على الذاكرة كوظيفة لأنصابها... صِيَغ مُتحفية لأرشيف، يبقى حياً كأرشيف، وكتاريخ يُستدخل في المناهج المدرسية والأكاديميا، لا كقضايا معلّقة وجروح مفتوحة ما زالت تنزف كما هو الحال في ملف مرفأ بيروت.

انفجار مرفأ بيروت ما زال حياً كقضية، لا كذكرى استُخلصت منها الدروس. القضاء لم يتجاوز المراحل الأولى من التحقيق. ومتهمون ومسؤولون كثر، ما زالوا بعيدين من الاستدعاء، ولو فقط للتحقيق قبل أن نقول للمحاكمة. وآخرون تم استدعاؤهم وكسروا القانون وهيبة القضاء برفضهم الوقح، ولم تؤثر فيهم صفتهم المُستحَقّة كفارّين من العدالة... بل ترشحوا ونجحوا في الانتخابات الأخيرة، وباتوا "نواب الأمة" و"مشرّعيها". هكذا، تكتسب أهراءات بيروت معنى إضافياً، ليس فقط كرمز وذاكرة، بل أيضاً كأداة عينية للضغط والتذكير، محلياً ودولياً، بمطلب العدالة لضحايا انفجار المرفأ، ولمدينة بيروت، بل وللحق العام كَون المرفأ مرفقاً عاماً ملك الشعب، وللدولة كمؤسسة وطنية دون المافيا السياسية والإدارية المهيمنة على مفاصلها منذ عقود والتي أدت إلى انهيارها الشامل.

وحتى لو سلّمنا بمقولة "الحيّ أبقى من الميت"، وأعطينا فرصة لخطاب الاكتفاء بنُصُب جانبي صغير أو تمثال يخلّد الذكرى، لنتفرّغ لإعادة إعمار المرفأ واجتذاب الاستثمارات. فثمة مرتبة ثانية، بعد الثقة المفقودة في جدوى القضاء المحلي المُحاصَر بالضغوط السياسية وألاعيب حُواة القوانين (كفّ يد، وكفّ كفّ اليد، وردّ على الردّ...)، وشياطين الطوائف، والتهديدات الأمنية الواضحة والصريحة منذ زيارة "الحاج" وفيق صفا إلى قصر العدل.. هنا طبقة أخرى من شكّ وتوجّس مُبرَّرَين جداً.

صحيح أن المرفأ ما عاد "مسرح الجريمة" بالمعنى الجنائي، إذ يصعب أن يبقى مختزناً لأي أدلة ذات قيمة بعد عامين على الانفجار وتنظيف الموقع و"تدنيسه" بدخلاء وموظفين وآليات. لكنه يبقى "مشهد الجريمة"، الدليل البصري على حدوثها، ولمَن يُسلَّم؟ للطبقة ذاتها مُعرقِلة التحقيق؟ للمسؤولين أنفسهم الذين نهبوا وأفقروا وتسببوا في الأزمة الاقتصادية الراهنة؟... كيف؟! لا ثقة لدى اللبنانيين عموماً، والضحايا وأهلهم خصوصاً، في استثمارات غير مشوبة بصفقات وتلزيمات مشبوهة وعمولات. بل يشعرون أنهم على أعتاب فصل جديد من فصول التعديات على الأملاك العامة البحرية، وبشكل أكثر فداحة ودموية وخزياً.

وبموازاة هذا كله.. ما زلنا، في جدليات الموضوع، نتعثر بالإيديولوجيا، تماماً مثل الكباش السياسي-الطائفي. فمرجع متمرّس ومُطوّب في العمارة وثقافتها وارتباطها بالمدينة وناسها، من مصاف رهيف فياض، يقول في مقابلة مع جريدة "الأخبار" أنه ضد أن نسمح لبشاعة الأهراءات أن تكون هي ما يذكرنا بهول الجريمة، بل زيارة الأحياء المجاورة التي أصيبت في 4 آب بالقتل. ويقول أنه لا بد من إعادة إعمار المرفأ لأسباب جمالية ووظيفية، لأن الأهراءات هكذا تسيء إلى صورة المدينة وحسن استخدام المساحة(!). في حين أنه، من المقولات القديمة للمعمار اليساري، الذي لطالما كتب وتحدث من موقع المعارض لمشروع رفيق الحريري السياسي-المديني-الاقتصادي ولشركة "سوليدير" في وسط بيروت، أن المدينة ليست أبنية وجسوراً هندسية، بل "جماعات تتلاقى في أمكنة ومجالات عامة، تتفاعل في ما بينها من أجل الدفاع عن مصالح مشتركة". وكان يصر على أن شركة سوليدير "محت الساحات والأسواق ولغتها من الثقافة ومن الذاكرة. استبدلتها بأبراج لا نعرف ساكنيها، وقتلت المجال العام، وطردت الفقراء وحولت بيروت الى مدينة للأغنياء"، و"أهملت القيمة التاريخية لوسط بيروت واستبدلتها بالقيمة التجارية لأسباب واضحة نعيش نتائجها اليوم". وبين الأمس واليوم، تناقضات فادحة.

وقد ذكّر فياض، في الحوار الأخير معه، بمطلب إبقاء مبنى مهدم، بعد حرب تموز 2006، للتذكير بالعدوان الإسرائيلي، وكيف أنه آنذاك كتب "ابنوا وقاوموا ولا تتركوا فضلات تسيء إلى جمال الأمكنة من دون جدوى". لكنه ربما نسي أن سردية حرب تموز وخطابها، ضحاياها وخرابها وخسائرها، لم تُصَب باليُتم، ّبل تبنّتها السلطة، والخطاب السائد في المجتمع، وأحزاب نافذة في الحياة العامة اللبنانية وطوائف مهيمنة. وبالتالي، فإن أنصاباً تعبيرية مع إحياء الذكرى سنوياً، بعد تعويضات وإعادة إعمار ومظلومية مُكرّسة، يمكن أن تكفي. وهذا ما لم يحظ به ضحايا انفجار المرفأ وأهلهم والمتضررون، مفتقدو العدالة والعُزَّل من حامل قوي وقادر لقضيتهم، بما يتعدي التعاطف اللفظي والأدبيات الممجوجة الفارغة، إلى حركية قانونية وإنسانية واقتصادية... وبذلك، يبدو المصابون بمأساة المرفأ هدفاً مستمراً منذ عامين، لسِهام متعددة المصادر تزيد آلامهم آلاماً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها